من المرجح أن “الناتو الشرق أوسطي” الذي تحدث عنه ملك الأردن، قبل أيام، لن يُبصر النور، قريباً. بل ربما، مطلقاً. لكن ذاك الحديث كان مناسبة جديدة لرفع حساسية إيران تجاه احتمالات عزلها في المنطقة، إلى أقصاها، الأمر الذي يفسر الانفراجة الأخيرة في موقفها حيال استئناف التفاوض بخصوص ملفها النووي.
تستنسخ الولايات المتحدة الأميركية، نهجاً سبق أن اعتمدته مطلع السبعينيات، حينما كانت ما تزال غارقة في أوحال فيتنام وتريد ضمان أمن الخليج تحت سيطرتها. يومها، راهنت على دور نوعي لكل من إيران الشاه -حليفتها السابقة- والسعودية، لتحقيق أمن الخليج، برعايتها. وها هي واشنطن اليوم تسعى ذات المسعى، وتراهن على تحالف خليجي – عربي – إسرائيلي، لرعاية أمن الخليج والمنطقة، في حين تنشغل هي بهمومها الأكثر جدّية وفق منظورها، والمتمثلة بالخطرين الصيني والروسي. وهي لا تريد أن تترك الساحة “الشرق أوسطية” فارغة كي تملأ قوى أخرى مكانها. لكن معضلات مشابهة لتلك التي واجهتها مطلع السبعينيات، تواجهها اليوم في مسعاها الجديد. ففي ذاك التاريخ، كانت السعودية غير مرتاحة لنوايا إيران الشاه، التي أرادت أن تلعب دور “شرطي الخليج”، بصورة تتيح لها تحقيق طموحاتها الإمبراطورية القديمة، في المنطقة. فيما كانت طهران، يومها، غير مرتاحة لتراجع العزيمة الأميركية على حمايتها من التهديد السوفييتي، في وقتٍ كانت واشنطن تنتقل فيه من إستراتيجية “الاحتواء” إلى إستراتيجية “الوفاق” و”التعايش التنافسي” مع موسكو.
واليوم أيضاً، لا تبدو السعودية مرتاحة لتحالفٍ يُعنى برعاية أمنها، بقيادة أميركية. فالثقة السعودية بالعزيمة الأميركية على حماية الرياض، تعرضت لأكثر من اهتزاز في السنوات الأخيرة. كذلك، لا تبدو دول أخرى، مطروح اسمها ضمن التحالف الأمني المزمع نقاشه، في وارد التورط في تكتلات عسكرية ضد إيران، التي لا يرونها تهديداً مباشراً لأمنهم، كما في حالة مصر، مثلاً. في حين تبدو إسرائيل ذاتها، منقسمة على نفسها، بين قيادة عسكرية تحبذ العودة للاتفاق النووي مع إيران، لتأخير المُهل الزمنية المحتملة لحصولها على القنبلة النووية، مما يسمح لإسرائيل بالاستعداد لخيار عسكري، وبين قيادات سياسية وأمنية، لا تريد أن تكون شريكة في اتفاق سيئ جديد، كما في النسخة السابقة في العام 2015.
في واشنطن، يبدو “الناتو” المأمول في الشرق الأوسط، رؤية استراتيجية لدى بعض صنّاع القرار هناك. وهو ما يفسّر تقديم مشرّعين جمهوريين وديمقراطيين مشروع قانون يكلّف “البنتاغون” مهلة زمنية لتقديم إستراتيجية لدمج الدفاعات الجوية لعدد من الدول العربية مع إسرائيل. وهو ما تحدث عنه وزير الدفاع الإسرائيلي أيضاً، قبل أيام. ليتلو ذلك، تأييد العاهل الأردني لهذا الطرح، عبر قناة أميركية. لكن بالنسبة لمسؤولي إدارة الرئيس، جو بايدن، والتي تضم عدداً كبيراً من الساسة الميالين للتفاهم مع طهران، يبدو التلويح بتحالف عسكري في المنطقة، وسيلة لرفع حساسية الإيرانيين حيال عزلهم إقليمياً، مقابل دمج إسرائيل.
تاريخياً، لطالما كانت إيران تخشى من العزلة الإقليمية، وتطمح للهيمنة في المنطقة بالتفاهم مع واشنطن. الخشية والطموح يعودان إلى عصر الشاه. ولم يتغير الكثير بعد “الثورة الإسلامية”، إلا على مستوى الخطاب. ويمكن أن نستشهد على ذلك بتصريح مسؤول إيراني، نقلته شبكة “الجزيرة” قبل أيام، عبّر فيه عن سعي طهران لتحقيق اتفاق (نووي) قوي يتطلب اعتراف واشنطن بمصالح إيران القومية. الإشارة الأخيرة تتعلق بالنفوذ الإقليمي، الذي تريد طهران إقراراً أميركياً به، وتطبيعاً في المنطقة معه.
لكن مؤشرات تراجع النفوذ الروسي لصالح الإيراني، في سوريا، بسبب الحرب في أوكرانيا، شدّ وتر المخاوف لدى الأردن وإسرائيل وبعض دول الخليج، الأمر الذي جعل طهران تدرك أن الاستمرار في اتجاه التصعيد وحده، قد يدفع بالفعل إلى تكتل أمني – عسكري ضدها، في المنطقة. وهو ما يفسّر التنازل الإيراني الأخير عن شرط شطب “الحرس الثوري” من قوائم العقوبات الأميركية، وإبداء الاستعداد للعودة إلى طاولة المفاوضات بخصوص النووي الإيراني. وهو ما يفسّر أيضاً، تحرك رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي -الذي يرتبط بصلات جيدة مع طهران- على خط إحياء الوساطة بين إيران والسعودية. وبذلك تحاول طهران تخفيف مخاوف بعض الأطراف، كي تمنع حصول تكتل ضدها.
تلك المناورة الإيرانية، من المرجح أن تجد صداها لدى السعودية تحديداً، والتي يتحرك ولي عهدها قدماً، نحو تعزيز استقلالية سياسته الخارجية، عن الهيمنة الأميركية. وهو ما انعكس فيما رشح عن وسائل إعلام إسرائيلية، أن لا حلف “ناتو شرق أوسطي”، بل هي مجرد ترتيبات عسكرية ضمن إطار القيادة الوسطى الأميركية. وهو ما انعكس أيضاً، في إحاطات إعلامية أخيرة قدمها مستشارون للرئيس بايدن، أبدوا فيها تراجعاً في الحماسة حيال مناقشة التحالف العسكري مع دول عربية، كالسعودية، خلال الزيارة المرتقبة لـ بايدن إلى الخليج، في منتصف الشهر القادم.
وهكذا وُلد “الناتو الشرق أوسطي”، ميتاً. وفيما يبدو أن على الأردن مواجهة “حرب المخدرات” على حدوده الشمالية، وحده، لا يبدو في الوقت نفسه، أن تهديداً وجودياً قد يطول حكم العاهل الأردني، مما يجعل حصيلة طرح “الناتو”، “تكتيكية”، خدمت فقط مصالح مسؤولي إدارة بايدن الساعين لإعادة طهران إلى طاولة المفاوضات، لا أكثر.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا