ما مَعنى كلمة (عرب)..؟!!

مازن أكثم سليمان

أليسَ غريباً أنَّ مُعظمَنا لم يُفكِّرْ يوماً أو لم يتساءَلْ قطّ عن مَعنى كلمة (عَرَب)، إذ كانَ مَعنى كلمة (عَرَب) غائِباً أو مُغيَّباً عن مَناهجِنا التَّعليميّة المَدرسيّة أو الجامعيّة، وأُهمِلَ حتّى في الإطار الأكاديميّ هذا البَحث المُهمّ، إنْ في أقسام اللُّغة العربيّة، أو حتّى في أقسام التّاريخ نفسِها، واكتُفِيَ بربط مَفهوم (العَرَب) و(العُروبة) بدلالة (الفصاحة) بوصفِها مُسلَّمة مَعرفيّة وتاريخيّة، بُنِيَ عليها الكثير من الوعي الذي شكَّلَ جزءٌ غيرُ قليلٍ منهُ وعياً زائِفاً، ومُعظمُنا يعرفُ، مثلاً، المَقولة التَّنمطيّة والتَّعميميّة الشّائِعة: “العربُ ظاهِرة صوتيّة”.

* ولعلَّ أيَّ عارِفٍ بعلوم اللِّسانيّات الحديثة والمُعاصِرة، وبعلوم الدَّلالة والتَّأويل يعي خُطورة فَهْم مَعنى أيَّةِ كلمة تُشيرُ إلى (شعبٍ) أو (مكانٍ) أو (ثقافة)، وما يفتحُهُ هذا الفَهْمُ من دلالاتٍ عميقة وغنيّة في مَجالات علوم الإنتربولوجيا (علم الإناسة) والتّاريخ والاجتماع والاقتصاد السِّياسيّ والثَّقافة.

* منذُ سنواتٍ لفَتَ نظَري ما كتبَهُ الباحثُ الحلبيّ (عامر رشيد مبيِّض) في الصَّفحة (192) من كتابِهِ “شمس سوريّة تسطع على أوربا” الصّادر في مدينة حلب في العام 2012، في تفسيرِهِ لمَعنى كلمة (عَرَب)، حيثُ قالَ:

” إنَّ كلمة (عَرَب) مدلول، ومعناها (الماء الكثير الصّافي)، أو ما يدلُّ على الماء الكثير، وكلمة العرب أُطلِقَتْ على الماكثين على مظانّ المياه،. و(عَرَبَة) في اللَّهجة الأوغاريتيّة تعني السَّحابة (حامِلة المطر)، وسُمِّيَ الإله بعل (حَدَد) بالأوغاريتيّة بـِ (راكِب عَرَبَة)، وهوَ إله المطر. وعَرَبَةُ الإله الحلبيّ (حَدَد)، رمزٌ للسَّحابة الماطِرة، والعَرَبَة: النَّهرُ الشَّديدُ الجري. وعَرُبَ البئرُ: كَثُرَ ماؤُهُ. كما ورَدَتْ في الآراميّة لفظة (عربايا)، وكلمة (عَرَب) تعني الماء في العبارة الآراميّة الآتية: (إذا رَبُّ بيتا عَرَبٌ)؛ أي إذا رَبُّ البيت المسؤول عن الماء، واستعمَلَ العرب يوم العُروبة (يوم الجمعة) ليعني يوم الاستحمام واستعمال الماء، وهذا الاسم ما يزالُ يُستعمَلُ في بلدة (معلولا) السوريّة حتّى الآن (يوم عروبتشا)”.

* ويربط المُؤرِّخ مبيِّض في الصَّفحةِ نفسِها على نحْوٍ غير مُباشَرٍ بينَ مَعنى كلمة “عَرَب”، ومَعنى كلمة “آرام” التي لم يتَّفق الباحثون حولَها كما يقول، فهيَ في اعتقادِهِ ليسَتْ عبريّة، بل إنَّها ذات جذور ميثولوجيّة دينيّة أمّوريّة، بوصفِها نسبة إلى عبادة إله المطر (حَدَد) الذي لا يُذكَرُ باسمِهِ، إنَّما بصفاتِهِ، ومنها: أبو رمّانة، ريمون حَدَد، آرام، رام، وروم (حوض الماء)، وروما (رومة الماء)، ورامون وبل رامون (صوت المطر)، ويُضيف في مَوضِعٍ آخَر من كتابِهِ أنَّ “رمّانو _ رمّان” هو (صانع الصّواعق = إله المطر والعواصف).

* وإثرَ ذلكَ: قمتُ (أنا شخصيّاً من جهتي) بتقصٍّ لمَعاني كلمة “عَرَب” في المَعاجِم العربيّة الأساسيّة القديمة والمُعاصِرة، وجمَعْتُ ما بينَها من تقاطُعاتٍ وتكرارٍ في المُلخَّص الآتي، وهوَ الأمر الذي يعضدُ المعاني التي ذهَبَ إليها المُؤرِّخ عامر رشيد مبيِّض:

* إنَّ الجذر الأصليّ للفظة “عَرَب” هوَ: “عَرِبَ عَرَباً”: ويرِدُ في أحد معانيه: عَرِبَ الماءُ: صفا، فهوَ “عَرَبٌ، وعَرِبٌ”، و”عَرِبَ النَّهْرُ ونحوَهُ”: كَثُرَ ماؤهُ، فهوَ عارِبٌ، و”العَرَبَةُ”: النَّهْرُ الشَّديدُ الجري، ويومُ العُروبةِ هوَ: يومُ الجمعة في الجاهليّة، “التَّعريب”: الإكثار من شُرْب “العَرَب”، أي الإكثار من شُرْب الماء الصّافي، ونهْرٌ عَرَبٌ: غَمْرٌ، والغَمْرُ: الماءُ الكثير، وفي الحديث: “مثَلُ الصلوات الخمس كمثَلِ نهرٍ غَمْر”، وبئرٌ عَرَبَةٌ: كثيرةُ الماء، والفعل من كُلِّ ذلكَ عَرِبَ عَرَبَاً فهوَ عارِبٌ، وهيَ عارِبَة.

* ويبدو أنَّ هذهِ المعاني بدلالاتِها الثَّرّة قد تراجَعَتْ مع الزَّمن _كما أعتقدُ في توجهاتي البَحثيّة_، وعُومِلَتْ من قِبَل اللُّغويِّين والباحثين القُدامى والمُعاصِرين مُعامَلة ثانويّة، لتحُلَّ محلَّها الدَّلالات المُرتبطة بنُضج اللُّغة العربيّة الفصيحة، حيثُ أُهمِلَ تحليلُ الرَّبط المُعجميّ بينَ كلمة “عَرَب” ودلالة “الماء” الغنيّة، وتقدَّمَ الرَّبط المُعجميّ بينَ كلمة “عَرَب” ودلالة “الفصاحة”، فـَ “التَّعريب” مثلاً الذي ورَدَ في لسان العرب بوصفِهِ الإكثارُ من شُرب “العَرَب/أي الماء”، باتَ يعني فيما بعد: صبغُ الكلمة بصبغةٍ عربيّة عبرَ نقلِها بلفظِها الأجنبيّ إلى اللُّغة العربيّة. وباتَ الشّائِعُ أنْ يدُلَّ الجذر “عَرِبَ عَرَبَاً” على مَعنى: “فَصُحَ بعدَ لُكْنَةٍ”، فـَ “عَرُبَ عُروباً وعُروبةً وعُرابَةً وعُروبيّةً: فَصُحَ”، ويُقالُ: “عَرُبَ لسانُهُ”، و”عَرَّبَ الكلامَ: أوضحَهُ”، و”عَرَّبَ عنهُ لسانَهُ: أبانَ وأفصَحَ”، و”الإعرابُ”: تغييرٌ يلحَقُ أواخِرَ الكلمات العربيّة من رفعٍ ونصبٍ وجرٍّ وجزمٍ، على ما هوَ مُبيَّنٌ في قواعد النَّحو.

* أعتقدُ أنَّ هذا الفهْم المَنسيّ أو المَسكوت عنهُ لمَعنى كلمة (عَرَب) يُغيِّرُ جذريّاً الكثيرَ من المَقولات التّاريخيّة والرُّؤى التَّأطيريّة والمَفاهيم التَّنميطيّة، ويفتَحُ البابَ واسِعاً نحْوَ فهْمٍ حضاريّ (كُلِّيٍّ) جديدٍ ومُغايِرٍ، ولا سيما إذا تمَّ تأصيلُ ذلكَ انطلاقاً من المُقارَبة المُعجميّة التَّطوُّريّة تاريخيّاً للمُفردة (اسماً وفعلاً/ فاعليّة وصفةً ودلالةً)، وانتهاءً بفتْحِ هذهِ القراءة على الدِّراسات الأنتروبولوجيّة والاجتماعيّة وعلوم الاقتصاد السِّياسيّ، ولهذا يبدو أنَّهُ من الضَّروريّ جدّاً إتمامُ المَشروع الكبير (الذي أُنجِزَ جزءٌ لا بأسَ بهِ منهُ حتّى هذهِ اللَّحظة) بوضعِ مُعجمٍ تاريخيّ للُّغة العربيّة.

 

المصدر: صفحة مازن أكثم سليمان على الفيسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى