قراءة في رواية: وقع الخطى

أحمد العربي

كتبت ابتسام شاكوش ما عايشته في الثورة السورية؛ شخصياً وكذلك أهل قريتها ومدينتها الحفة والساحل السوري عموما، عبر مجموع رواياتها: طوق في عنقي وابن المجرم وهذه التي نكتب عنها وقع الخطى.

والمهم أن روايتي ابن المجرم و وقع الخطى مترجمتان إلى اللغة التركية، حيث النص العربي كاملا مجاورا للنص التركي، وهذه خطوة متقدمة في الانغراس السوري في تركيا، وخلق تلاقح ثقافي ومعرفي لقضيتنا داخل تركيا التي أصبح كثير من السوريين مواطنين حاصلين على الجنسية فيها.

تعيد ابتسام إحياء الأحداث عبر عملها الروائي هذا، الزمن والحقيقة والتاريخ. وقد نجحت عندما جعلت توثيقها لأحداث السنوات الاولى لثورتنا، لتكون اقرب لنبض الناس وواقع حياتهم، الناس العاديين المظلومين، الذين ثاروا، وتلقوا بعد ذلك تبعات العنف الإجرامي للنظام على بلداتهم وحياتهم. استشهد من استشهد، واصيب الكثيرين، اغلب الشباب التحقوا بالجيش الحر للدفاع عن بلداتهم ومواجهة النظام الذي أرسل جيشه بعتاده الثقيل وشبيحته القتلة الطائفيين يجتاح مدينة الحفة و البلدات والقرى المحيطة. هرب أغلب من تبقى إلى مناطق أكثر أمنا مثل اللاذقية او غادر باتجاه جبل صهيون وجبل الأكراد المحاذية لتركيا، والبعض وصل إلى تركيا بحثا عن أمان مفقود.

تتحدث الكاتبة ابتسام بلغة الراوي الذي يرصد الحدث من خارجه، الشخصيات المحورية في الرواية هم الناس العاديين، نساء وأطفال وبعض الرجال الكهول، الفارين من قصف النظام واجتياحه الى اتجاهات مختلفة، مشيا على الاقدام او ركوبا في بعض العربات والآليات المختلفة.

زمان الحدث هو في أواسط آذار ٢٠١٢م، يعني بعد مضي سنة على اندلاع الثورة السورية.

الناس مرعوبون مما أصابهم، فهاهم يحملون ماخف من متاعهم ويركضون إلى المجهول خوفا من الموت القادم. الحفّة ومسيحييها وسنتها  وأغلب القرى المجاورة لها هي قرى ذات غالبية سنية، تعيش متجاورة مع قرى علوية متعايشة على مضض منذ عقود بعيدة. تتحدث النساء المعمرات عن صراعات حصلت بينهم سنة وعلويين منذ زمن بعيد، وكان اغلب ذلك يحصل نتيجة فعل حكم خارجي، فقد استعان الفرنسيين بالعلويين اوائل احتلال سوريا بعد سقوط دولة العثمانيين للسيطرة على الثوار السنة الذين رفضوا الخضوع للفرنسيين، ولو أن بعض العلويين من أتباع صالح العلي قاوموا الفرنسيين في زمن ما من احتلالها لسوريا.

يتوقفون كثيرا عند هيمنة حافظ الأسد على سوريا بعد انقلابه على رفاقه عام ١٩٧٠م. وما سبقه وتلاه من تجنيد للعلويين في الجيش والأمن وجميع مراكز الدولة الهامة، وكيف ترك عدد كبير منهم  بلادهم ليكونوا أدوات النظام للسيطرة على الدولة والمجتمع السوري. وهذا لا يلغي أن كثير من العلويين بقي في بلداته يعيش الضنك ولا يصله من فوائد النظام الذي يستخدم أولادهم وقودا لآلته العسكرية ضد الشعب. كما يتحدثون عن وجود معارضين للنظام من العلويين من بقايا مناصري صلاح جديد، ومن انضووا في فترة ما في الأحزاب اليسارية المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري، كذلك رابطة العمل الشيوعي. وأن كثير منهم سجن لسنين طويلة، لم تخلوا من التعذيب والتنكيل، كان النظام قاسيا مع المعارضين العلويين، لأنهم يكذّبون ادعاء النظام بأنه حامي الطائفة العلوية وممثلها.

 يعود الناس بذاكرتهم إلى أحداث الثمانينات وثورة السوريين ضد النظام وكيف جيّش النظام الطائفة العلوية ذلك الوقت ضد السنة متهما لهم انهم يتحركون ليبيدو العلويين، وما انعكس من تنكيل طائفي واعتقال مكثف لشباب الساحل من السنة سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، وحصول تعذيب وقتل وتغييب، مازال الكثير يعاني من تبعاته للآن.

تتابع ابتسام سرد متغيرات هروب هؤلاء الناس في زمن الثورة هذه. وتتحدث عن المبررات الكثيرة للشباب المظلوم المحروم من العمل والمتعلم والممنوع من الوظيفة، المعاني من ظلم النظام والتمييز الطائفي، وكذلك البعض الذي اعتقل ونكّل به وانتظر فرصة ليثور على النظام ويسترد حقه الشخصي وحق اهله وناسه وكل السوريين.

شاركوا بالتظاهر السلمي، وطالبوا باسقاط النظام وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، دولة الحق والعدل والقانون، دولة تحفظ كرامة الناس وتؤمن لهم حياة أفضل. لكن النظام لم يستجب لمطالب الشعب، بل واجه الشعب بالعنف المسلح، قصف البلدات والمدن والاجتياحات والتنكيل والفظائع والتشبيح وسرقة كل شيء وجدوه وراء أناس تركوا كل شيء وهربوا أملا بحياة، وخوفا من موت محقق.

تقطعت السبل بالناس فبعد أن تشكلت قوى الجيش الحر من شباب البلدات ومواجهة النظام ومراكز الشرطية والأمنية، جاءت الاجتياحات التي لم تترك حجرا على حجر جيوش تحارب شعبها وشبيحة يستبيحون كل شيء. خرج الناس على عجل الى بلدات مجاورة اقل خطرا وأكثر أمانا، والبعض ذهب الى جبل صهيون والأكراد. وذلك لم يعد كافيا، فقد انتقل الكثير الى تركيا. أنطاكية وما حولها. وصل الناس الى هناك وبدؤوا يبحثون عن عائلاتهم واهاليهم، من استشهد ومن هرب؟ ! والى اين؟ !. وكثير من المصابين من الجيش الحر وغيرهم تم نقلهم للمستشفيات التركية.

كانت وسائل التواصل الاجتماعي؛ الفيسبوك وغيره حاضرة ليعرف الناس ما مصير اهاليهم. تواصل البعض بعد ذلك.

في تركيا كان الاستقبال حسنا، سواء من شرطة الحدود والدولة التركية أو من الشعب، حيث تم تلقف الناس وتأمين الحاجات الاساسية لهم من طعام وشراب وخيمة ومأوى، تم بناء خيم على عجل لاستقبال اللاجئين. كان ذلك في السنوات الأولى للثورة.

 تركيا أغلقت حدودها بعد ذلك أمام طوفان السوريين الهاربين إليها بعدما وصل القادمين إليها لحوالي الملايين الخمسة، وبعد أن أدرك الأتراك نية النظام السوري المجرم أن يصنع تغييرا ديمغرافيا بتهجير أكبر عدد من السوريين، استقدم مرتزقة طائفيين من ايران وافغانستان وغيرهم، ليملأ فراغ غياب السوريين الهاربين نجاة من الموت المحقق.

تنتهي الرواية والناس يستعيدون ما حصل معهم بألم وحسرة. يفتقدون بلداتهم واهلهم واراضيهم ومناطقهم العامرة بالخيرات، مهمومين من القادم، خائفين من مستقبل مجهول. البعض استقر بالمخيمات لا يعرف كيف سيبدأ حياة جديدة يزرع نفسه في تربة جديدة، يفتقد من استشهد او ضاع او من بقي في بلداتهم، خاصة من الكهول الذين رفضوا المغادرة ولو كان مصيرهم الموت. والبعض استطاع التواصل مع أهله وانتقلوا ليسكنوا في المدن والبلدات المحاذية للحدود السورية التركية، وبدؤوا يبحثون عن عمل يستطيعون من خلاله تأمين لقمة عيش. والبعض قرر الهجرة بعيدا الى اوربا راكبا البحر مضحيا بما جناه وجمعه من مال ليدفعه لمهربي البشر فيكون مصيره اما الوصول بالسلامة، والبدء بحياة جديدة في بلاد الغربة. والبعض يغرق في البحر منهيا رحلة عذابه بمأساة تضاف لمآسي السوريين الكثيرة.

هكذا نحن في سنوات الثورة الاولى والان بعد مضي عقد من الزمان على ثورتنا. مازالت مشكلتنا ذاتها. نظام يقتل ويظلم وينهب الدولة والمجتمع. ويثبت حضوره طائفيا مستعينا بايران ومرتزقتها. وروسيا وجيوشها. والشعب السوري الذي بقي في سوريا يعيش ضنك الحياة وضياع الأمل وظلام المستقبل. والسوريين الذين وصلوا إلى الغربة. بعضهم نجح ببناء حياته، والبعض مازال يحاول، والبعض مازال يرزح تحت تبعات اللجوء في مخيمات لا ترد بردا ولا تحمي من مطر ولا تنقذ طفولة ولا تنتج حياة… إننا في عين العالم والعالم لا يرى… عار المأساة السورية يجلل العالم كله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى