أكد الغزو الروسي لأوكرانيا ولا يزال يؤكد ما كان واضحاً منذ فترة طويلة، من أن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية القائم على احترام القواعد والقوانين بات على شفا الانهيار. ويرجع ذلك عدم رضا روسيا أن تكون طرفاً مسؤولاً في نظام أنشأته دول أخرى، وكذلك الصين التي لم تتوانَ عن دعم عدوان موسكو [على أوكرانيا]. يظهر أن الدولتين كلتيهما ترغبان في إعادة صياغة النظام العالمي بطريقة تخدم مصالحهما الاستبدادية. وقد لاحظ ذلك الرئيس الأميركي جو بايدن في وارسو في مارس (آذار) الماضي، إذ صرح بأن الغرب ينخرط حاضراً في “معركة شعواء بين الديمقراطية والاستبداد، بين الحرية والقمع، وبين نظام مستند إلى الأحكام والقواعد، وآخر تحكمه قوة غاشمة”.
ولكن لم يكن يفترض بمسار التاريخ أن يسلك هذا المنحى. ففي الأيام الزاهية التي تلت “الحرب الباردة” [فترة من المواجهة بين الغرب بقيادة أميركا والاتحاد السوفياتي وحلفائه، شهدها النصف الثاني من القرن العشرين]، بدا النظام العالمي راسخاً لا يشق له غبار. واعتقدت واشنطن أن سيادتها التي لا يرقى إليها الشك تسمح لها بتحديد مستقبل شعبها وشعوب الدول الأخرى. كذلك ظن حلفاؤها أنهم أنقذوا أنفسهم من مأساة سياسات القوى العظمى ودخلوا عصر الأحكام والقواعد التي تشق بنفسها طريقها إلى التنفيذ، لكن مع مرور الوقت، تآكلت عادات التعاون المتبادل وتناثر الشعور بالهدف المشترك. وعوضاً عن انتهاز فرصة الهيمنة الأميركية من أجل توطيد النظام المستند إلى الأحكام والقواعد وتعزيزه، سحب الغرب يده من هذا النظام وتركه لحال سبيله حتى خبا.
وحاضراً، ثمة فرصة سانحة أمام واشنطن وحلفائها في تصحيح هذا الخطأ. إن سوء التقدير التاريخي الجسيم الذي ارتكبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حينما قرر المضي قدماً بغزو أوكرانيا، ذكر دول الغرب بمصالحها وقيمها المشتركة، إضافة إلى أهمية العمل الجماعي كذلك. ولذا، جاءت استجابتها للغزو على شكل وحدة صف لم يشهدها العالم منذ ذروة “الحرب الباردة”، إذ فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات غير مسبوقة على موسكو، وحررت نفسها من مصادر الطاقة الروسية وشحنت كميات هائلة من الأسلحة إلى أوكرانيا، لكن هذه الوحدة المفاجئة قد لا تدوم طويلاً. ومع تزايد التبعات الاقتصادية المؤلمة للعقوبات وتحول الحرب إلى معركة الاستنزاف المطولة التي توقعها مسؤولو الاستخبارات، قد تبدأ المخاوف الداخلية وغيرها في زرع الانقسامات بين صفوف الدول الغربية.
وفيما ينكب الغرب على إدارة هذه الخلافات، من المهم للغاية أن يحول وحدته المكتشفة حديثاً إلى جهد أوسع لإنقاذ النظام المستند إلى الأحكام والقواعد. وتتمثل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه بإنشاء منظمة جديدة تحت اسم “مجموعة الـ12” G-12، تجمع الولايات المتحدة مع حلفائها الرئيسين في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية حول مصلحة حيوية واحدة تتمثل في الحفاظ على النظام، من منطلق أنه لا يمكن لأي من هؤلاء تحقيق هذه المصلحة بمفرده. في المقابل، لن يكون ذلك التعاون الرسمي كافياً وحده. وسيتوجب على الولايات المتحدة وحلفائها اتخاذ الخطوة الثانية للتعلم من الأخطاء التي ارتكبوها على مدى العقود الثلاثة الماضية. من الجانب الأميركي، سيكون على واشنطن الحد من ميلها إلى الأحادية، ناهيك بالإصغاء والتحدث والأخذ والعطاء. كذلك سيتوجب على كل حليف في الجانبين الآسيوي والأوروبي، تحمل مزيد من المسؤولية والتغلب على ميله إلى التصرف المنفرد.
في المقابل، إذا قرر الغرب التمسك بأساليبه القديمة، فإنه سيفسد شيئاً نادراً جداً في السياسة الدولية، ألا وهو حدوث فرصة ثانية. وإذا لم يجرِ اغتنام الفرص والتعلم من الأخطاء والعمل الجماعي، فسوف لن يكون في مقدور الغرب إعادة بناء نظام دولي يعزز سيادة القانون بدلاً من شريعة الغاب.
يا له من هدر
صحيح أن الولايات المتحدة خرجت منتصرةً من “الحرب الباردة”، لكنها سرعان ما أهدرت فرصتها الاستثنائية لتحويل لحظة الأحادية القطبية تلك إلى شيء أكثر ديمومة يستمر إلى ما بعد حقبة الاتحاد السوفياتي، ويوحد أوروبا، ويحفز توسعاً تاريخياً للاقتصاد العالمي. أولم يكن الانتصار الاستراتيجي والأيديولوجي هو الذي مهد الطريق أمام الغرب في توسيع وترسيخ النظام المستند إلى الأحكام والقواعد المتعلقة بالأمن الجماعي والأسواق المفتوحة واحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون؟ نعم، لقد كان الأمر كذلك. ففي أوائل تسعينيات القرن العشرين، كانت الديمقراطية في أوج انتشارها والأسواق الحرة في بداية ظهورها. ولم يكن أمام الأعداء القدامى كروسيا، ولا حتى المنافسين المستقبليين المحتملين كالصين، سوى خيار واحد يتمثل في تقبل التدفق الحر لرأس المال والسلع والأفكار والأشخاص، بغية ضمان عدم التخلف عن الركب في وقت يميل فيه التعاون والمصالحة لأن يكونا بديلاً من المنافسة والصراع، كسمتين مميزتين في السياسة العالمية.
لكن رياح الحوادث لم تجرِ بما تشتهيه السفن الأميركية. فمن فرط اعتداد الولايات المتحدة بنفسها، اعتقدت أن دورها “كسلطة وحيدة لا غنى عنها” في العالم يعطيها الحق في تسريع التاريخ. وكانت النتيجة أن أطلقت سلسلة من التدخلات العسكرية باسم الاستقرار والديمقراطية متسببةً في الغالب بمزيد من الفوضى والبؤس، لا بمزيد من الأمن والثروات. وحتى حينما أعلنت عن انتهاجها نظاماً يستند إلى الأحكام والقواعد لم يتغير حالها كثيراً. ويرجع السبب في ذلك إلى تجاهلها بشكل منتظم الأحكام والقواعد التي لا تروق لها. وقد حدث ذلك حينما تدخلت في كوسوفو عام 1999 والعراق عام 2003، على الرغم من فشلها في الحصول على تفويض من الأمم المتحدة، أو حينما استخدمت تعذيب المعتقلين أثناء حربها على الإرهاب، إضافة إلى رفضها المشاركة في اتفاقات تعاونية جديدة في شأن التجارب النووية ونزع السلاح ومحاكمة جرائم الحرب وتنظيم التجارة في منطقة آسيا والهادئ، خشية أن تقوض حرية المناورة لديها. وقد عمدت واشنطن إلى تبرير كل تدخل وكل قرار تتخذه، اقتناعاً منها بنقاء دوافعها وصدقيتها. وقد عبرت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت عن ذلك عام 1998 حينما صرحت، “نحن نقف شامخين ونرى ما هو أبعد من البلدان الأخرى في المستقبل”، لكن لم يلمس الأصدقاء والحلفاء على حد واحد وسواء، في كلامها القوة والنزاهة، إنما الغطرسة والنفاق.
ولم تكن واشنطن الوحيدة التي فشلت في الاستفادة إلى أقصى حد من اللحظة التي نشأت عن انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد كان لحلفائها الأوروبيين أوهامهم الخاصة أيضاً، إذ اعتقدوا أن نهاية انقسامات “الحرب الباردة” في القارة تجسد نهاية الصراع، وكذلك اعتبروا أنفسهم دولاً ما بعد حداثية قادرة على الاستناد إلى التعاون والمؤسسات الدولية المتعددة الأطراف، من أجل الحفاظ على السلام. وعلى الرغم من إدراكهم حجم التهديدات التي يطرحها الإرهاب والانتشار النووي، فقد اتفقوا على السماح لواشنطن بالتكفل بإيجاد حلول لمثل تلك المشكلات، مفترضين أن المشاركة الاقتصادية ونزع السلاح والحوار ستحول روسيا إلى شريك، وأن حاجة الصين للوصول إلى أسواقهم وتقنياتهم ستجعل بكين طرفاً مسؤولاً في النظام المستند إلى الأحكام والقواعد، لكن بعد مرحلة بدا فيها كأن المنافسة بين القوى العظمى قد ذهبت إلى مزبلة التاريخ، أمست المصالح الاقتصادية المحرك الأكثر حسماً في السياسة الخارجية.
وفي ظل تسيد الغطرسة الأميركية والتمنيات الأوروبية تجاهل قادة العواصم الغربية الإشارات الدالة على أن المنافسة بين القوى العظمى لم تنتهِ بعد. ففي عام 2008، خاضت روسيا غزوةً على جورجيا، وبعدها بست سنوات، ضمت شبه جزيرة القرم إلى أراضيها وأوقدت شرارة تمرد انفصالي في الداخل الأوكراني، لكن لم تلقَ هذه الارتكابات سوى ردود فعل رمزية من الغرب، والأبعد من ذلك أنها دفعت بعدد من دول أوروبا إلى تعزيز اعتمادها على النفط والغاز الروسيين بدلاً من تقليله، بحجة أنه “لطالما كانت مصادر الطاقة الروسية الرخيصة الأساس الذي تنمو عليه القدرة التنافسية لصناعتنا”، وفق تعبير مارتن برودرمولر، المدير التنفيذي لإحدى الشركات الكيماوية في ألمانيا. ومن جهة أخرى، نفذت الصين أنشطة تجسس اقتصادي غير مسبوقة ومارست ضغوطاً متنوعة على شركائها التجاريين وطالبت ببحر الصين الجنوبي واعتقلت أكثر من مليون إيغوري وهشمت الديمقراطية في هونغ كونغ. وقد كلفت تلك السلسلة الطويلة من الاعتداءات بكين ما لا يزيد إلا قليلاً على توبيخ معتدل اللهجة. وقد تزايد اعتماد “وول ستريت” [بورصة المال والأعمال الأميركية] على الثروات الصينية، وكذلك عقدت الصين صفقة تجارية واستثمارية جديدة مع “الاتحاد الأوروبي” في 2020.
وبالتالي، أدت تلك التطورات مجتمعةً إلى تآكل تدريجي للسمات الأساسية التي يتميز بها النظام المستند إلى الأحكام والقواعد. إن قدرة القوى العظمى على استخدام القوة ضد جاراتها الأصغر من دون أن تعاقب، كشفت عن جوانب الضعف في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومؤسسات الأمن الجماعي الأخرى. وفي حين أدى انتشار الممارسات التجارية الزبائنية [بمعنى أنها تستند إلى الربح واكتساب مزيد من الزبائن والأسواق، من دون مراعاة مصالح نظام الأطراف المتعددة المستند إلى القواعد والأحكام]، إلى تسليط الضوء على الفجوات التي تشوب قواعد التجارة العالمية. كذلك عملت الاضطرابات الاقتصادية التي سببتها العولمة غير المقيدة، على إذكاء القومية الشعبوية وادعاءات الحكام المستبدين بأن الديمقراطية الليبرالية منحطة وقديمة، بالتالي حينما ضربت جائحة كورونا البشرية كلها، تحركت الدول لمواجهتها فرادى لا جماعة، أي وفق سياسة “كل بلد لنفسه” بدلاً من سياسة تضافر الجهود والعمل الجماعي ضد تهديد مشترك. بالمختصر المفيد، حينما ضربت جائحة كورونا البشرية ظهر أن النظام العالمي يتفكك.
واستطراداً، أيقظ الغزو الروسي لأوكرانيا الغرب من سباته. وجاءت المفاجأة الكبرى في أنه أسفر عن استجابة سريعة وواسعة الحجم والنطاق بقيادة واشنطن صدم بها القادة الغربيون وبوتين معاً. ومن جملة التدابير التي انطوت عليها الاستجابة الغربية، فرض عقوبات كاسحة على الاقتصاد الروسي ومسارعة أوروبا إلى خفض وارداتها من الطاقة الروسية، مع ما يمكن أن يتأتى عن مثل هذه الخطوة من تقويض لنفوذ موسكو. وإضافة إلى ذلك، سعى حلف “الناتو” إلى تعزيز وجوده في المنطقة الممتدة بين البلطيق والبحر الأسود، وأظهر استعداداً للترحيب بفنلندا والسويد كعضوين جديدين، وكذلك دعم أوكرانيا بشحنات أسلحة جديدة وأجهزة استخبارات غربية كي تتمكن من مقاومة جيش روسي أكبر من جيشها بكثير.
ولا شك أن الغرب سيسخر الجزء الأكبر من طاقاته الدبلوماسية لمواصلة توفير الدعم لأوكرانيا، لكن على نحو مماثل، من المهم أن يبحث القادة الغربيون أفكاراً أكثر طموحاً بغية وقف تداعي النظام المستند إلى الأحكام والقواعد. إن الخطأ الاستراتيجي الذي اقترفه بوتين يتمثل في إعطائه الديمقراطيات الغربية فرصة لتضميد الجراح التي ألحقتها بنفسها منذ ثلاثة عقود، يكفي أنه ذكرها بمصالحها المشتركة وقوة وحدتها.
نحن أفضل حينما نكون معاً
تتمثل الخطوة الأولى [لبناء نظام عالمي أفضل] في إضفاء الطابع المؤسساتي على التعاون الذي بزغ في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. وبغية إنجاز تلك الخطوة، ليس هناك طريقة أفضل من أن تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها الديمقراطيون المتقدمون في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية، على إنشاء “مجموعة الـ12” كي تضم أعضاء “مجموعة الدول السبع” الحاليين (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، إضافة إلى أستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية و”الاتحاد الأوروبي”، على أن يكون لحلف “الناتو” مقعد دائم على طاولة مناقشاتها المتصلة بالأمن.
بالتالي، من المستطاع القول إن إنشاء “مجموعة الـ12” يجسد الأمل الأفضل والأخير في إنعاش النظام المستند إلى الأحكام والقواعد. ويرجع ذلك إلى أن الجهات المرشحة لعضوية تلك المجموعة، من الدول والمؤسسات، تمتلك الأهلية والرغبة والقدرة على العمل الجماعي من أجل تحقيق هذه الغاية، نظراً إلى احتضانها زهاء مليار شخص وأكثر من 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي والإنفاق العسكري. وصحيح أن الصين وروسيا معاً أكثر تعداداً للسكان، إلا أنهما لا تشكلان سوى 20 في المئة من الناتج الاقتصادي العالمي و17 في المئة من إنفاقه العسكري. وقد تبين من ردود فعل الأعضاء المرشحة [لعضوية مجموعة الـ12] إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا أنها مدركة وواعية تماماً بأن أمنها وازدهارها يعتمدان على إيجاد طرق ناجعة في تفادي العودة إلى عالم تحل فيه القوة الغاشمة محل سيادة القانون. واستكمالاً، من المستطاع إرجاع سرعة استجابتها ضد روسيا، إلى تاريخها الحافل بالعمل جنباً إلى جنب على مجموعة متنوعة من القضايا، سواء عبر العلاقات الثنائية أو المنتديات المتعددة الأطراف.
وحتى الآن، غفلت الدول الغربية عن مسألة عقد العزم على العمل معاً كمجموعة أو لتحقيق غرض محدد يتمثل في تعزيز النظام العالمي، بالتالي يفترض أن إنشاء “مجموعة الـ12″ سيتكفل بتصحيح هذا الإغفال. فعلى النقيض من المنظمات الفضفاضة، كـ”مجموعة السبع” التي اعتادت التعامل مع القضايا العالمية بصورة عشوائية، ستلتزم دول “مجموعة الـ12” ومؤسساتها بتحديد التحديات العالمية وتقييم الاستجابات المتاحة وتنسيق أنشطة الاستجابة. وكذلك لن يكون التزامها هذا مبنياً على ميثاق رسمي أو هيكل رسمي أو أمانة، إنما على تعهد مشترك في ما بينها بإرساء مشاركتها في الخارج على أساس مبدأ التعاون والتنسيق في سبيل تحقيق الأهداف والحفاظ على النظام المستند إلى الأحكام والقواعد. وفي إطار المنظمة المرتقبة، سيجتمع رؤساء الدول الأعضاء مرتين في السنة في الأقل، فيما سيعقد وزراء الخارجية والدفاع والاقتصاد اجتماعاتهم على نحو أكثر تواتراً، على طريقة عمل مجلس “الاتحاد الأوروبي” في إدارة مروحة واسعة من القضايا.
واستطراداً، سيبدأ التنسيق السياسي في إطار السياسة الخارجية. وكخطوة أولى في هذا الاتجاه، سيكون على أعضاء “مجموعة الـ12” التكاتف في إحباط الانتقام الروسي، والتنافس مع الصين، والحد من انتشار الأسلحة النووية، ومكافحة الإرهاب، ومواجهة الأوبئة، والتخفيف من آثار تغير المناخ. يضاف إلى ذلك، تكريس عمليات التنسيق التي تلت الغزو [الروسي لأوكرانيا]، داخل الأمم المتحدة ومجموعة الدول الصناعية السبع وحلف “الناتو”، بوصفها [العمليات] معياراً تستند إليه “مجموعة الـ12″ ويكون قوامه التكاتف مع الأمم المتحدة و”منظمة التجارة العالمية” والمؤسسات المالية الدولية وسواها من المنظمات الدولية، سعياً إلى الخروج بمواقف مشتركة وإجراءات منسقة في شأن القضايا الحاسمة.
وفي الفضاء الاقتصادي، سيكون على “مجموعة الـ12” التنسيق في ما بينها في شأن التجارة والاستثمارات وضوابط التصدير والتجارة الرقمية وغيرها من القضايا الاقتصادية الحساسة، إذ وطدت جائحة كورونا والحرب الأوكرانية النزعة القومية الاقتصادية والحمائية، وعطلتا الحركة التجارية وزعزعتا سلاسل الإمدادات، الأمر الذي أفضى إلى تباطؤ في وتيرة النمو وارتفاع في معدلات التضخم. ومع تنامي المخاوف الأمنية في شأن الملكية الفكرية والتقنيات الحيوية، اشتدت القيود على التجارة، لا سيما التجارة مع خصوم الولايات المتحدة وفي طليعتهم، الصين وروسيا.
واستناداً إلى تلك المعطيات، سيكون على “مجموعة الـ12″ الاضطلاع بدور المحرك للتعاون الاقتصادي والنمو من جهة والكابح لمحاولات الانكفاء من جهة أخرى. وتكمن الخطوة الأولى الحاسمة في هذا الشأن في انضمام المملكة المتحدة والولايات المتحدة و”الاتحاد الأوروبي” إلى “اتفاق الشراكة الشاملة والتدريجية عبر المحيط الهادئ” التي تضم بالفعل كندا ودولاً آسيوية مرشحة لعضوية “مجموعة الـ12”. وسيلي ذلك، استئناف الولايات المتحدة وأوروبا المفاوضات الرامية إلى إحياء تحالف التجارة والاستثمار بما يضمن استكمال الاتفاقات الثنائية المعقودة بين “الاتحاد الأوروبي” وأستراليا وكندا واليابان. بالتزامن مع ذلك، سيكون على “مجموعة الـ12” تنسيق سياساتها في شأن ضوابط التصدير والاستثمار الأجنبي بغية ضمان تفوقها التنافسي على الصين. وسيكون عليها كذلك توحيد سلاسل الإمدادات للسلع الحيوية، كأشباه الموصلات والروبوتات والذكاء الاصطناعي والمعادن الأرضية النادرة، ضمن نطاق العالم الغربي.
وفي الشق الأمني، ستظل الولايات المتحدة متقدمة على أقرانها في “مجموعة الـ12″، إذ إنها وحدها التي تمتلك جيشاً له امتداد عالمي حقيقي، ولا يهم بعد ذلك إذا أنفقت جهات أخرى مزيداً من الأموال على الدفاع إيفاءً بالوعود التي قطعتها عقب الغزو الروسي لأوكرانيا. ونقصد بتلك الجهات اليابان التي تبحث حالياً في إمكانية مضاعفة نفقاتها العسكرية على مدى السنوات القليلة المقبلة، وألمانيا التي رفعت مستواها إلى ثالث أكبر منفق عسكري في العالم باتخاذها قرار زيادة ميزانيتها الدفاعية. يذكر أن تلك الأموال الإضافية ستعزز نفقات الغرب السنوية على الدفاع بنحو 150 مليار دولار، وستجعل من ألمانيا واليابان شريكتين أمنيتين أكثر فاعلية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وفي ما يتعلق بالقنوات الرئيسة في تعزيز القدرات الدفاعية لأعضاء “مجموعة الـ12″، فستبقى على ما هي عليه، بمعنى أن تكون عبارة عن ترتيبات دفاعية من خلال حلف “الناتو” واتفاقات ثنائية مع الولايات المتحدة، إلى جانب تنسيق أكبر في صفوف “الاتحاد الأوروبي”، ومنتدى مفيد بقيادة “مجموعة الـ12” يهدف إلى تحريك تلك الجهود والتأكد من أن السياسات الأمنية عبر المحيطين الأطلسي والهادئ أكثر اتساقاً من حالها حاضراً. فمن شأن زيادة القدرات العسكرية وتعزيز عمليات التنسيق أن يحسنا بشكل كبير فرص ردع، وإذا لزم الأمر، إحباط أي عدوان آخر من روسيا أو الصين أو دول أخرى.
وعلى الرغم من أهمية التعاون الرسمي، سيتوقف نجاح “مجموعة الـ12” على تخلي الولايات المتحدة وحلفائها عن العادات السيئة التي اكتسبوها منذ نهاية “الحرب الباردة”. فغالباً ما تصرفت واشنطن بصورة منفردة، اعتقاداً منها أن القيادة تعني تقرير الأشياء التي يتوجب فعلها، ثم إلزام الآخرين باتباع ذلك. وكثيراً ما اتخذت المشاورات شكل إبلاغ بالقرارات التي اتخذت بالفعل، بدلاً من الاتفاق على مواقف جديدة. وقد ظهر هذا النوع من السلوكيات جلياً في قرارات إدارة ترمب الخروج من “اتفاق باريس في شأن تغير المناخ” والاتفاق النووي الإيراني، وقرار إدارة بايدن استعجال سحب القوات الأميركية من أفغانستان. وفي مقابل ذلك، كثيراً ما تنصل حلفاء الولايات المتحدة من تحمل مسؤولية القرارات الصعبة، وركنوا إلى التعهدات الأمنية الأميركية، ما جعل قوتهم الصلبة تتضاءل باستمرار. ولأن الحال كذلك، ينبغي على “مجموعة الـ12” المرتقبة أن تكون شراكة متكافئة تأخذ في الحسبان الطرق التي طالما نادى أعضاؤها بها، مع نهوض الأعضاء الآسيويين والأوروبيين بالقدر التمثيلي الأكبر، وتقاسمهم مزيداً من عمليات صنع القرار مع الولايات المتحدة. وإذا كانت [مجموعة الـ12] ستحذو حذو حلف “الناتو” و”الاتحاد الأوروبي”، فتستغرق وقتاً طويلاً في إبرام الاتفاقات، لا سيما بوجود صدام في المصالح، فالأجدر أن تكون كسائر المؤسسات وتبني قوتها على قدرتها على العمل الجماعي، وهو ما اكتشفته روسيا الآن بعد أن دفعت ثمنه غالياً عبر تعرضها للمخاطر.
التحقق من الواقع
تقدم “مجموعة الـ12” أفضل فرصة في حشد موارد أقوى الديمقراطيات وأكثرها تقدماً في العالم تحت لواء الدفاع عن النظام المستند إلى الأحكام والقواعد، لكن من باب الإنصاف، يتوجب عما إذا كان إنشاء “مجموعة الـ12” سيوسع الفجوة بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية، ويؤجج التوترات الحالية، ويزيد صعوبة صوغ الحلول اللازمة للتحديات التي يواجهها العالم عموماً، والغرب خصوصاً. ولا ريب في أنه سينظر إلى “مجموعة الـ12” على أنها وسيلة صريحة في التصدي للنفوذين الصيني والروسي. ورداً عليها، لن تقف بكين وموسكو مكتوفتي اليدين، بل ستضاعفان جهودهما في تقويض النظام المستند إلى الأحكام والقواعد، والعمل على ضم دول أخرى إلى معسكرهما.
وخلف هذا القلق الكبير من تعميق الانقسامات، تستتر نقطة حرجة مفادها أن الديمقراطيات الغربية عالقة بالفعل في دوامة صراعات مع الحكومات الاستبدادية حول القيم التي سيسترشد النظام العالمي بها، إذ لا تتطلع الصين ولا روسيا إلى تحسين الترتيبات الدولية الموجودة حاضراً. ويضاف إلى ذلك أنهما قوتان تعديليتان تتنافسان في إطار معايير ومؤسسات نظام ما بعد الحرب [العالمية الثانية، التي تلاها ترسيخ النظام الدولي المتعدد الأطراف المستند إلى الأحكام والقواعد]، وترغب كلتاهما في العودة إلى عصر سياسات القوى العظمى كي تكون لهما حرية السيطرة على جيرانهما. ولطالما ترددت الديمقراطيات الغربية في الاعتراف بالتحديات التي تثيرها الدولتان كلتاهما، على أمل أن تقنع المشاركة بكين وموسكو بالعمل معها [الديمقراطيات الغربية] لا ضدها، لكن الغزو الروسي لأوكرانيا، بتأييد رسمي كامل من الصين، أوضح بجلاء أن الشراكة الصينية – الروسية تتجه نحو المواجهة حول كل ما يمثله الغرب، والنظام العالمي المستند إلى الأحكام والقواعد.
واستكمالاً، لن يكون تشكيل “مجموعة الـ12” الرادع الذي سيمنع الغرب من التعامل مع الصين أو روسيا، إذ يعلم الكل أن الجهود المبذولة في سبيل الحد من تغير المناخ والوقاية من الأوبئة بحاجة إلى كل ذرة تعاون بين القوى الكبرى، مع العلم أن الصين وروسيا لم تكونا يوماً متعاونتين في هاتين القضيتين، حتى في الوقت الذي قلل فيه الغرب من أهمية التخويف الاقتصادي الصيني، وتجاهل النزعة العدوانية الروسية. ولطالما عبرت بكين وموسكو عن استعدادهما لتقديم تنازلات تخدم مصالحهما الذاتية ولا تقيم وزناً لحسن النية. في المقابل، مع حشد موارد أقوى ديمقراطيات العالم ضمن “مجموعة الـ12″، ستكون للغرب حتماً فرصة ممارسة دبلوماسيته مع البلدين كليهما من موقع قوة.
وبالتالي، ينبغي أن تتبع “مجموعة الـ12” تجاه الصين وروسيا والأنظمة الاستبدادية الأخرى نهجاً مماثلاً للوصف الذي قدمه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين عن نهج إدارة بايدن تجاه الصين، بأنه “تنافسي عند الحاجة، وتعاوني عند الإمكان، وخصامي عند الضرورة”. وكي تتمكن “مجموعة الـ12” من تحقيق هذا النهج، سيكون عليها أن تكشف عن الأهداف التي تسعى إليها وتلك التي تحارب ضدها. فالأكيد أنها لن تتوخى السيطرة على الصين أو روسيا، أو تحويلهما، أو دول أخرى، إلى ديمقراطيات غربية، بل ستدافع عن المبادئ الأساسية لنظام ما بعد الحرب [العالمية الثانية] التي تشمل احترام سيادة الدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء، والتقيد بسيادة القانون، ودعم مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، والالتزام بالتسوية السلمية للنزاعات.
الانقسام الديمقراطي
لربما تتشاطر الديمقراطيات الغربية الالتزام بالقيم الليبرالية، لكن سيبقى لكل منها دائماً مصالحه الخاصة. وهذه حقيقة لا مناص منها. وقد انعكست بوضوح في رد فعل الغرب إزاء غزو أوكرانيا، مع تفاوت حماسة حلفاء الولايات المتحدة في شأن خفض صادرات الطاقة الروسية وتزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة. وفي ما يتعلق بصياغة السياسات المشتركة، فإنها لن تزداد صعوبةً إلا إذا تحولت المسألة من التهديدات الوجودية إلى الخيارات الأكثر واقعية حول سياسات التجارة أو التكنولوجيا.
وكذلك فمن المهم بالقدر نفسه ملاحظة أن الديمقراطيات غير الغربية لم توحد صفوفها ضد العدوان الروسي، إذ رفضت البرازيل والهند وجنوب أفريقيا وغيرها من ديمقراطيات الأميركيتين وآسيا وأفريقيا، إدانة المس بسيادة أوكرانيا وأحجمت عن دعم العقوبات ضد روسيا، وفي مناسبات قليلة، حاولت استغلال الحرب لمنفعتها الشخصية. وبتصرفها على ذلك النحو، مهدت لعودة ما يشبه “حركة عدم الانحياز” [تجمع من دول حاولت ألا تكون منحازة إلى أحد المعسكرين المتنازعين في منتصف القرن العشرين، أي الغرب والاتحاد السوفياتي] التي ظهرت إبان “الحرب الباردة” كي تعبر عن مزيج معقد من المصالح الخاصة والتعاطف والاستياء التاريخيين والانشغال بمشكلات أكثر إلحاحاً أقرب إلى الوطن. ولا يفترض بأي من تلك الأشياء أن يكون مفاجئاً، فالديمقراطيات أولاً وأخيراً غير محصنة ضد قصر النظر أو الضغائن أو التلاعب بجهتين متعارضتين من أجل مصلحتها.
وبالتالي، إذا تعذر افتراض حدوث التعاون الديمقراطي، فإن صياغته ممكنة حتماً. ويأتي الدليل على ذلك من امتلاك الديمقراطيات الغربية، على الرغم من إخفاقاتها وعثراتها، سجلاً راسخاً في بناء ترتيبات تعاونية ناجحة، وتفوقها على الأنظمة الاستبدادية عموماً لمجرد اعتمادها على تفاعلات تذهب إلى أبعد من المعاملات، والتزامها المشترك بسيادة القانون الذي يسمح لكل طرف من أطرافها بالوثوق في الآخر. واستناداً إلى ذلك، ظهر التزام الولايات المتحدة بترتيبات أمنية رسمية مع أكثر من 50 حليفاً، في الوقت الذي لا يتعدى فيه حلفاء روسيا خمس دول، فيما لا تثق الصين سوى بحليف واحد هو كوريا الشمالية.
وللاستفادة من هذا النجاح، سيكون من الأفضل بصورة مثالية أن تركز “مجموعة الـ12” على بناء جسور التضامن مع ديمقراطيات “الجنوب العالمي” التي ستمنى بالخسارة الكبرى إذا ما أعادت الصين وروسيا رسم شكل النظام العالمي وطبيعته وفقاً لتصورهما الخاص، إذ لا تنظر بكين ولا موسكو إلى القوى الأصغر حجماً على أنها مساوية لهما في السيادة، وكذلك تعتبران أن تلك الدول مجرد كيانات يجوز استغلالها والتلاعب بها. واعترافاً بهذا الواقع، ضمت كينيا وسنغافورة وديمقراطيات غير غربية أخرى صوتها إلى الغرب، في إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا.
والمعروف عن الديمقراطيات الغربية أنها تقدم الكثير جداً للديمقراطيات الأخرى. بدايةً، يبلغ الناتج الاقتصادي المشترك لدول “مجموعة الـ12” ثلاثة أضعاف الناتج الاقتصادي للصين وروسيا مجتمعتين. وإذا عمل الغرب بشكل وثيق مع الديمقراطيات غير الغربية، فالأرجح أن يعثر لنفسه على شركاء أكثر استعداداً لتبني جميع مساعيه الدبلوماسية.
وإذا حدث ذلك، سيكون على “مجموعة الـ12” الالتزام بالقواعد التي تود من الآخرين اتباعها، بأسلوب لم تعتد عليه الولايات المتحدة أو حلفاؤها. ثمة أمثلة كثيرة يضربها النقاد عن حق على النفاق الغربي، ويأتي في طليعتها الغزو الأميركي للعراق. وتشكل تلك الأمثلة بمجموعها خير إثبات على أن مقولة “افعل مثلما نقول وليس ما نفعل” أساس ضعيف في بناء التعاون. إلى ذلك، من المهم بالقدر نفسه أن تتطلع “مجموعة الـ12” إلى مصالحها من منظار واسع وتقر بأن محاولتها إرغام النظم الديمقراطية الشبيهة بها، على مجاراتها يشكل استراتيجية خاسرة. ومن الأفضل لها بكثير تسليط الضوء على المنافع الحقيقية، الاقتصادية وغير الاقتصادية، المتأتية من التعاون النشط مع “مجموعة الـ12″، بدلاً من الضغط على الديمقراطيات الأخرى للسير على خطاها كالعميان.
وفيما يدأب الغرب على تجاوز الانقسامات بين الديمقراطيات، ينبغي ألا يغفل عن الانقسامات السياسية في الداخل. ففي الولايات المتحدة وأماكن أخرى، تعد القومية الشعبوية قوةً سياسية دافعة وراء تعزيز السياسات الخارجية التي تشكك في نيات الآخرين وتشجع العمل الأحادي على حساب التسوية والتعاون. وحتى الآن، يتمثل الخبر الجيد للغاية في أن اعتداء روسيا على أوكرانيا أيقظ الرأي العالم الغربي من غيبوبته. وجاءت النتيجة بأن تبنت الغالبية الساحقة من الألمان تفسير المستشار أولاف شولتز للحرب ووصفها بـ”نقطة التحول التاريخية” التي ستدفع بألمانيا إلى أخذ مسائل الأمن العسكري بجدية أكبر. وعلى غرار ذلك، جاء دعم شريحة كبيرة من الفنلنديين والسويديين عضوية بلديهما لحلف “الناتو”، وتأييد الأميركيين الخطوات التي اتخذتها إدارة بايدن لمساعدة أوكرانيا، سواء من طريق الاستطلاع الذي أجراه “مركز بيو للأبحاث” في مارس 2022 وبين أن خمسة أضعاف عدد المستجيبين يوافقون على مد كييف بمزيد من المساعدات ويتفقون على أنها [إدارة بايدن] تقدم كثيراً من الدعم، أو من طريق الكونغرس الذي لم يألُ جهداً في الاحتشاد وراء تأييد أوكرانيا.
في المقابل، ثمة بوادر مثيرة للقلق. فبعد الفوز الساحق لرئيس الوزراء فيكتور أوربان في الانتخابات البرلمانية المجرية في مارس 2022 والأداء القوي للسياسية مارين لوبن في السباق الرئاسي الفرنسي، اتضح أن الولع ببوتين لا يؤدي إلى إقصاء تلقائي من السياسة الأوروبية. والأسوأ من ذلك أنه ثمة احتمال كبير لتولي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الذي اعتبر بوتين “عبقرياً” ووصفه بـ”الداهية” و”الذكي” بعد أن شنت روسيا غزوها على أوكرانيا، أو أي شخص آخر يشاطر ترمب ولعه بالحكام المستبدين، زمام السلطة في الولايات المتحدة في يناير (كانون الثاني) 2025، لكن هل يمكن لـ”مجموعة الـ12″ أن تنجح من دون مشاركة نشطة للولايات المتحدة؟ أوليس ترمب من بذل الغالي والنفيس، حينما وقف على رأس الدولة، في سبيل تحطيم النظام العالمي المستند إلى الأحكام والقواعد الذي تتمسك به المنظمة المرتقبة؟
وتأتي الإجابة بنعم، لقد كان هو [ترمب] من فعل ذلك. وعلى الرغم من ذلك، حينما قصفت القوات الروسية العاصمة كييف بالصواريخ، تداعت محاولات أوربان الاستفادة من استياء “الاتحاد الأوروبي” لتشكيل تحالف مع تشيكيا وبولندا وسلوفاكيا، واعتبرت استجابة دول “الناتو” للغزو بمثابة الرد المنتظر على شكوى ترمب من عدم بذل أعضاء الحلف الآخرين ما يكفي من الجهود للدفاع [إشارة إلى أن ترمب، خصوصاً في أواخر ولايته، دأب على الشكوى من قلة مساهمة الحلفاء الأوروبيين في التكاليف المالية لحلف الناتو]. وفي النهاية، تبين في استطلاع أجراه مجلس شيكاغو عام 2021، أن الأميركيين يفضلون، بنسبة ثلاثة إلى واحد، أن تتشارك واشنطن القيادة مع الآخرين بدلاً من محاولة السيطرة عليهم.
فرصة ثانية
يمكن للمخاوف العامة من إمكانية أن يسهم ترمب، أو في الأقل ميله إلى “أميركا أولاً”، في حرف “مجموعة الـ12” عن مسارها، أن تعطي هذه الأخيرة [المجموعة] سبباً للمضي قدماً بحذر. فمن جهة، لا يمكن أن تمهد “مجموعة الـ12” لعودة “سلام القوة الأميركية”، إذ يتمثل الهدف من تأسيس تلك المجموعة في تقاسم المسؤوليات والأعباء بين الديمقراطيات الغربية الأكثر تقدماً وعدم السماح لواشنطن بإملاء شروطها. ومن جهة أخرى، يفترض بـ”مجموعة الـ12” ترسيخ التعاون الاقتصادي بقدر مساوٍ لتعزيز التنسيق في المسائل الأمنية. واستطراداً، لا يشكل صعود القومية الشعبوية إلا انعكاساً لنتائج العولمة الجامحة التي فضلت الشركات الكبرى على العمال، ورأس المال على العمالة، وتركت وراءها عديداً من الناس لمصيرهم، بالتالي يمكن القول كذلك إن نجاح “مجموعة الـ12” يعتمد في نهاية الأمر على قدرتها في تحسين الظروف داخل الدول الأعضاء وخارجها، حتى لو ترجم ذلك نفسه في رفع الضرائب على الشركات، وتلافي الصفقات التجارية التي تنقل فرص العمل إلى الخارج، ومعالجة التفاوت المتزايد في المداخيل.
وإذا كان هناك من جانب إيجابي للعدوان المروع على أوكرانيا، فإنه يكمن في كونه يعطي الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين فرصةً ثانية لاستكمال ما فشلوا في تحقيقه بعد نهاية “الحرب الباردة”. ويقصد من ذلك إنعاش المؤسسات الدولية وترسيخ التعاون في شأن التهديدات العابرة للحدود، لكن هذه الفرصة لن تدوم إلى الأبد. ويتوجب على الغرب أن ينتهزها ويقاوم فكرة اعتبار العدوان على أوكرانيا حالةً استثنائية، وليس اتجاهاً سائداً. وفي هذا الصدد، يتعين على الولايات المتحدة أن تنضم إلى الأعضاء الأحد عشر الآخرين في “مجموعة الـ12” من أجل إحياء النظام العالمي المستند إلى الأحكام والقواعد. ويبقى أن الأمر الأهم يتمثل في ألا تفوت الديمقراطيات الغربية فرصتها الثانية لتصحيح الأمور.
*إيفو أتش دالدر، رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية” وعمل سفيراً للولايات المتحدة في حلف الناتو بين عامي 2009 و2013
** جيمس أم ليندسي، المدير ونائب الرئيس الأقدم لقسم الدراسات في “مجلس العلاقات الخارجية”
وقد وضع المؤلفان كتاب “العرش الفارغ، ابتعاد أميركا عن القيادة العالمية”
فورين آفيرز يوليو (تموز)/ أغسطس (آب) 2022
المصدر: اندبندنت عربية