“من أزمة إلى أخرى يتنقل نظام التعليم في سوريا، المجاني اصطلاحاً، أنا ابني في صف فيه 50 طالباً في ريف دمشق، كيف سيفهم ابني على المعلّم؟ وكيف سيفهم شرح الدرس؟ ثم كيف سيتأقلم مع زملائه وهم محشورون كل ثلاثة تلاميذ في مقعد واحد صغير، منظر الصف يخبر بكل شيء، الطلبة يجلسون فوق بعضهم بعضا حرفياً، ثم أنا ماذا استفدت من مجانية التعليم وأنا مضطر للجوء إلى الدروس الخصوصية في المنزل لولدي لأنّه يعود من المدرسة بالكاد قد فهم شيئاً من شرح الدروس”، يقول مهندس الديكور مسلّم نصرة لـ”النهار العربي” مستهزئاً فكرة مجانية التعليم.
“النظام التعليمي في بلدنا أصبح في الحضيض فعلاً، بفعل تراكم الأزمات التي خلّفتها الحرب، وما تبعها بالضرورة من تقاعس حكومي وإهمال عزّ نظيره، كل ذلك أدى إلى سوء العملية التعليمية وعدم تمكنها من السير قدماً بخطوات ثابتة والتبشير بمستقبل جيد للطلبة، وهذه العوامل جعلت المدارس الخاصة ملجأً وملاذاً لمن يبحث عن وضع تعليمي أفضل لأولاده، وهذا ما فعلته أنا حين سحبت ابني وابنتي وهما طالبان في المرحلة الابتدائية من المدرسة الحكومية ونقلتهما إلى مدرسة خاصة، صحيح أنّ أجورها مرتفعة إلى حد لا يطاق، ولكنّ التعليم فيها أفضل بعشرات المرات، وحقيقة أنا كل ما يهمني هو مستقبل أولادي، لذا أعتقد أني فعلت الصواب”، يقول التاجر عبد الحميد شيخو لـ”النهار العربي” عن تجربته مع التعليم المجاني، مؤكداً أنّ المدارس الخاصة لمن استطاع سبيلاً هي الحل الأفضل الذي لا يمكن مقارنته على الإطلاق بالتعليم الحكومي الذي بات بحسبه رديئاً للغاية.
في الدّفاع
يرفض المعلم حسام نزهة ما يسميه بالاتهامات القاسية، “في بلدنا التعليم مجاني، وهذه ميزه يكاد يكون قد عزّ وجودها، نعم هناك بعض الشوائب، ولكن الأمر ليس بهذا السوء، فلولا المدارس العمومية من كان سيدرّس هؤلاء الفقراء، أنا أفعل كل ما بوسعي في حصصي لأنقل المعلومات المناسبة للطلبة، والتي تكون خير عون لهم في أيام الامتحانات”.
مدرّس علم الأحياء للصفوف الإعدادية لا ينكر عدم وجود مجال للمقارنة بين التعليم الخاص والعام، ولكنّه يؤكد في الوقت نفسه أن وجود المجالين ضروري، يضيف: “أنا أعطي الدروس من قلب ورب”، والمفارقة أنّ المدرّس نزهة يعطي دروساً خصوصية في المنازل، يقول عن ذلك: “هي لقمة العيش، وأيضاً هذا لا يعني أنني أوفر جهداً أو أقصر في التدريس في المدرسة، ولكن كثرة عدد الطلبة في الصف والتسيب في أحيان كثيرة يصعّبان من مهمة إيصال المعلومة”.
الرّبح الإضافي
لجأت بعض المدارس الخاصة في سوريا أخيراً إلى حيلة لسحب المزيد من الأموال من أهالي الطلبة، وذلك عبر إجراء اختبار قبول أولي باسم (سبر)، ويكون هذا الاختبار مأجوراً بقيمة 50 ألف ليرة سورية، تدفع قبل دخول الطالب إلى امتحان قبوله من عدمه في المدرسة، مع عدم إمكان استرداد هذا المبلغ قبل الامتحان أو بعده، وفي حالة قبول الطالب أو رفضه، فالمبلغ لا يُسترجع.
يصف مازن خدّام الموقف بالمعيب: “طلبت مني إحدى المدارس الخاصة هذا الرسم لإجراء اختبار لابنتي، ليست قضيتنا بالرقم إن كان كبيراً أو صغيراً، ولكن المشكلة في المبدأ عينه، هل ما عاد هناك طريقة ليشبع بها هؤلاء؟ ألن تكفي الملايين التي سيتقاضونها في حال قبول أولادنا بالمدرسة، هذا أمر غريب، صار التعليم تجارة محضة، فمن أدنى البديهيات أن يكون السبر مجانياً”. علماً أن السبر سيكون بمواد الرياضيات والعلوم واللغتين العربية والإنكليزية.
الارتفاع الكبير
بعض الأهالي الذين تحدثوا إلى “النهار العربي” أكدوا ارتفاع أقساط المدارس الخاصة أخيراً بمعدل وسطي يتجاوز 600 ألف سورية للمراحل الانتقالية، وبمعدل مليوني ليرة لصفي الشهادتين الإعدادية والثانوية، ويعود ذلك – أي مبلغ الارتفاع الدقيق – إلى اسم المدرسة ومكانتها، ومع الأخذ بالاعتبار أن الارتفاع يشمل فقط تكلفة التسجيل للدراسة من دون النشاطات والخدمات والأساسيات الأخرى المتعلقة بالسكن إن وجد، أو التنقل عبر حافلات المدرسة أو اللباس والكتب، وتأتي هذه الارتفاعات مجتمعة ضاربةً عرض الحائط بقرارات وزارة التربية التي حددت سقوفاً واضحة للارتفاعات المالية في الأجور والأقساط.
مدير إحدى المدارس الخاصة قال لـ”النهار العربي” إنّ هذا الرفع جاء ضرورة لا مفرّ منها بسبب الارتفاع الهائل في تكاليف المعيشة، وضمناً أسعار المازوت والبنزين وغياب الكهرباء وأجور الطباعة والمواد المستهلكة من ألواح وغيرها، ما رتّب نفقات ضخمة على المدارس.
الاستفزاز الرّسمي
وزارة التربية قالت في وقت سابق إن سبب ارتفاع أقساط المدارس الخاصة هو أجور الخدمات الضرورية مثل الألبسة والكتب والأنشطة الترفيهية والرياضية والعلمية.
معاون وزير التربية عبد الحكيم حماد قال في تصريحات سابقة لوسائل إعلام محلية إن “من لا يريد دفع قيمة تلك الخدمات فليأت إلى المدارس الحكومية”. في تصريح تلقفه الناشطون حينها واعتبروه ممعناً في الاستفزاز وتكريس الطبقية من دون أن تعود الوزارة لتبرير تصريح مسؤولها.
قرارات في الهواء
وزارة التربية السورية كانت قد أصدرت العام الماضي قراراً ينص على السماح برفع أقساط المدارس الخاصة بما لا يتعدى 5% كل سنتين، إلا أنّ كل المدارس الخاصة لم تلتزم، إذ ترفع أسعارها كل عام، وبعضها وصلت نسبة الزيادة فيه إلى حد 50%.
وأوضحت الوزارة أن نسبة الزيادة للشريحة الأولى والمتضمنة القسط من 50 ألفاً وحتى 150 ألف ليرة سورية هي 50%، أما بالنسبة إلى الشريحة الثانية وقسطها من 151 ألفاً حتى 250 ألف ليرة فنسبة الزيادة 35%، بينما نسبة الزيادة للشريحة الثالثة وقسطها من 251 ألفاً حتى 500 ألف ليرة هي 25%، وأكدت الوزارة عدم السماح بزيادة الأقساط إطلاقاً لباقي المؤسسات التعليمية التي تزيد أقساطها على 500 ألف ليرة.
في الأرقام
أكثر من مليون متسرب من التعليم الإلزامي في سوريا خلال أعوام الحرب، بحسب مركز القياس والتقويم التربوي في وزارة التربية، فيما أوضحت تقديرات منظمة اليونيسيف لعام 2019، أن نصف الأطفال السوريين بين 5 و17 عاماً بلا تعليم.
وتبعاً للمنظمة، فإن 2.1 مليون طفل في داخل سوريا و700 ألف طفل في دول الجوار محرومون من التعليم، كما أن 1.3 مليون آخرين عرضة للتسرب من المدارس أو الحرمان من التعليم.
تكريس الطّبقيّة
يفرز الواقع التعليمي بدوره طبقتين في المجتمع، أو يمكن القول إنّه يكرّس وجود هاتين الطبقتين، المعدمة التي عليها أن ترضى بأسوأ صنوف التعليم في القطاع العام، وأخرى لديها ملاعب وحدائق ومسابح ومتنزهات في مدارسها الخاصة، ليعكس الواقع التعليمي بدوره الشكل الذي صار عليه المجتمع السوري بعد أحد عشر عاماً من الحرب.
المصدر: النهار العربي