لمن يطبخ مطعم لونا الشبل؟

عمر قدور

حسب الأخبار الواردة من دمشق قبل يومين، افتتحت لونا الشبل “المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية” مطعمها، وهو أول مطعم روسي في دمشق. المطعم يقع في أوتوستراد المزة “بناء المروحيات!”، الحي المعروف بغلائه الشديد، وذلك يدعم مع ما أشيع عن كلفة المطعم الباهظة، من لوحات عالمية تزين الجدران، أو من طباخين روس مشهورين بحسب إعلانات المطعم نفسه. اسم المطعم ناش كراي nash kray، الذي يعيننا غوغل على معرفة معناه وهو “أرضنا наш край”، ولعلها التسمية الأنسب لمطعم روسي تملكه المستشارة الخاصة في دمشق.

في دلالة على الإقبال الكبير، حجوزات المطعم مغلقة لأيام، ومن المؤكد أن الزبائن هم من طينة الأثرياء والمشاهير الذين شاركوا صاحبته حفل الافتتاح. سيكون من “الطريف” بعدها أن تطالعنا عبارات الاستهجان التي تقول أن السعر الأدنى للوجبة هو 100 ألف ليرة سورية، وهو مبلغ يزيد عن الحد الأدنى للأجور. لكن علينا التذكير بأنه يعادل 25 دولاراً أمريكياً، وهذا رقم ليس كبيراً بالمعايير العالمية، أي أن المصيبة ليست في أسعار المطعم بل بإفقار السواد الأعظم من السوريين إلى ما دون خط الجوع، المصيبة هي في جعلهم يرون مبلغ 25 دولاراً كثروة.

يطالعنا استهجان آخر مفاده: انظروا إلى أموال الفساد التي تظهر وتفضح أصحابها، لتزيد المفارقة مع استحضار أحاديث تلفزيونية سابقة للشبل تتحدث فيها عن مكافحة الفساد. ولكي نشعر حقاً بالدهشة أمام هذه الازدواجية علينا نسيان المئات من كبار أثرياء الفساد “من الحلقة الضيقة للسلطة”، وقبل ذلك علينا نسيان الأرقام الفلكية المتداولة عما هو مكشوف ومعروف من ثروة آل الأسد وواجهاتهم التجارية والمالية. هؤلاء الأثرياء جميعاً، بدءاً من رأس الهرم، لم يقصّروا في إعطاء السوريين دروساً عن مكافحة الفساد، ولا تحرجهم مقارنة ثرواتهم بأقوالهم.

يلزمنا الكثير من السذاجة أو الابتعاد عن الواقع، أو كليهما، للظن أن افتتاح مطعم بكلفة ملايين الدولارات، ضمن مدينة تعج بملايين البؤساء، أمر صادم أو مدهش. فلو كان ذلك مدعاة للخجل لما أثرى هؤلاء على حساب الملايين، وهم بالتأكيد لم ينهبوا تلك الثروات ليخفوها عن الأعين في البنوك. لقد نهبوها من أجل أمرين، الاستمتاع ببذخ الإنفاق، واستثمارها من أجل مزيد من الأرباح. ومطعم لونا الشبل الروسي يحقق الغايتين معاً، فهو استثمار جيد لها، ومكان فخم للإنفاق ضروري لأولئك الأثرياء الذين يريدون أماكن للتمتع بالثروات التي نهبوها، خاصة إذا أخذنا في الحسبان العقوبات الدولية المفروضة على سلطة الأسد، والتي تمنع كثراً من التمتع بثرواتهم في منتجعات ومطاعم الخارج.

لنكون منصفين مع المستشارة الخاصة؛ هو مشروع مجزٍ وفي مكانه وزمانه، لا بسبب عامل العقوبات فحسب. فاختيارها أن يكون المطعم روسياً فيه من الذكاء أكثر مما يبدو تملقاً للروسي للوهلة الأولى، ولا شك في أن بلداً “يستضيف” آلاف الروس يجب أن يكون فيه مطعم يرتاده هؤلاء الذين يساورهم الحنين إلى مطاعم بلدهم، وقد يخفف من غربتهم تناول وجبة في مطعم يحمل اسم “أرضنا”.

من المؤكد أن الروس جميعاً غير قادرين على ارتياد مطعم مكلف، بانتظام على الأقل، أي أن الدخول إليه سيكون حكراً على القادة منهم. هذه ميزة أخرى للمطعم، فالأثرياء عموماً لا يحبّذون ارتياد الأمكنة التي يرتادها العموم. من جهة أخرى، نسبة كبيرة من الروس الموجودين هي من العسكر، ومن عادة أصحاب الرتب العالية ارتياد الأماكن التي لا يستطيع أصحاب الرتب المنخفضة دخولها، من أجل أن يحافظ الضباط الكبار على هيبة تراتبيتهم العسكرية.

إذاً، من المفترض أن يستقطب مطعم المستشارة شريحتين في المقام الأول، شريحة الضباط والمستشارين الروس الكبار، ومعهم ربما كبار الدبلوماسيين من موظفي السفارة الدائمين، أو أولئك الذين باتوا مقيمين بصفة مبعوثين لشأن أو لآخر. الشريحة الثانية مكونة من أثرياء السلطة نفسها، وعلى نحو خاص من أولئك الذين يسعون إلى حياكة علاقات وشراكات مع نظرائهم الروس، أو إلى شراء تأثير الروس من أجل الحصول على امتيازات.

قد يرتاد المطعم البعض من نجوم الفن، ما يمنحه تنويعاً مفيداً لجهة التغطية على نشاط الرواد الأساسيين الذين أنشئ المطعم ليطبخ لهم، أو ليرتادوه ويطبخوا على طاولاته صفقاتهم التجارية والمالية. المطاعم كانت دائماً من الأماكن المفضّلة لإبرام الصفقات، وفي هذه الحالة تقدّم المستشارة المكان الذي ينبغي أن يوجد من أجل الطرفين المحلي والروسي، بحيث يجتمعان أو يتعارفان بعيداً عن الأقنية الرسمية، ويبرمان صفقات الفساد التي ستمر لاحقاً عبر تلك الأقنية.

لا ندري ما إذا كانت المستشارة الخاصة قد التقطت بنباهة شخصيةٍ الفكرةَ المناسبة في اللحظة المناسبة، ما هو مؤكد أن العلاقة بين المافيا الروسية الحاكمة ونظرائها من سلطة الأسد بدأت تتشعب بحكم التدخل الروسي في العديد من مفاصل سلطة الأسد الاقتصادية والإدارية. أي أنها لم تعد مقتصرة على المستويات العليا، أو على الجوانب العسكرية والمخابراتية. والحق أنه ليس هناك أفضل من افتتاح مطعم روسي من أجل تلبية الاحتياجات المستجدة، وتلك المقبلة التي ستُرفع كؤوس الفودكا احتفالاً بها.

ربما لا يتقبّل العقل المحلي بسهولة مبادرة السيدة المستشارة، وقد يرى بعض الموالين أنه من غير اللائق بمنصبها أن يرتبط اسمها بمطعم. لكن إذا مضينا إلى النموذج “الأعلى” فسنرى الشهرة العالمية التي نالها صاحب لقب “طباخ بوتين”، وهو ذراع الأخير في التدخل في العديد من الدول بواسطة ميليشيا فاغنر التي تتبع له، أي أن المطبخ بقدر ما يكون سبيلاً إلى العقل والقلب فهو سبيل أيضاً إلى نشاطات أوسع وأخطر بكثير من المطبخ نفسه، ولا شك في أن العقل الذي افتتح مطعماً روسياً في دمشق يعي جيداً مثال “طباخ بوتين” والآفاق التي يفتحها.

تستحق السيدة المستشارة الثناء على ريادتها، ولا بأس في أن الزبائن المحليين سيواجهون صعوبة البدايات في معرفة الأطباق الروسية، هم الذين على الأرجح ارتبط تعبير المطعم الروسي في أذهانهم بالكافيار والفودكا فقط. لن تكون هناك صعوبة مماثلة مع الاسم، إذ من عادة أثرياء السلطة تفضيل الأسماء الأجنبية لأنها أجنبية فحسب، أما نظراؤهم من الزبائن الروس فيستحقون التهنئة وهم يتناولون طعامهم في “أرضهم”.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى