لماذا اختار ولي العهد السعودي مصر والأردن وتركيا لجولته الخارجية التي تحمل مؤشّرات تدشين مرحلة جديدة من الدبلوماسية السعودية؟ لعل محطتَي القاهرة وعمّان تمثّلان امتداداً لجولة الأمير محمد بن سلمان على عواصم الخليج أواخر العام الماضي، التي مهّدت لقمة دول مجلس التعاون في الرياض، إذ إن البيانات المشتركة في الجولتين حرصت على تسجيل المواقف الموحّدة من مجمل القضايا العربية، لتكون بمثابة قواعد مرجعية للمفاهيم التي تنطلق منها الدول المعنية في مقاربة مختلف الأزمات، من سوريا إلى العراق ولبنان وليبيا والسودان واليمن، مع الحفاظ على “مركزية” القضية الفلسطينية ومقوّمات حلّها بإزالة الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك صوغ الثوابت العربية إزاء الإشكالية الإيرانية في المنطقة، ومن دون إغفال قضية سد النهضة الإثيوبي وانعكاسها على الأمن المائي المصري والسوداني…
وبما أن قمة جدّة منتصف تموز (يوليو) ستجمع قادة دول الخليج ومصر والأردن والعراق مع الرئيس الأميركي، فإن استباقها بجولة الأمير محمد أُريد به التنسيق المسبق الذي يُستكمل باستقبال رئيس الوزراء العراق في الرياض، لكنه استهدف أيضاً إزالة أي التباس أو تناقض أو حساسيات قد تكون طرأت خلال التعاطي مع بعض الملفات الثنائية أو المرتبطة بسياسات عامة. في الوقت نفسه كانت هناك إشارة قويّة إلى استعداد السعودية لدور ريادي، عربي وإقليمي، كان دائماً منتظراً ومتوقّعاً. ذاك أن مرحلة الضعف والتراجع والتشرذم طالت عربياً ولا بدّ من حراك يؤذن بالخروج منها.
في هذا السياق، جاءت محطة تركيا في جولة الأمير محمد، إذ يمكن أن يشكّل التطبيع السعودي معها، بعد التطبيع الإماراتي، وقبيل التطبيع المصري أيضاً، نموذجاً لعلاقات تعاون ومصالح بين الدول العربية الأساسية ودول الجوار الإقليمي، لكن ثمة شروطاً ومقوّمات لأي تطبيع كي تحقق الأطراف الأهداف التي تتوخّاها منه. وينبغي التذكير بأن قضية التعامل مع هذا الجوار طرحت نفسها في العقدين الأخيرين ولم يكن هناك توافق عربي على المعايير أو الوسائل المطلوبة للشروع بها، لكنها أصبحت ملحّة بعد تفجّر الانتفاضات الشعبية في عدد من البلدان العربية، وتحوّل بعضها إلى صراعات مسلحة مستعصية على الحلول السياسية، إذ أصبحت دول الجوار إمّا متدخلة مباشرة في تلك الصراعات أو أدوات تدخل لمصلحة دول كبرى، وفي كل الأحوال أظهرت دول الجوار ميولاً وأطماعاً “إمبراطورية” مستندة إلى تفوّق عسكري كإسرائيل، أو إلى أحقاد تاريخية كإيران، أو إلى استعادة أمجاد غابرة كتركيا.
في المقارنة بين الحالات الثلاث، تبدو الحال التركية قابلة للعقلنة والاختبار، خصوصاً أنها أجرت وتجري مراجعات لسلوكياتها ولمشاريع زعامة إقليمية ظنّتها معقودة لها اعتماداً على تيار الإسلام السياسي. ولا يزال مطلوباً أن توضح أدوارها في ليبيا وشمال سوريا كي تستقيم صورتها ويُوثّق بنياتها وتسهل التسويات معها.
أما الحالان الإيرانية والإسرائيلية فلا تزالان عدوانيتين من جهة، وبعيدتين من جهة أخرى من مواصفات أي تطبيع معهما، فلا “الحوار” يمكن أن يبدّل طبيعة المشروع الإيراني وأهدافه أو يفكّك ميليشياته، ولا نماذج التقارب مع إسرائيل غيّرت شيئاً من سعيها إلى ابتلاع كل الأراضي الفلسطينية، أو من اضطهادها وعنصريتها حيال الشعب الفلسطيني.
قبل التفاهم مع دول الجوار، كان واضحاً أن هناك ضرورة لتوحيد الرؤى العربية بالنسبة إلى سبع قضايا ساخنة، يمكن تلخيص المواقف منها في ثلاثة: 1) وحدة الأرض والمجتمع وسلامتهما، 2) إنهاض الدولة الوطنية حيثما تعرّضت للانهيار والحفاظ عليها حيثما توجد، كمنطلق للخروج من الأزمات والإقبال على التطوير والإصلاح، 3) دعم الحلول السياسية المستجيبة لتطلعات الشعوب من دون إملاءات خارجية… لا بدّ لهذه المبادئ من أن تسود لاستعادة الاستقرار المفقود والدولة المتصالحة مع شعبها، سواء في سوريا أم في العراق أم في لبنان، التي أنهكتها الصراعات وأخضعتها لواقع انقسامي جغرافي واجتماعي، أم في ليبيا التي تتداخل فيها الأجندات المحلية والخارجية وتهدّدها بالتفسّخ، أم أخيراً في السودان الذي فشلت فيه تجارب حكم العسكر وشهد أخيراً سقوط صيغة الشراكة بين المدنيين والعسكريين، لأن الأخيرين عاجزون عن العودة إلى ثكنهم وعن قبول الحلول الوسط.
وبالنظر إلى وجود فرصة تتمثّل بتلاقي الإرادات الدولية والأممية والخليجية، فمن الطبيعي أن يجري التركيز على أولوية إنهاء حرب اليمن ووضع الأزمة على سكّة الحلّ السياسي. وبديهي أنه لا يمكن أن يتأسس حلٌّ كهذا على مغامرات ميليشيا نشأت لخدمة مشروع إيراني وليس لديها أي مشروع لاستقرار اليمن، بل برهنت طوال ثمانية أعوام عداءها للشعب اليمني واستهدافها العدواني للجوار الخليجي، وللسعودية تحديداً. لذلك بات صون الأمن القومي العربي يمرّ بالضرورة بحسم واضح لأزمة اليمن، فكما حاول الانقلاب الحوثي جعلها تتويجاً لتوسّع النفوذ الإيراني، لا بد من تثبيتها انحساراً لهذا النفوذ الذي لم يبدُ منه سوى جانبه التخريبي.
وفي أي حال، لم يعد ممكناً عربياً التجاهل أو الاستهانة إزاء الخطر الإيراني، سواء لأنه لا يزال يوظّف ميليشياته في تعطيل الحلول السلمية الوطنية في أكثر من بلد عربي، أو لأنه يمثّل تحدّياً للأمن القومي العربي. وعلى رغم أن إيران ذهبت بعيداً في العسكرة والشحن المذهبيين كما في استخدام جماعات الإرهاب لاختراق المجتمعات، إلا أن المواقف الرسمية للحكومات العربية لا تزال في الإطار الدبلوماسي، كما عبّر عنها مثلاً البيان المشترك المصري – السعودي، إذ يتضامن من جهة مع الجهود الدولية لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، ويحثّها من جهة أخرى على التزام مبادئ “عدم التدخّل في شؤون الدول العربية”، و”الحفاظ على حسن الجوار”، و”تجنيب المنطقة الأنشطة المزعزعة للاستقرار، بما فيها دعم الميليشيات وتهديد الملاحة البحرية وخطوط التجارة الدولية”، علماً بأن طهران أسقطت كل هذه المبادئ من قاموسها.
قبيل قمة جدة لا بدّ من الإشارة إلى مفارقات يفترض أن يصار إلى توضيحها، لأن الجانب العربي بات يعرف كل المخاتلات الأميركية، بل أُتخم منها: أي صدقية لالتزامات دفاعية تتعهّدها واشنطن إذا كانت مقتنعة بضرورة إبقاء المنطقة العربية محاصرة إيرانياً وإسرائيلياً، وأي صدقية لاحترامها العلاقة مع العرب إذا كانت لا ترى أمنهم ومصالحهم إلا إذا كانت مرتبطة بأمن إسرائيل، وأي صدقية لـ”تطبيع” (مع إسرائيل) تدعو إليه واشنطن من دون أن يكون لديها أي مشروع لإنصاف الشعب الفلسطيني، وأي صدقية للحثّ على زيادة إنتاج الطاقة إذا كان الهدف خفض الأسعار وتصعيد الضغوط على روسيا؟.. وهذه كلّها مجرّد عيّنات.
المصدر: النهار العربي