قرأت مؤخرا كتاب الدبلوماسي والسياسي المخضرم مارتن أنديك الذي شغل منصب مبعوث الرئيس أوباما لعملية السلام بعنوان «سيد اللعبة». يتحدث الكتاب عن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ودوره في السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط في السبعينيات، خاصة دوره السلبي في حرب أكتوبر وما بعدها في دعم الموقف الإسرائيلي.
أهمية الكتاب تكمن في الدرجة العالية من التوثيق الذي اعتمد عليه أنديك، بما في ذلك عدد كبير من المقابلات الشخصية مع كيسنجر، جميعها عكست بصورة واضحة وصادمة الدور الأساسي الذي لعبه وزير الخارجية الأمريكي السابق، ليس فقط في دعم إسرائيل، بل في إنقاذها أثناء حرب 1973، حيث بدا واضحا أن كيسنجر اتخذ من أجل ذلك مواقف كانت في بعض الأحيان ضد رئيسيه نيكسون ومن ثم فورد.
يروي الكتاب أن كيسنجر منذ أن كان يعمل مستشارا للأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون، قام بفتح قناة غير رسمية مع أسحق رابين حين كان الأخير سفيرا لإسرائيل في واشنطن، وذلك بهدف الالتفاف على وليم روجرز وزير الخارجية حينذاك، الذي كان يريد العمل من أجل سلام شامل وانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة. كان كيسنجر يقول لرابين: «يجب خلق الانطباع بأن شيئا يتم إنجازه بالنسبة للعملية السلمية بينما نعرف إننا في الواقع لا نحقق شيئا». لم يكن كيسنجر يؤمن يوما بالعمل نحو الحل الشامل، وذلك لاستحالة تحقيق هذا الحل في نظره بسبب اتساع الهوة بين الجانبين العربي والإسرائيلي، وكان يعمل وفقا لنظرية مفادها أن تحقيق حل شامل لن يؤدي إلا إلى الإحباط والمزيد من المشاكل للولايات المتحدة، كما سيؤدي إلى الضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي التي احتلتها، وهو ما لم يكن يرغب فيه. عوضا عن ذلك، كانت سياسته مبنية على تحقيق خطوات متدرجة ليس على الطريق نحو الحل الشامل، ولكن تبعا لسياسة «الخطوة خطوة» و»الأرض مقابل شراء الوقت» وليس الأرض مقابل السلام، أي انسحابات تكتيكية من قبل إسرائيل حتى لا يتم الضغط عليها من قبل أحد للانسحاب الشامل. وقد نصح إسرائيل دوما بذلك، كان هدفه إنشاء نظام إقليمي مستقر وليس تحقيق السلام. وكان يؤمن بإمكانية تحقيق الاستقرار، أما السلام فلا، والذي كان برأيه هدفا غير مستحب. أما اتفاقيات فك الارتباط بين مصر وسوريا من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، فكان يهدف من ورائها كسب الوقت فقط، وليس تحقيق كامل الانسحاب الإسرائيلي.
ولتحقيق الاستقرار طويل الأمد، الذي يؤمن به، كان من الضروري برأيه تحييد مصر وإخراجها من دائرة الحرب، وهو ما نجح فيه فعلا، ساعدته على ذلك سياسة الرئيس المصري أنور السادات.
وفي أوقات متعددة كان رئيسيه نيكسون ثم فورد من أنصار الحل الشامل، وطلبا منه العمل من أجل ذلك، ولكنه تجاهل هذه الطلبات، وعمل، بل تآمر مع إسرائيل لمنع ذلك، وكان متفهما جدا لموقف غولدا مائير التي كان هاجسها الأكبر إمكانية ضغط المجتمع الدولي على إسرائيل للعودة إلى حدود عام 1967، وفعل كل ما باستطاعته وبنجاح للوقوف ضد ذلك.
يتحدث الكتاب عن بداية حرب أكتوبر/تشرين الأول، حيث كانت كل دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، بما في ذلك وزارة الخارجية والدفاع والبيت الأبيض، ضد إرسال أسلحة لإسرائيل لتعويضها عن خسائرها، وذلك خوفا من قطع العرب للبترول عن الولايات المتحدة، وحده كيسنجر كان مع إرسال الأسلحة حتى يقطع الطريق على الاتحاد السوفييتي لتوطيد أقدامه في المنطقة، وأقنع نيكسون بهذه الحجة. وحتى بعد تفوق إسرائيل اللاحق بسبب هذه الإمدادات، والاتفاق على وقف إطلاق النار وإقرار القرار 338 في الأمم المتحدة، نصح كيسنجر إسرائيل بخرق وقف إطلاق النار واحتلال المزيد من الأراضي المصرية ما نتج عنه محاصرة الجيش المصري الثالث وقطع الإمدادات عنه.
أما الموضوع الآخر الذي يسلط الكتاب الضوء عليه، فهو طريقة تعامل إسرائيل مع الولايات المتحدة والتشدد الذي مارسته حتى بعد أن أنقذتها الأخيرة من خسارة محققة. وقد اعترف كيسنجر للكاتب أنه لولا الإمدادات الأمريكية لخسرت إسرائيل الحرب. وعلى الرغم من ذلك، كانت الحكومة الإسرائيلية متشددة للغاية ولا تعطي أي تنازلات للولايات المتحدة إلا بالقطارة، وحتى كيسنجر لم يسلم من الانتقاد اللاذع له من غولدا مائير ثم اسحق رابين، على الرغم من كل الدعم الذي أعطاه لإسرائيل. في المقابل، كان التعامل العربي مع المسؤولين الأمريكيين ودودا حتى بعد إمداد أمريكا إسرائيل بالأسلحة، وحتى أثناء فترة قطع البترول التي لم تدم إلا بضعة أشهر. وعندما ضاق الرئيس فورد بالممارسات الإسرائيلية ما دفعه لإعلان «إعادة تقييم» العلاقة مع إسرائيل عام 1975، عمل كيسنجر مع المسؤولين الإسرائيليين لتجاوز عملية إعادة التقييم هذه خلال بضعة أسابيع.
يتحدث الكتاب أيضا عن الجهود الأردنية عام 1974 حين لاحت فرصة لانسحاب إسرائيلي من أريحا وفك الارتباط على الجبهة الأردنية، حين لعب كيسنجر دورا سلبيا عن طريق خداع الأردن وإعطائه كلاما معسولا لإيهامه أنه يدعم فك الارتباط في ما كان يولي الأولوية لفك ارتباط ثان على الجبهة المصرية، وذلك لقناعته أن ذلك سيخرج مصر من الحرب نهائيا. ويقول الكتاب إن كيسنجر كان يدرك أن الملك حسين، رحمه الله، كان سيطلب ضمانات أمريكية لانسحاب إسرائيل من كامل الضفة الغربية والقدس الشرقية، هو ما كان كيسنجر يعارضه دعما لإسرائيل. يشير الكتاب بوضوح إلى أن كيسنجر كان يتقدم بمواقف معينة للجانب العربي، ثم يعرض عكسها تماما للجانب الإسرائيلي، ومع كون الكاتب يكن احتراما كبيرا لكيسنجر، إلا أنه لم يستطع مع ذلك تجاهل هذه الخصال المخادعة لوزير الخارجية الأمريكي، وأشار إليها في عدة مواقع في الكتاب. لا شك في أن السادات نفسه لم يكن ينوي شن حرب شاملة على إسرائيل، بل تحريك الأمور الى الحد الذي يقنعها بالتفاوض، إلا أن هناك عبرا عديدة يمكن استخلاصها من هذا الكتاب، بما في ذلك الحاجة لفهم السياسة الأمريكية بشكل أعمق حول العالم العربي، وإدراك أن مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى لا يجوز أن تحدد وحدها طريقة التعامل معها، وكأن العالم العربي لا يملك أية أوراق ضغط، أو ليست له مصالح يستطيع الدفاع عنها. أنصح جميع المهتمين من مثقفين وسياسيين بقراءة الكتاب.
وزير الخارجية الأردني الأسبق
المصدر: القدس العربي