السوريون وحوارات الطرشان

بكر صدقي

شكلت الجولة الجديدة، الثامنة، من اجتماعات اللجنة الدستورية مناسبة جديدة لانقسام السوريين المأساوي على بعض أساسيات الاجتماع البشري، حتى لا نتحدث عن توافقات سياسية لا بد منها للخروج من النفق المظلم.

لقد شكّل المبعوث الأممي السابق ستيفان ديمستورا هذه اللجنة في نموذج عقيم سلفاً، وما انتظار نتائج عملية منه، أي التوافق على صياغة دستور لسوريا، إلا كانتظار أن يحبل الثور أو يبيض الديك. فاللجنة تشكلت من ثلاثة أثلاث هي على التوالي: ثلث النظام وثلث المعارضة وثلث منظمات المجتمع المدني. النظام الذي يرفض أي حل سياسي للصراع في سوريا حدد حصته في اللجنة لكنها لا تمثله ولا تلزمه بشيء! هذا بحد ذاته كافٍ لنسف مبرر تشكيل اللجنة. كذلك حصة المعارضة في اللجنة لا تحظى بأي شرعية تمثيلية في البيئة الاجتماعية المعارضة، وهي منبثقة عن «الهيئة العليا للمفاوضات» التي تفتقر مثلها للشرعية التمثيلية، وتتعرضان معاً لانتقادات حادة من البيئة المذكورة ربما تفوق هجوم النظام عليهما. أما حصة «المجتمع المدني» فهي مقسومة بالمناصفة بين «مجتمع النظام المدني» ومنظمات مجتمع مدني مستقلة. أي أن اللجنة الدستورية مقسومة عملياً بين النظام والمعارضة.

على رغم هذا الانقسام المانع للتوافق فاللجنة ماضية في مناقشاتها التمهيدية، وربما هذه هي الفائدة الوحيدة من عمل اللجنة، أعني النقاش بحد ذاته حتى لو كان نقاشاً غير مثمر، وهو كذلك كما نرى من التقارير الصحافية التي نشرت عناوين موضوعات النقاش، وليتها نشرت تفاصيله. ذلك أن تلك الموضوعات هي بعض أسباب انقسام السوريين، ولا بد من فتح النقاش حولها، ليس فقط في الإطار الضيق لاجتماعات «الدستورية» بل في الرأي العام.

من بين الموضوعات الخلافية التي طرحت برز اثنان، أولهما «إصلاح مؤسسات الدولة» وبخاصة الجيش؛ وثانيهما «سمو الدستور وتراتبية الاتفاقيات الدولية».

نقلت وسائل الإعلام استنفار جماعة النظام ومجتمعه المدني في اللجنة الدستورية ضد فكرة الإصلاح أو إعادة الهيكلة، وبخاصة فيما يتعلق بالجيش، مشيرين إلى التجربة العراقية التي «أدت إلى كوارث» في رأيهم. وهو موقف غير مفاجئ لأن الجيش وأجهزة الأمن يشكلان العمود الفقري للنظام وأي مس بهما أو بدورهما يثير مخاوف وجودية لدى النظام وبيئته الاجتماعية. بل إن جماعة النظام في اللجنة رفضوا حتى فكرة حياد الجيش في الحياة السياسية أو تداول السلطة، فبوصلتهم واضحة في وجوب تبعية الجيش للنظام الأسدي القائم حتى لو تعلق الأمر بزجه في صراع داخلي أو في ضرب المدنيين. هذا مبدأ لا يساومون عليه، وهو ما يعني استحالة التعايش بين النظام والسوريين.

أما حول موضوع «سمو الدستور وتراتبية الاتفاقيات الدولية» فقد طرح الوفد المعارض فكرة وجوب سمو الدستور فوق القوانين الوطنية، وكذلك أولوية الاتفاقيات الدولية على القوانين الوطنية. وفي حين لم يختلف الطرفان على النصف الأول المتعلق بسمو الدستور، لاقى النصف الثاني المتعلق بالقوانين الدولية انتقادات حادة من «الوفد المسمى من النظام» ومجتمعه المدني، فقد اعتبروه دعوة صريحة للانتقاص من «السيادة الوطنية» و«وضع سوريا تحت وصاية دولية». لقد اعتاد السوريون على هذا المنطق الذي لا يتذكر «السيادة الوطنية» إلا حين يتعلق الأمر بتقييد حرية النظام في اضطهاد السوريين.

غير أن هجوماً آخر على هذا المبدأ المقترح جاء من خارج اللجنة الدستورية، من البيئة المعارضة الإسلامية، فاعتبر أحد مثقفي الإخوان المسلمين أن الوفد المعارض الذي يفتقد للشرعية يريد «أن يهيمن دين الأمم المتحدة على دين الشعب السوري»! ودعا إلى استنفار الأمة لمواجهة هذا الخطر «الشديد»!

يمكن التكهن بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي في ذهن مقدمي الاقتراح كتلك المتعلقة بحقوق الإنسان وحمايتها من الانتهاكات التي تقوم بها السلطة، أو الاتفاقية المتعلقة بمكافحة جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) أو مناهضة التعذيب أو عمالة الأطفال… إلخ. وهي نفسها على الأرجح ما استنفر المثقف الإخواني المذكور. ونقرأ في تعليقات البيئة الإسلامية على الموضوع في وسائل التواصل الاجتماعي ما يخص (سيداو) بالذكر، مع اعتبار أن الاتفاقيات الدولية (دين الأمم المتحدة!) تتعارض مع أحكام الإسلام لأنها «تحلّل الزنا والشذوذ الجنسي» على ما جاء في بعض التعليقات.

هذه البيئة الإسلامية المعارضة مستعدة للتضحية بما يمكن أن تشكله الاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف من حماية من تغوّل السلطات المحلية على السكان مقابل التمسك باللامساواة بين الجنسين أو موقع الدين في البنية السياسية للدولة.

للمقارنة فقد وقع نظام الأسد الهمجي على عدد من تلك الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ومنها المتعلقة بمناهضة التعذيب والعهدة الدولية لحقوق الإنسان واتفاقية سيداو وغيرها. طبعاً لم يلتزم النظام بأي من موجبات تلك النصوص الأممية، لكن التوقيع عليها يشكل على الأقل مرجعية معيارية لمحاسبة النظام على انتهاكاته، في حين أن رفضها بالمطلق يشير إلى نموذج الدكتاتورية غير المقيدة التي يسعى إليها هؤلاء الرافضون.

بل إن النظام لم يكتف بتوقيعه على المعاهدة الدولية لمناهضة التعذيب، فأصدر مجلس شعبه، قبل شهرين، قانوناً يجرّم التعذيب، الأمر الذي أثار بحق سخرية المعارضين وربما سخرية الموالين أيضاً الذين يعرفون أن القانون المذكور هو مجرد حبر على ورق، ويناسبهم ذلك.

ولا يقتصر التعامل باستهتار مع المعاهدات الدولية على النظام السوري وأشباهه من الدكتاتوريات، بل حتى الولايات المتحدة لم توقع على معاهدة (سيداو) مثلاً. والدول الموقعة نفسها تقدم تحفظات كثيرة على بعض البنود بما يكاد يفرغ النص من مضمونه. أما سمو تلك المعاهدات والاتفاقات على القوانين الوطنية، فهو وحده ما يمكن أن يشكل حماية للمجتمع وللمواطنين الأفراد من انتهاكات السلطات القمعية، وإلا فهي تصبح نافلة في مواجهة قوانين وطنية تتعارض معها.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى