قراءة في رواية: المشّاءة

أحمد العربي

 سمر يزبك روائية سورية متميزة، تنتمي للثورة السورية، كتبت الكثير من الروايات والشهادات عن سورية قبل الثورة التي حصلت في منتصف آذار ٢٠١١م وما بعدها، قرأت اغلبها وكتبت عنه.

المشّاءة، رواية أخرى تتحرك في فضاء الثورة السورية وتبعاتها، تعتمد أسلوب المتكلم، على لسان بطلة الرواية كاتبتها ريم، موجّهة إلى أحد ما، يمكننا القول أنها موجهة لنا نحن القراء، كل على حدى.

الرواية مكتوبة من فتاة يظهر أن لديها اعاقة فهي لا تتكلم، ولا تتوقف عن المشي حالما تُركت، لذلك وجدت نفسها منذ وعيها على الدنيا مربوطة بحبل في معصمها، طرف الحبل مربوط بمعصم امها او طرف سريرها او معصم اخيها سعد، أو شبه محبوسة في  مكتبة المدرسة التي تعمل امها فيها في الخدمة والتنظيف، او معصم حسن صديق اخيها، او مربوطة في أي مكان تواجدت فيه طوال فترة عيشها حتى نهاية الرواية.

الحدث الروائي يصل إلينا كقراء عبر عقل وتفكير وكتابة بطلة الرواية ريم. انها تعيش في عالمها الداخلي حيث تتعايش مع الحروف والكلمات والقراءة التي تعلمتها هي والكتابة على يد الست سعاد مديرة مكتبة المدرسة التي عملت بها امها. كما أنها قرأت القرآن وحفظته، ورتّلته وكان القرآن هو الوحيد ما تستطيع التكلم عبر قراءته، غير ذلك هي شبه بكماء. تتعايش مع الألوان والرسوم وحكايا الكتب الكثيرة التي قرأتها في مكتبة المدرسة قبل أن تتوقف عن الذهاب اليها بعد ان تطورت الأحداث التي تمنع امها من الذهاب الى المدرسة، وانقطع التواصل وأغلقت كثير من المدارس وأصبحت الحياة في المناطق المحررة شبه مستحيلة تحت القصف والحصار والموت والتدمير ونزوح الأهالي. المهم أن الحدث العام من تبعات عنف النظام وما عاشه الناس وريم وعائلتها كل ذلك يظهر بخلفية السرد كما ترسب في ذهن ريم المعاقة، وهنا تمييز الرواية وأهميتها. ونحن هنا سنتحدث عن الحدث العام في سورية والخاص لريم ومحيطها في الرواية من خلال ما كتبته ريم في رسالتها التي هي الرواية ذاتها.

ريم تعيش هي وامها واخيها في منطقة قريبة من حي جرمانا بجوار دمشق. العائلة فقيرة، يسكنون في قبو، لا تعي ريم والدها ابدا، نفهم أنه قد تم اعتقاله من قبل النظام وهي واخوها كانوا مازالوا صغارا، هذا الموضوع لا يتم الاقتراب منه في البيت ابدا، يخافون من النظام وهي لا تفهم لماذا؟ !. كما لاتعلم ماذا يعني أن تكون من غير اب. امها تعمل في خدمة التنظيف في مدرسة مجاورة، ولأن ريم معاقة فلم يتم تسجيلها في المدرسة للتعلم. ولأن أخاها يذهب للمدرسة ايضا، لذلك لا يمكن تركها عند أحد، فقد كانت تأخذها أمها معها إلى المدرسة، وكان ذلك مرفوضا من المديرة، فهذا ليس من حق الأم الخادمة، كما أنّ الطفلة موصومة أنها مجنونة، لكن تم التحايل على هذا الواقع من خلال إدخال الطفلة ريم الى المدرسة سرّا ووضعها عند الست سعاد أمينة مكتبة المدرسة، التي حنّت على ريم وتبنّتها، الست سعاد متزوجة وليس لديها اولاد، وجدت بريم ابنة لها، اكتشفت موهبة الرسم والفهم عندها، فعلمتها القراءة والكتابة، ومع مرور الوقت أصبحت ريم تقرأ في كتب المكتبة -الشبه مهجورة- في المدرسة، وأصبحت تعيش في عالم الكتب والقصص التي تقرؤها. كانت هذه المرحلة اجمل ايام طفولة ريم، فقد توسعت رعاية الست سعاد للعائلة لتصل إلى إعطاء والدتها  كل ما يفيض عندها من ملابس وأواني واغراض المنزل وملابس وكتب وهدايا، خاصة لريم التي أحبتها الست سعاد كثيرا. لكن ذلك لم يستمر فقد جاءت أحداث الثورة السورية، التي لم نعرف في سياق الرواية، إلّا منعكسات فعل النظام العنفي على الناس بيوتهم وحياتهم، كذلك على حياة ريم وعائلتها، بحيث لم تعد تتمكن الأم من الذهاب للمدرسة، وانقطعت صلتها بسعاد لوجود حواجز وقصف وقتل وتوزع عناصر الجيش والمخابرات في الشوارع. كذلك اعتقال الناس وتهجيرهم وتدمير منازلهم واحيائهم وبلداتهم، الناس الذين اعتبروا خارجين عن سلطة النظام ويجب معاقبتهم. ستعيش ريم وعائلتها في مناطق المعارضة للنظام حيث الحصار والقصف والموت والجوع والخوف، وتكون سعاد في الطرف الثاني الواقع تحت سيطرة النظام. ستتغير حياة ريم وعائلتها عندما قررا الذهاب الى بيت سعاد لزيارتها في مدينة دمشق منطلقين من الريف الدمشقي حين سكنهم الأخير في حي الدويلعة، ركبت الأم ومعها ريم مربوطة إلى معصمها الحافلة متوجهين إلى دمشق. واجهتهم الحواجز العسكرية والأمن والمخابرات على الطريق. كان ذلك مرهقا لريم. حيث عايشت التعامل الوحشي للامن مع بعض الركاب حيث الضرب والسحل والتنكيل. وفي أحد الحواجز لم تعد تحتمل ريم ما يحصل أمامها؛ فقد بالت على نفسها وتشنجت وصرخت في مواجهة رجال المخابرات ونزلت من حافلة الركاب الصغيرة، استطاعت التخلص من يد أمها وبدأت المشي الذي تعشقه وممنوعة عنه. تركض وراءها امها ووراءهم رجال المخابرات يطالبونهم بالتوقف، ولأنها لم تقف أطلقوا عليهم النار، أصيبت أمها وماتت فورا، وأصيبت هي في كتفها. افتقدت أمها وهي حولت لمشفى تابعة لاحد المعتقلات، كانت معتقلة ايضا. هناك وضعت على سرير مع فتاة اخرى. الفتاة معتقلة ومعذبة كثيرا، شاهدت هناك الكثير من المعتقلين والمعتقلات، علمت انهم ممن اعتقلوا بالتظاهر او رهائن عن ثوار او مطلوبين للنظام. سمعت الكثير من أصوات المعذبين وهم يضربون في التحقيق معهم. أدرك الامن انهم امام فتاة معاقة، وانتظروا أن يظهر أحدهم ويأخذها. جاء اخوها سعد واخذها. انتقل معها الى منطقة عربين في الغوطة التي أصبحت من البلدات المحررة. كان أخاها قد أصبح من مجموعات الجيش الحر التي تحارب النظام على مناطق التماس التي وجدت بين النظام والمناطق المحررة، اخذها الى بيت يتبع لعائلات الثوار، وسلمها لام سعيد التي تسكن في احدى الغرف، زوجة شهيد ولديها أولاد أيتام وترعى بعض الأطفال الأيتام جراء مقتل ذويهم، جراء القصف والبراميل المتفجرة والقتل الذي يرتكبه النظام بكل الاشكال. كانوا كل الوقت تحت رحمة القذائف وهدير الطائرات والبراميل المتفجرة، دائما هناك ضحايا ومصابين، وفي إحداها أصيب المكان الذي كانت به ريم وأصيب ام سعيد وبترت أطرافها السفلية وماتت جراء ذلك، كما قتل بالقصف بعض الأطفال ممن كانوا تحت رعايتها. ريم لم تصب اثناء ذلك، جاء اخوها واخذها وجعلها معه بشكل دائم. في هذه الفترة سيقصف النظام الغوطة الشرقية بالكيماوي، ستروي لنا ريم ما حصل معها ومع غيرها عن الأسر التي نامت وبقيت في نومها ميته. عن محاولة الإسعاف بخلع الملابس والغسيل الدائم بالمياه، كانت صورا تزيد رعب الحالة ومأساويتها. وعندما زاد الوضع سوءا حيث يقيم أخوها، أوكلها لصديقه حسن لينقلها الى مكان آخر في المناطق المحاصرة اكثر امانا. سيضعها حسن في قبو ويربطها في شباك القبو ويتردد عليها بين وقت وآخر يحضر لها بعض الطعام والفواكه، كان يذهب الى مناطق الرباط في مواجهة النظام، حيث أصبح الحصار قاسيا ونقص المواد الغذائية شديدا، والقصف دائم والناس كلهم نزحوا عن بيوتهم واحيائهم، ولم يبقى الا الثوار يقاتلون على جبهات المواجهة مع النظام. لم تكن تتعايش ريم الا مع حسن الذي يحضر، احبت حضوره واطلالته، هو كذلك بادلها مشاعرها. لكن لم تتجاوز مشاعرهم ذواتهم الى سلوك يعبر عن هذا الود. ريم تعيش مع عوالمها الداخلية، ومع أوراقها التي تكتب عليها، وأقلام التلوين ترسم كل ما يخطر في بالها وتلونه، ذلك الهوى التي عاشت معه منذ طفولتها تحت سرير امها الى حيث تقبع وحيدة في القبو المهجور، تنتظر حضور حسن بين وقت وآخر. لكن حسن ذهب في آخر مرة ولم يعد، وهي مربوطة إلى النافذة. لديها بعض تفاحات كان احضرها لها حسن، تأكلها بتقنين في أيام عدّة. تردد على الشارع حيث تطل من قبوها طفلان يبحثان عن الحديد الذي يبيعونه خرداوات و الاعشاب يأخذونها لأمهم ليتمكنوا من طهيها ومن ثم أكلها، هكذا فهمت من حديث الأخوين المارين أمام نافذتها في الشارع. حاولت الاستنجاد بهم، خافا منها وهربا. كما مر عليها كلب بحث في الركام وأخرج كفّا لطفل مبتورة صغيرة حمله في فمه وغادر. بدت ريم تفقد قدرتها على تحمل الجوع والعطش، وبدأت تهاجمها الحشرات، الذباب الازرق والاخضر والنمل يتغلغل في رأسها وجسدها.

تنهي الرواية عندما تفقد ريم وعيها وهي منهكة من الجوع والعطش، لم تستطع فك ربطة يدها أو حيث ربطت على النافذة، ومن الحشرات التي بدأت تأكلها وهي حيّة.

وفي تحليل الرواية نقول:

نحن أمام رواية جديدة متميزة جدا لسمر يزبك، انها شهادة اخرى عن اجرام النظام وأفعاله التي صُنفت جرائم ضد الإنسانية، القتل والتشريد والقصف بالبراميل المتفجرة والطيران والمدافع والحصار والتجويع والاعتقال…الخ كل ذلك وثّقته الكثير من الروايات والشهادات والتقارير، لكن ميزة الرواية أنها جاءت على لسان فتاة معاقة وجدت نفسها وأهلها ومن حولها ضحية هذا الاجرام. كما تتميز الرواية في قدرة الكاتبة الغوص عميقا في ذات هذه الفتاة منذ طفولتها حتى سن الشباب، وعلى نقل عيشها للعالم الذي نعيشه كلنا، لكنه يعاش من كل منا بطريقة مختلفة. مشاعر ابن النظام القاتل ومشاعر ابن الشعب المقتول في ذات الحادثة وتناقض هذه المشاعر، وكيفية محاكمة هذه الأفعال؟ . ومن المسؤول عن ذلك؟ . ومتى؟ !.

إنه الظلم الذي يأكل الأفراد والمجتمع والمشاعر والحقوق ويحول الشعب إلى مجرد ضحايا. يعدون قتلاهم وجرحاهم و معتقليهم. ويبكون بيوتهم ويشردون في أرض لا تسعهم ولا تستوعب معاناتهم وتصمت عن مصابهم. والظالم يعيث في البلاد والعباد قتلا و خرابا…

طفلة معاقة -عبر رسالتها – تختصر عار العالم الصامت عن هدر انسانية الشعب السوري وجعله ضحية كل الوقت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى