الأندلس إبادة شعب وحضارة

معقل زهور عدي

المحتويات

* إهداء

* مقدمة

* الفصل الأول

  هل إسبانيا أوربية ؟ – تاريخ إسبانيا قبل الفتح العربي – الإسلامي – من هم الفينيقيون – أصول الفينيقيين – الإسهامات الفينيقية الحضارية – مابين فينيقية وقرطاجة وبين شبه الجزيرة الإيبرية – العصر الروماني .

* الفصل الثاني

عصر القوط – الفتح العربي الإسلامي ( أسلمة الأندلس وتعريبه)

* الفصل الثالث

حروب “الإسترداد ” – حروب ” الإسترداد” والحروب الصليبية – غزو شارلمان ملك الفرنجة لبلاد الأندلس – تطور المواجهة بين الأندلس  والممالك الأسبانية – السردية التقليدية الغربية لحروب ” الاسترداد”- التقدم الحضاري الأندلسي وحروب ” الاسترداد” – حضارة الأندلس

* الفصل الرابع

إبادة شعب الأندلس – محاكم التفتيش

* خاتمة

 * ملحق (محاكمة الأندلسية ماريا لادويدا في محاكم التفتيش عام 1561م)

* هوامش البحث

 * مراجع البحث

 

 ********************************

إهداء

  إلى روح والدتي ضياء روحي ومنارة المحبة

مقدمة :

 في التاريخ الأوربي هناك مرحلة هامة كونت الخلفية الذهنية لفهم أوربة لذاتها ككيان حضاري وهي المرحلة التي شهدت الامبراطورية الرومانية  بين العام 37 قبل الميلاد والعام 437 ميلادي, ورغم الإنجازات الفكرية الهائلة لليونان إلا أن مساهمتها في تشكل الوعي بالهوية الأوربية أقل من مساهمة المرحلة الرومانية , وذلك عائد للتوسع الكبير للإمبراطورية الرومانية وطول مدتها وشمولها معظم أوربة وقسما كبيرا من العالم المتمدن ولدرجة تطور القوانين المدنية والفنون المعمارية فيها وأخيرا لاعتناقها المسيحية ونشرها في أوربة والعالم فالمكون المسيحي جزء لايتجزأ من الهوية الحضارية الأوربية وقد اندمج تاريخه مع تاريخ  الإمبراطورية الرومانية بطريقة لافكاك منها , وقد أنتجت المرحلة الرومانية الفهم الأوربي لمركزية أوربة العالمية , فالعالم هو أوربة وأوربة هي العالم , وما حول أوربة هو ملحق لها أو هو هامش أقل أهمية بكثير , والحضارة الانسانية أوربية في جوهرها , وقد تطورت وتقدمت بتسلسل بسيط تبدأ طفولته في اليونان ويجد في الإمبراطورية الرومانية شبابه الأول ثم يمر بمرحلة سبات في القرون الوسطى وكأن الزمن توقف فيها لأكثر من خمسمئة عام , ثم تعود الحضارة الأوربية لتنهض من جديد من حيث توقفت ولتتأكد طبيعتها المركزية العالمية .

حاولت تلك السردية الأوربية التغلب على خلل كبير فيها يتمثل في كون المسيحية ذات الأصول الشرقية – السامية قد لعبت دورا رئيسيا في بناء الهوية الحضارية الأوربية ومنع انقسامها رغم تبايناتها الكبيرة فيما بينها من حيث الأصول العرقية والاختلافات اللغوية والثقافية . وأهم تلك المحاولات تجسد في محاولة تحويل العقيدة المسيحية التي تحمل كل صفات منبتها السامي إلى عقيدة أوربية خالصة لاعلاقة لها ببنيتها الأصلية

وبلغت تلك المحاولة ذروتها في سحب المركز الروحي للمسيحية من انطاكية والاسكندرية نحوالقسطنطينية ثم روما  التي هي للمصادفة مركز الامبراطورية الرومانية .

ولكي لانستطرد كثيرا , نعود إلى أحد أهم وجوه السردية الأوربية وهو النظر باستخفاف واستعلاء للحضارات خارج أوربة وحولها , واعتبارها هوامش للحضارة الأوربية المركزية , والنظر لبلاد الشام وشمال أفريقية كمستعمرات ملحقة بالإمبراطورية الرومانية , بالتالي رفض أي كينونة مستقلة لذلك النطاق الجغرافي , فهو وإن لم يكن أوربيا لكنه امتداد خاص بأوربة ملحق بها , وبكلام آخر هو حديقة خلفية لأوربة .

بالتالي فقد استقر في خلفية العقل الأوربي أن الإسلام قد نازع أوربة مركزيتها العالمية وحقها التاريخي وسلب منها أملاكها في بلاد الشام ومصر وشمال أفريقية , فهو أكبر تحد واجه الامبراطورية الرومانية بعد قرطاجة التي كادت تقضي على الامبراطورية الرومانية وتحل محلها وبلغ التحدي ذروته في اقتحام إحدى بوابات القلعة الأوربية في شبه الجزيرة الايبرية .

ورغم أن راية الحروب الصليبية كانت دينية مسيحية , فالصراع الكامن خلفها كان يدورأيضا حول استعادة أملاك الامبراطورية الرومانية التي ذهبت في الواقع ولم تذهب من العقلية الأوربية , فالتعصب المسيحي كان يخدم كوقود لأهداف مستقرة في الروح الأوربية التي تبلورت في الذاكرة التاريخية .

ولعل  الحروب الصليبية المتجهة نحو بلاد الشام ومصر وشمال أفريقية , وحروب اقتلاع العرب المسلمين وحضارتهم من الأندلس قد صدرت من مصدر واحد ولذات الهدف وهي حدثت في السياق التاريخي الزمني نفسه . سوى أن أشد الحملات ضراوة كانت تلك التي جرت داخل أوربة وعلى تخومها أي في الأندلس .

وإذا كان مطلوبا اليوم بناء الجسور للتعايش بين الحضارات ونبذ التعصب , فإن تلك الجسور لايمكن بناؤها بصورة راسخة دون الاعتراف بحقائق التاريخ , وتبني وجهة نظر عادلة ومنصفة للمظالم التي حصلت في ثناياه وبصورة خاصة إدانة حملات الابادة والتطهير العرقي أوالديني ومحاكم التفتيش , والاعتراف بالمساهمة الكبيرة للحضارة العربية الاسلامية في الحضارة الانسانية الراهنة وبصورة خاصة الحضارة العربية – الاسلامية في الأندلس والإشعاع الذي أضاءت به ظلام القرون الوسطى في أوربة والذي لم يكن هناك من غنى عنه للنهضة الأوربية , فذلك وحده يعطي التعايش مصداقيته وديمومته كما يرغب الجميع بذلك.

 الفصل الأول

 

هل إسبانيا أوربية ؟                                                                                                           

 ربما يبدو السؤال غريبا , فإسبانيا الحالية من أكبر الدول الأوربية , وإسبانيا أول إمبراطورية أوربية إستعمارية وكانت الأقوى والأغنى , ولغتها اللاتينية جزء لايتجزأ من اللاتيينية الأم التي تفرعت عنها الايطالية أيضا وثقافتها المسيحية –الأوربية تقع في قلب الهوية الأوربية فكيف يمكن أن يكون مبررا مثل ذلك السؤال ؟

في البدء فلست أنا من وضع إشارة الاستفهام حول أوربية اسبانيا لكن بعض المفكرين الأوربيين يعتبرون أن حدود أوربة التاريخية تنتهي عند جبال البيرينيه وليس عند مضيق جبل طارق وأن إسبانيا هي امتداد لشمال أفريقية أكثر منها امتدادا لأوربة , وفي كتاب ” تاريخ أسبانيا ” لسيمون بارتون جاء الآتي :

” بالنسبة لشبه الجزيرة الايبرية فحتى اليوم يمكن للمرء أن يجادل خاصة مع وجود اقليم الباسك وكاتالونيا في أن اسبانيا كأمة مازالت في طريق التكون ( الولادة ) , وحتى عهد قريب نسبيا فإن القول القديم المأثور  ” أفريقية تبدأ عند جبال البيرينيه ” ظل محفورا بعمق في وعي المؤرخين من كل الجنسيات , فلقد ساد الإعتقاد بصورة واسعة أن إسبانيا شعب منفصل عضويا ( فيزيائيا ) جرى ضمه إلى أوربة مع كونه مختلفا عنها بصورة صادمة , ليس فقط بطبوغرافيته ومناخه وايكولوجيته , ولكن بثقافته وعقليته وفوق ذلك كله بمساره التاريخي , وبعض المفكرين مثل أمريكو كاسترو يعتبرون أن الشخصية الإسبانية قد تأثرت بعمق بالتفاعل الثقافي الذي جرى في الأندلس بين الإسلام والمسيحية واليهودية , في حين يرفض آخرون ذلك الرأي بدعوى أن الهوية الإسبانية تكونت على عكس ماسبق خلال حروب “الإسترداد” وأنها نضجت في ذلك الكفاح المرير عبر مئات السنين ” فإذا أخذنا برأي المتشددين الذين يعتبرون أن مايسمى بحروب “الإسترداد” كانت هي الفرن والمصنع الذي شكل الهوية الإسبانية فلنا أن نتساءل فيما إذا كان ذلك يعتبر إقرارا بعدم وجود هوية إسبانية سابقة . وتلك حقيقة نتفق عليها , وهي بالمناسبة لاتنفي التأثير العميق للثقافة الأندلسية في الشعب الإسباني الحالي , فالصراع العسكري والإنتصار فيه والسيطرة السياسية لاتكفي لصنع الهوية الثقافية لشعب من الشعوب ولا تمنع تأثر ذلك الشعب بثقافة العدو الذي يحاربه ويمكن ملاحظة ذلك أيضا في الحروب الصليبية التي كانت مناسبة لنقل الكثير من المعارف والأفكار من الشرق العربي – الاسلامي الى أوربة .

فاذا حاولنا توسيع نطاق السؤال حول هوية شبه الجزيرة الايبرية وعلاقتها بالهوية الإسبانية التي يقال إنها تشكلت في خضم حروب “الإسترداد” التي بدأت فعليا قبيل منتصف القرن الحادي عشر فلابد للعودة للتاريخ القديم لشبه الجزيرة الايبرية . اذ يبدو من شبه المسلم به أن الرومان لم يكونوا هم الشعب الذي عمر شبه الجزيرة بل كانوا طبقة نخبوية مكونة من زعماء الفرق العسكرية وقسما من وحدات الجيش , وبعض الاداريين الملحقين , وأن ايبريا كانت قبلهم وفي عهدهم زاخرة بالعمران والزراعة والمراكز المدنية والحرف والصناعات اليدوية بل انها كانت مصدرا هاما لروما للزيت والخمر والسلع الأخرى .

وبصيغة مختلفة فايبريا كانت بلدا حضاريا بكل مافي الكلمة من معنى , والعصر الروماني الذي امتد من حوالي 200 قبل الميلاد الى حوالي 400 بعد الميلاد بالرغم من تأثيره الكبير في سيادة اللغة اللاتينية باعتبارها لغة الدولة , ونقله للتنظيم المتطور للرومان في حقل القوانين والبناء والادارة لكنه لم يغير هوية الشعب الحضارية بقدر ما أضاف عليها . وعلى أية حال فربما تعجلت قليلا في استباق البحث وعلي الآن العودة للموضوع بشيء من التفصيل .

تاريخ إسبانيا قبل الفتح العربي – الاسلامي

تعود أولى دلائل وجود الانسان المتمدن في شبه الجزيرة الايبرية لما قبل الألف السادسة قبل الميلاد حيث وجدت آثار للزراعة وتربية الحيوان في الجزء الشرقي الجنوبي على نطاق محدود المساحة ومتناثر وبأعداد قليلة , وبعد ذلك وفي العصر الحجري الحديث(1) حيث الزراعة المنزلية وتربية الحيوانات واستخدام الأدوات الحجرية وصناعة الفخار فيعتقد أن ذلك التقدم قد وصل من أواسط البحر الأبيض المتوسط أو من شمال أفريقيا إلى الجزء الشرقي الجنوبي ثم توطن وانتشر ببطء شديد , وبطريقة غير منتظمة , أما في القسم الغربي من أسبانيا والبرتغال فقد ساد نمط مختلف للتطور حيث جاء العصر الحجري الحديث متأخرا بين 4500-3800 قبل الميلاد .

بدأ استقرار الفينيقيين في ايبريا منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد ( حوالي 900 ق .م ) , وفي بادىء الأمر نشأت مستعمراتهم في الساحل الشرقي والجنوبي المطل على البحر المتوسط , لكنهم توسعوا بالتدريج نحو الشاطىء الغربي  المطل على المحيط الأطلسي .

ويتحدث المؤرخون عن شعوب أخرى قديمة سكنت في وسط وشمال ايبريا , وبعضهم يرى الى أن أصولها المحتملة من شمال أفريقيا , بينما يرى آخرون أنها مهاجرة من آسيا إلى أوربة ثم عبرت جبال البيرينيه بدلالة لغتها الهندو- أوربية لكن تأثير تلك الشعوب بالمسار الحضاري لشبه الجزيرة كان أقل من تأثير الفينيقيين , بل إنهم اكتسبوا معارف عديدة من اختلاطهم مع الفينيقيين .

 

من هم الفينيقيون ؟

في تقديمه لكتاب آن نيفيللي الأركولوجي” جبال من فضة وأنهار من ذهب ”  والذي يعرض بالتفصيل المكتشفات الأثرية الأخيرة في شبه الجزيرة الايبرية المرتبطة بالمرحلة الفينيقية وشيئا من دلالتها التاريخية يقول السيد / آر . جي . اي . ويلسون / إن ذلك الكتاب يقدم عرضا مترابطا ومبتكرا هاما للبرهان فوق العادي للوجود الفينيقي في جنوب إسبانيا والبرتغال , لقد كان الفينيقيون دوما بمثابة سندريلا في المطبوعات الأركولوجية باللغة الانكليزية ( يشير الكاتب هنا إلى النظر للفينيقيين كالصبية الجميلة الفقيرة التي لايعبأ بها أحد والتي تنتظر أميرها ) وبينما نجد هناك بيبلوغرافيا هائلة تهتم بتوسعات الاغريق الكولونيالية فإن هناك القليل جدا مما كتب بالإنكليزية عن المستعمرات الفينيقية الموازية والمعاصرة للمستعمرات الإغريقية وخاصة حول إنجازاتهم في أقصى الغرب من البحر الأبيض المتوسط ”  .

ليس من الصعب التفكير بالأسباب المحتملة لذلك النقص غير العادي بالاهتمام بالأركولوجيا المختصة بحضارة الفينيقيين وتوسعاتهم الإستيطانية خاصة في شبه الجزيرة الايبرية .

فإلقاء الضوء على الحجم الكبير للوجود الفينيقي هناك يظهر العلاقة التاريخية لشبه الجزيرة الايبرية بالكنعانيين الساميين , والجذور الحضارية للشعب الإيبري , وسوف يلقي حجرا على السردية التي كانت تكتفي بتصوير السكان الأصليين في ايبريا باعتبارهم من الرومان . أو أنهم انقلبوا الى رومان لافتقادهم الهوية الحضارية .

والسبب المحتمل الآخر هو أن إلقاء الضوء على التوسع الكولونيالي الفينيقي يحمل معه إلقاء الضوء على الدور الحضاري الذي لعبه في الفترة اليونانية ذاتها , وهكذا سوف يظهر منافس للفردانية اليونانية التي تعتبر حجر أساس في سردية المركزية العالمية للحضارة الأوربية .

والمشكلة أن علم الأركيولوجيا الحديث لايترك هامشا واسعا لاخفاء الحقائق أو تزييفها ضمن الأهواء الايديولوجية أو القومية أو العنصرية , فالحل الأمثل لمن لاتعجبه النتائج التي تصل اليها الأركولوجيا في مجال معين هو إهمال ذلك المجال والإبتعاد عنه ,على أمل أن لايفطن إليه آخرون ولو لفترة زمنية على الأقل

وفي كتابها الهام : ” الفينيقيون والغرب – السياسات – المستعمرات – التجارة ” ناقشت السيدة ماريا ايغينيا أوبت من جامعة برشلونة الصعوبات الرئيسية التي تعترض الدراسات حول تاريخ الفينيقيين وتأثيرهم في الغرب ومن تلك الصعوبات  : ” النزعة الذاتية التي لايمكن تفاديها حتى لانقول النزعة الإيديولوجية لأولئك الذين يقومون بدراسة وتفسير المعطيات والمعلومات التي نحصل عليها , فالدور الذي لعبه الفينيقيون في الغرب نادرا ما تم تقديره بصورة موضوعية ” ويظهر التناقض في تلك الدراسات مثلا في اعتبارهم أن الفينيقيين لم يلعبوا سوى دور محدود للغاية في ديناميكية الثقافة الداخلية للمجتمعات الأسبانية الأصلية من جهة  , وفي تثمينهم الفائق والمبالغ فيه لدورالفينيقيين باعتبارهم العامل الوحيد في نقل المعرفة والتقنيات التي بفضلها نهضت مملكة ترشيش في الغرب والجنوب من شبه القارة الايبرية مما يعني أن الفينيقيين واجهوا شعبا غارقا في التخلف .”

وبالطبع فقد كان من الصعب على المؤرخين الاقرار بأن الفينيقيين فعلا قد واجهوا مجتمعات متفرقة شبه رعوية في ايبريا وأن الفارق الحضاري بينهم وبين تلك المجتمعات كان كبيرا , وبالتالي فقد تشربت معظم تلك المجتمعات المتفرقة ثقافتهم ولغتهم الى حد كبير عدا بعض الاستثناءات خاصة في شمال شبه الجزيرة حيث شعب الباسك القديم شبه المعزول في مناطق المرتفعات وذلك لغاية وصول الرومان حوالي 209 ق.م , وبالمناسبة فإن ذلك الاقرار الذي تحدثت عنه السيدة ماريا بخصوص دور الفينيقيين في نهوض مملكة ترشيش التي اشتهرت باستخراج سبائك الفضة وتصديرها يأتي بصورة مخالفة بطريقة استثنائية  للنظرة الغربية السائدة , خاصة في الدراسات الغربية حتى منتصف القرن العشرين , أما بعد ذلك وفي ظل تغير المناخ الدولي فقد أصبحت الأجيال الجديدة من الباحثين الغربيين أقل تحيزا وأكثر استعداد لقبول الحقائق التاريخية خاصة تلك التي يدعمها علم الآثار بطريقة لاتقبل الجدل .

  

أصول الفينيقيين :

  والذي يعني الحمر. بسبب Phoeniki  والفينيقيون هم الكنعانيون الذين أطلق عليهم الاغريق ذلك الاسم أن الصبغ الأحمر القرمزي يبقى على أيدي رجالهم الذين يعملون ويتجارون به  , بينما إسمهم بلغتهم وحسب اللغة العبرية هو الكنعانيون .  ومعظم المؤرخين الغربيين يرون أن موطنهم الشريط الساحلي لبلاد الشام من  رأس شمرا وجزيرة أرواد قرب اللاذقية الى شمال فلسطين , وأن مدنهم الرئيسية صوروصيدا(صيدون ) وجبيل وبيروت وأرواد وبعلبك , وقد عرفوا بارتيادهم البحار وطموحهم للسفر والإستكشاف والتجارة .

والتقدير المنصف لحضارة الكنعانيين ” الفينيقيين ” لابد أن يضعها في مكان مختلف عن ذلك الذي وضعت فيه حتى الآن . فالفينيقيون ليسوا تجارا ومغامرين بحريين فقط  لكنهم أصحاب حضارة عريقة تفوقت بكل شيء تقريبا وسبقت الحضارة اليونانية فمن السذاجة التفكير أن اليونان لم يأخذ من الفينيقيين سوى كتابتهم الأبجدية التي تضم 22 حرفا والتي كانت اختراعا يعادل أهم اختراعات العصر الحديث . ويحدد المؤرخ اليوناني المشهور هيرودوت فينيقيا باعتبارها موطن ولادة الأبجدية ويقرر أن قدموس الفينيقي قد أدخلها معه حين جاء  الى اليونان قبل العام 800 قبل الميلاد , كما يؤكد أن اليونانيين لم يمتلكوا أية أبجدية قبل ذلك التاريخ , كما أن جبيل الفينيقية التي يسميها اليونانيون بيبلوس كانت المصدر الرئيسي لورق البردي المستخدم في الكتابة , ولذلك ارتبط اسمها بالكتب ومنه تسمية الكتاب  :

والذي ذهب بعد ذلك إلى الكتاب المقدس .  كما أن هناك اعتقادا بأن العديد من آلهة الاغريق           Bible

جاء من فينيقيا حيث نجد شبها لاجدال فيه  بين بعض القصص المرتبطة بآلهة فينيقية مثل بعل ويم (آلهة البحر ) وبين آلهة اليونان زيوس وبوسيدون .

  وبينما يعود بداية استقرار الفينيقيين وتأسيس المدن في بلاد الشام وساحلها الى الألف الثالث قبل الميلاد ( حوالي 2750 قبل الميلاد تأسست صور ومعبد ملقارت حسب فيكتور بيرارد )  , ويبدأ العصر الذهبي للحضارة الفينيقية مع نهاية الألف الثاني قبل الميلاد , فإن العصر الذهبي لليونان يتأخر عنه نحو 350 عام على أقل تقدير .

ويمكن للمرء أن يفهم مدى الصعوبة في تقبل الأوربيين لفكرة أن الفينيقيين هم اساتذة اليونان ومن نقل لهم الحضارة وأوقد شعلتها , في حين أن الفينيقيين هم الكنعانيون الذين ينحدرون من ذات الأصول العربية . لكن الحقائق التاريخية لايمكن اخفاؤها. يقول المؤرخ الأغريقي هيرودوت : ” كان الفينيقيون الذين رافقوا قدموس الى بلاد اليونان وأقاموا فيها قد أدخلوا معهم الكثير من المعارف , من بينها تلك الأحرف التي كانت برأيي مجهولة سابقا في هذه البلاد .” (2) فحسب هيرودوت فإن الاسطورة الكنعانية التي تحكي عن اختطاف جوبيتر لأوربة الكنعانية الجميلة ابنة آجينور ملك صور , وسفر أخيها قدموس وأمها تيليفاسا وأخويها تاسوس وكليكس للبحث عنها وإعادتها , ثم استقرار قدموس في بلاد اليونان ليست محض اسطورة , لكنها تحكي بالرمز قصة هجرة حقيقية لفرع من الكنعانيين الفينيقيين إلى بلاد اليونان واستقرارهم هناك ونقلهم كثيرا من المعارف ومنها الأبجدية الفينيقية .

وفي سبيل الانفكاك من اعتراف مرير كهذا لم يكتف الباحثون الأوربيون بإعطاء الأركيولوجيا الفينيقية أهمية ثانوية لكنهم حاولوا جاهدين فك الارتباط بين الفينيقيين والعرب , وتقديم الفينيقيين باعتبارهم جنسا آخر , ويبدو أن تلك المحاولة التي سادت في الفترة السابقة قد انهارت اليوم كما يتضح من كتاب جان مازيل المختص بتاريخ الفينيقيين والذي أمضى ست سنوات يجوب خلالها البلدان المتعددة بحثا عن آثارهم قبل كتابة مؤلفه ” تاريخ الحضارة الفينيقية ( الكنعانية ) والذي يذكر فيه أن أصولهم من جنوب شبه الجزيرة العربية, لكن المؤرخ( ج. كونتنو) في كتابه ” الحضارة الفينيقية ”  وضع تصورا أكثر وضوحا وتماسكا لأصول الفينيقيين – الكنعانيين حيث يقول في معرض الحديث عن تاريخ بناء مدينة صور الآتي :  “ويبدو في ضوء الإكتشافات الحديثة أن التاريخ الذي حدده هيرودوت ( يقصد لبناء صور ) وكان تاريخا تقريبيا هو التاريخ المطابق للحقيقة , ويوضحه مانعلم من أنه في أول القرن السادس والعشرين قبل الميلاد حدثت هجرة سامية قوية بادئة من شمال سورية , وهي المنطقة التي أطلق عليها البابليون القدماء اسم بلاد أمورو , بمعنى أرض المغرب , وهؤلاء الساميون هم الذين أسسوا أسرة أجادة أو “أكاد”على يد الملكين سرجون ونرام سين , وكانوا من الشعوب الفاتحة الكبيرة …. فالراجح على كل حال هو أن حركة الساميين البادئة من أبواب فينيقية اندفعت في قوة تتيح لها التكاثر في وادي الرافدين , وفي آسيا الصغرى بل تتيح لها أيضا مد أحد فروعها على طول الشاطىء السوري , وعلى هذا الأساس ينطبق التاريخ الذي حدده هيرودوت لتأسيس صور في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد انطباقا كافيا على تاريخ استقرار الساميين استقرارا دائما تاما في البلاد ” كما يقول في مكان آخر : ” ونحن نسلم اليوم أن الفينيقي يدخل في مجموعة الكنعانيين ونصنف اللغة الكنعانية ضمن اللغات السامية ” (3) واسم كنعان كان يطلق في الألف الثاني قبل الميلاد على الداخل السوري وعلى الشريط الساحلي في الوقت ذاته .                                                                 

وتلك النظرية في أصول الفينيقيين الكنعانيين تمتلك درجة معقولة من المصداقية , وتتطابق مع نظرية ترى أن شمال سورية هو موطن أصيل للساميين , وأن هجرات الساميين قد حصلت منه نحو بلاد الرافدين كما نحو الغرب والجنوب من بلاد الشام .

ويتضح اتساع وعمق التأثير الفينيقي في العالم حين نجد بصماتهم على امتداد شمال افريقيا وفي أهم جزر البحر الأبيض المتوسط من قبرص الى كريت وسردينيا ومالطة حتى مستعمرتهم المشهورة في ايبزا وصولا الى مضيق جبل طارق وفي شبه الجزيرة الايبرية التي كانت لهم مثل أمريكا الجديدة للأوربيين خاصة بعد هجرتهم الأولى من صور التي دمرها الآشوريون في المئة السادسة قبل الميلاد , والهجرة الثانية بعد تدمير قرطاجة على يد الرومان عام 147 قبل الميلاد . وقد استطاع القرطاجيون الفينيقيون في ايبريا عقد معاهدة مع روما بعد الحرب البونية الأولى عام 228 قبل الميلاد , وبموجب تلك المعاهدة فقد بسطت قرطاجة نفوذها على مساحة واسعة من ايبريا تصل حتى تهر الايبرو كانت تدار من قبل قرطاجة وتقدم لها المحاصيل الزراعية والمؤن وتدفع لها الضرائب  .

وهناك مؤشرات غير مؤكدة لتجارتهم مع الجزر البريطانية, أما رحلاتهم الى وسط وغرب افريقيا بحثا عن العاج والذهب والسلع الأخرى فقد كتب عنها المؤرخون اليونانيون :

” فنص هذه القصة الذي وصل الينا هو عبارة عن ترجمة يونانية لقصة ” حنون ” الفينيقي ( الذي وصف الرحلة الى غرب ووسط افريقية ) ووضعها في معبد الأله بعل – حمون في قرطاجة وترجع الترجمة الى نهاية القرن الرابع أو بداية القرن الثالث قبل الميلاد ……ومما لاشك فيه أن الرحلة حقيقية , وأن هدفها كشف أسواق جديدة وأنها تقررت ونفذت بناء على قرار من مجلس الشيوخ القرطاجي ” (4)

ورغم أن المدن الفينيقية شرق المتوسط ( بلاد الشام ) لم تتوحد في إطار سياسي , وبالتالي لايمكن الحديث عن دولة فينيقية , الا أن سيطرة البحرية الفينيقية على البحر الأبيض المتوسط والتي تعززت بعد العام 700 قبل الميلاد , والثراء الكبير للفينيقيين بفضل تجارتهم العالمية الواسعة قد دفعهم الى انشاء عدد كبير من المستعمرات ومنها قرطاجة التي تحولت الى امبراطورية بعد أن امتلكت جيشا قويا تقوده نخبة قرطاجية وتموله قرطاجة الغنية ويضم من الجنود اضافة للقرطاجيين الليبيين والايبريين وغيرهم عددا كبيرا من المرتزقة والعبيد .وفرضت سيطرتها التامة على شمال افريقيا وشبه الجزيرة الايبرية وأجزاء من افريقيا ثم وصل طموحها للسيطرة على روما في ذلك الصراع الدامي الذي أسفر في النهاية عن تدمير قرطاجة تدميرا تاما وإنهائها عسكريا وسياسيا . غير أن النفوذ الحضاري للفينيقيين ولقرطاجة لم ينته كما انتهى النفوذ العسكري والسياسي , بل بقي لفترة طويلة جدا في شمال افريقيا , أما في ايبريا التي هاجر اليها القرطاجيون بعد خراب مدينتهم فقد اضافت هجرتهم للنفوذ الفينيقي القديم قوة دفع جديدة بحيث أسفر عن سيادة الحضارة الفينيقية في ايبريا وتشكيل الهوية الايبرية كما سوف يناقش لاحقا .

تكون العالم الفينيقي- الكنعاني شرق المتوسط من مجموعة من المدن , وكل مدينة كانت تحكم نفسها بنفسها , فهو عالم شبيه بالعالم اليوناني غير أنه أقدم منه , وفي المدينة – الدولة تطور نظام الحكم فيها نحو الملكية , لكن سلطة الملك لم تكن مطلقة , بل وجد هناك مجلس الشيوخ المكون من كبار التجار في المدينة , وكان بإمكان مجلس الشيوخ في صور اتخاذ القرارات حال غياب الملك , أما في صيدا فكانت صلاحية مجلس الشيوخ أبعد من ذلك إذ كان بامكانهم اتخاذ قرارات مخالفة لقرار الملك , كما أن عددهم في صيدا كان مئة عضو .                                                                                                 

ومثل ذلك النظام كان مطبقا أيضا في قرطاجة , وشيئا فشيئا بدأت تبرز قوة مجلس الشيوخ على حساب قوة الملك , وفي النهاية أصبح مجلس الشيوخ هو الحاكم الفعلي , واستطاع رؤساء الأسر الثرية الإستيلاء على الحكم وتحولت المدن الفينيقية الى حكم الأقلية الأرستقراطية (الأوليغاركية) كما حدث في اليونان (5)

 

الإسهامات الفينيقية الحضارية                                                                                                

 وفيما عدا الأبجدية الصوتية الهامة للغاية  تعزى للفينيقيين إسهامات عديدة في تطور الحضارة الانسانية :

* الملاحة:  فهم البحارة الأوائل الذين جابوا البحار والمحيطات حتى توغلوا في المحيط الأطلسي . ويمكن للمرء أن يستنتج بسهولة أن تفوقهم البحري ماكان له أن يظهر لولا معارفهم الفلكية .

* الفلك :  يبدو أن علم الفلك كان مألوفا لديهم ومن شواهد ذلك أن نجمة القطب بقيت زمنا طويلا تسمى ” النجمة الفينيقية “

* فن هندسة وتشييد المعابد والمدن . تذكر الروايات والتوراة أن سليمان استعان بالمعلمين والصناع من صور الكنعانية لبناء الهيكل . وتشهد المعابد الفينيقية كما في بعلبك بمدى تطور فن االتشييد والبناء , ومن المحتمل أن المعابد اليونانية بنيت على الطريقة الفينيقية مثلما أن الالهة اليونانية نقلت  من فينيقيا .

* صياغة الحلي والمواد الثمينة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة . ومن المسلم به أن الصناعة الفينيقية للحلى والمواد الثمينة الفينيقية كانت ذات سمعة عالية لدى جميع شعوب البحر المتوسط وافريقيا والمناطق التي وصلت اليها التجارة الفينيقية .

*النسيج والمطرزات الفينيقية المشهورة وكانت رداء الطبقات الغنية والأمراء في اليونان وروما وغيرها .

* صناعة البرونز والحديد والمعادن ويشمل  ذلك  استخراج فلزات المعادن وفصلها عن الشوائب وصهرها وتحويلها الى  أدوات للزراعة والحرف والسيوف والدروع ..ألخ . ويبدو أن الفينيقيين كانوا الأكثر تقدما في ذلك الحقل في زمنهم .

* الصباغ الأرجواني                                                                                                            

* ينسب ” بلينوس الأكبر ” للفينيقيين اختراع الزجاج            

* استخراج المياه العذبة من البحر .                                                                                        

* صناعة السفن والصناعات الخشبيية 

وبصورة ملخصة فإن من الواضح أن الحضارة الفينيقية لعبت دورا هاما للغاية في تبادل المعارف  وربط الحضارات في حوض البحر الأبيض المتوسط من مصرية وآشورية وكنعانية ويونانية وغيرها , وأنها امتلكت هويتها الحضارية الكنعانية الخاصة التي نقلتها أيضا , وأن تلك الحضارة الكنعانية كانت بمرتبة متقدمة جدا نسبة للحضارات المعاصرة الأخرى , وذلك مايفسر عمق تأثيرها في محيطها الذي وصلت اليه , وقدرتها على نشر ثقافتها ولغتها وأبجديتها  ودمج كثير من الشعوب الأقل تطورا في بوتقتها الحضارية كما حصل في شبه الجزيرة الايبرية , وإن تصغير حجم الحضارة الكنعانية الفينيقية , ورسم صورة للفينيقيين باعتبارهم مجرد بحارة ماهرين وتجار محترفين هو انكار للحقائق التاريخية , ومحاولة لطمس دور تلك الحضارة خاصة أثرها في انطلاقة الحضارة اليونانية .

ولعل مثالا واحدا من القليل الذي وصل الينا يلقي الضوء على شمول وعمق الحضارة الكنعانية ويتمثل في كتابة المؤلفات ذات الطابع العلمي التخصصي فقد كتب القرطاجي ” ماجون ” أول موسوعة معرفية في علوم الزراعة وتربية الحيوان في اثني عشر مجلدا باللغة الفينيقية  مازال المزارعون حتى اليوم يقتدون بها ومازال يعتبر أبا لعلوم الزراعة .

فاذا حدث وأن جاء إلي شخص بهدية من مزهرية من الخزف غاية في الروعة والجمال من الصين فهل يعقل أن أفكر أن معلما ماهرا واحدا يقوم بعمل مثل تلك التحف في الصين ؟ بل لابد من التفكير أن تلك الحرفة منتشرة في الصين حتى وصلت الى ذلك الكمال , وبالمثل لايمكن التفكير أن ” ماجون ” هو وحده العالم الموسوعي القرطاجي بل لابد أن “ماجون ” كان واحدا من أعلام الثقافة والحضارة في قرطاجة حتى لو لم تصلنا بقية الانجازات المعرفية حتى الآن .

مابين فينيقية وقرطاجة وبين شبه الجزيرة الايبرية :

في كتابه أسبانيا التاريخ تقول المؤلفة : ميلفيينا مكندرك : “قبل العام 800 ق.م أسس الفينيقيون مستوطنات تجارية على طول الساحل الشرقي والجنوبي لشبه القارة الايبرية , وفي أرخبيل الجزر  المواجهة لذلك الساحل  ومنها ايبزا , ورغم أنهم ( الفينيقيين ) لم يكونوا مغرمين بالاستعمار وإلحاق المناطق بسيطرتهم فإن معارفهم التجارية والتقنية المتفوقة واتصالاتهم الثقافية خلفت أثرا عميقا في تحضر البلاد التي ألحقوها بهم , لقد فتح الفينيقيون أسبانيا على العالم المتمدن , ووضعوها على عتبة تاريخ البحر المتوسط “.

والتاريخ الأكثر اعتمادا لاستقرار الفينيقيين في ايبريا هو بداية الألف الأول قبل الميلاد حوالي 800 ق.م .

وهناك من يضع تاريخا أسبق بمئة عام أي حوالي 900 ق.م ويبدو أن الفينيقيين تقدموا في بناء محطاتهم التجارية شيئا فشيئا انطلاقا من شرق المتوسط نحو قبرص ثم كريت فمالطة ثم صقلية ثم سردينيا وصولا الى ايبزا ثم ايبريا , كما يبدو أن ايبريا في ذلك الوقت لم تكن ذات كثافة سكانية وربما بقيت مساحات واسعة منها شبه خالية من السكان , كما أن السكان فيها بحالة بدائية من الحضارة  والتوزع بحيث لم يكن من الصعب على الفينيقيين انشاء مستوطنات قريبة منهم .

وبدون شك فإن وصول الفينيقيين إلى ايبريا كان في أزمان مقاربة لوصولهم للساحل الجنوبي للمتوسط ( شمال افريقيا ) فحسب الروايات التاريخية فقد بدء بناء قرطاجة حوالي 814 ق.م وهو ذات التاريخ المقدر لاستقرار الفينيقيين في ايبريا .

ويفصل المؤرخون كما جرت عليه العادة بين مرحلتين تاريخيتين في تاريخ ايبريا القديم الأولى هي المرحلة الفينيقية والثانية هي المرحلة القرطاجية , والواقع أن قرطاجة والمرحلة القرطاجية في ايبريا هي امتداد حضاري لفينيقية والمرحلة الفينيقية فاللغة القرطاجية هي لهجة فينيقية , والكتابة القرطاجية هي كتابة فينيقية والقرطاجيون هم ابناء وأحفاد الفينيقيين . وكل مافي الأمر أن قرطاجة توسعت كمدينة أكثر من أمها صور , وفاقتها في الثروة والقوة العسكرية وبسط السيطرة على المستوطنات الفينيقية شمال أفريقية والبحر المتوسط ثم في ايبريا وقد ورثت عن صور النفوذ والخبرة التجارية والبحرية وأسرار الزراعة والصناعات والعمران والتنظيم الاداري والثقافة  .

يبدو أن اليونانيين هم من أطلقوا على سكان الساحل الشرقي والجنوبي لشبه الجزيرة اسم الايبريين وباعتبار أن الفينيقيين كانوا قد استقروا منذ قرون في الجزء الشرقي والجنوبي من شبه الجزيرة قبل وصول اليونانيين فمن المنطقي أن يكون اسم الايبريين مخصصا لهم .

واللغة الايبرية ظلت لغة السكان في زمن الرومان ,فقد جاء في الموسوعة البريطانية الفقرة الآتية حولها: ” اللغة  الايبرية  المختلفة عن الهندو – أوربية والتي ظلت تستخدم حتى أوائل  العصر الروماني على طول الساحل الشرقي , والتي كتبت بها النصوص الايبرية تتكون من 28  رسما  أبجديا ومقطعيا بعضها مشتق من الفينيقية واليونانية ( الحقيقية أن الأبجدية اليونانية كلها من الفينيقية فلامعنى لذلك ) لكن معظمها غير معروف الأصل “.

ليس صعبا أن يخمن المرء أن اللغة الايبرية هي لغة سامية قريبة من الفينيقية تكلم بها وكتبها الايبريون الفينيقيون الذين استقروا في شرق وجنوب شبه الجزيرة وامتدت مستوطناتهم كما سبق على طول الساحل الشرقي الجنوبي وذلك قبل وصول اليونانيين بثلاثمئة عام تقريبا والذين أنشؤوا مستعمرتين صغيرتين فقط في أقصى الشمال الشرقي بحلول العام 575 قبل الميلاد .

تظهر الآثار المكتشفة لسفينة غارقة اغريقية متجهة الى الشاطىء الشرقي لشبه الجزيرة أكثر من كونها متجهة الى الجزء الجنوبي أو الغربي تاجر بها وسطاء قرطاجيون تحمل بضائع مختلطة منها أوعية فخارية مزخرفة  يونانية وسبائك معدنية وأحجار طواحين ووبعض تلك البضائع حفرت عليها أسماء قرطاجية مثل ” عبد ملقارت ” .

تمتد المستوطنات الأولى للفينيقيين حسب الآثار المكتشفة من منطقة فيلاريكوس بين قرطاجنة والميرا على الساحل الشرقي الجنوبي لشبه الجزيرة وحتى قادس على الساحل الغربي الأطلسي بطول حوالي 535 كم , وتدل القبور المكتشفة فيها على وجود طبقة أرستقراطية فينيقية فقد كانت قبورهم مجهزة بالأشياء الثمينة من البلد الأم مثل الجرات الرخامية لحفظ الخمر والفخار اليوناني والحلى الذهبية المرهفة الصنع , أما القواعد البحرية فقد إنشئت من جزر البليار على بعد 265 كم شرق الشاطىء إلى جانب جزيرة بالما وحتى قادس على المحيط الأطلسي وذلك لتجارة السمك المملح والأصباغ والنسيج وقد استمر ازدهار ايبيريا الفينيقية من 800 ق .م حتى سقوط صور بيد البابليين عام 573 ق.م وإخضاعهم فينيقيا . وبعد ذلك تراجع ازدهار المستعمرات الفينيقية في ايبريا حتى القرن الرابع قبل الميلاد , بالرغم من ذلك فقد استمرت العديد من المستعمرات حية , وازدهرت كل من أدرا , باريا , كارامونا ( قرمونة ) , قادس , مالاقا , المنكا ( المنكب ) , تحت ظل النظام التجاري الذي أسسته قرطاجة لوسط وغربي البحر الأبيض المتوسط . كما أصبحت ايبزا مستوطنة قرطاجية رئيسية , وقد كانت تنتج صلصة السمك , والصبغ والملح والصوف , وفي ايبزا انشىء في أحد الكهوف معبد لتقديم القرابين للآلهة عناة , وبعد العام 400 ق.م دخلت جزر البليار ( قرب بالما) في فلك المنظومة التجارية لايبزا .

ومما سبق نلاحظ أن المستوطنات الفينيقية في شبه الجزيرة كفت منذ أمد طويل عن أن تكون مجرد رأس جسر للتجارة الفينيقية أو مجرد مستعمرة لاستخراج المعادن , وتحولت الى مراكز مدنية مزدهرة ومستقلة , ولاشك أنها استقطبت الفينيقيين الطامحين للثروة , وأولئك الذين هجرتهم الحرب التي شنها البابليون على صور بقيادة نبوخذ نصر حيث كتب في إحدى مسلاته يقول “أنه خلع ملك صور الشرير ووضع ملكا آخر وشتت أعداء بابل إلى جهات الأرض الأربعة” .

كما يتضح مما سبق أن الوجود الحضاري للفينيقيين في شبه الجزيرة لم ينقطع سواء مع سقوط صور بيد البابليين أو بعد تدميرها تدميرا تاما على يد الاسكندر المقدوني عام 332 ق.م  بل استمر مزدهرا بعد أن تحولت قرطاجة الى العاصمة البديلة للعالم الفينيقي .

وفي عام 237 ق.م وبعد هزيمة قرطاجة في الحرب البونية الأولى , شنت قرطاجة هجوما على جنوب شبه الجزيرة الايبرية بقيادة حملقار برقة القائد القرطاجي والد هاني بعل القائد القرطاجي الشهير , وأسست عاصمة جديدة قرب قرطاجة نوفا ( قرطاجنة) في عام 228 ق.م وبعد وفاة حملقار برقة وتسلم هاني بعل القيادة تابعت قوات قرطاجة التوسع في شبه القارة وصولا الى نهر الايبرو( أبرة بالتسمية الأندلسية) وهو الحد الذي فرضته روما للمستوطنات في الحرب البونية الأولى , وبعد ذلك انفجرت الحرب البونية الثانية عام 218 ق.م . بين قرطاجة وروما وقد اندلعت شرارتها في التنازع على ساغونتو الايبرية القريبة من الساحل الشرقي شمال فالنسيا ب 30 كم تقريبا وكانت متحالفة مع الرومان حين حاول القرطاجيون السيطرة عليها , ورغم مهاجمة هانيبعل لروما فقد خسر القرطاجيون المعركة في ايبريا على يد شيبينون الافريقي القائد الروماني الكبير ( بابليوس كورنيلوس سكيبو الافريقي ) عام 206 ق . م مما أسفر عن خسارتهم للسيطرة على شبه الجزيرة  الايبرية بكاملها لاحقا على يد الرومان .

والسيطرة هنا ترادف السيطرة العسكرية والادارية ولا يعني ذلك بالضرورة انتهاء الحضارة الكنعانية – الفينيقية وتغير ثقافة السكان ولغتهم وعاداتهم , ولنا أن نلاحظ أن التاريخ المعتمد الموثق بالكشوفات الأثرية لاستقرار الفينيقيين في ايبريا يعود الى 600 عام قبل انتصار الرومان العسكري في 206 ق . م

وبدون شك فقد كانت الحضارة الفينيقية قد رسخت وجودها في ايبريا على كل الأصعدة , وقد تفاعل معها السكان الأصليون الآخرون كالسيلت المنحدرين من أصول مختلفة والذين سكنوا وسط وشمال ايبريا , وكانوا في حالة شديدة التخلف نسبة إلى حضارة الفينيقيين وبالتالي فقد اصطبغوا بالتدريج بالصبغة الحضارية الفينيقية كما يحدث دائما عندما يتعايش شعب يتفوق بالحضارة تفوقا كبيرا مع شعب آخر مجاور .

لقد دخل الفينيقيون ايبريا عندما كان وضعها يشابه وضع أمريكا قبل دخول الأوربيين , أراض شاسعة , وأنهار وثروات معدنية غير مكتشفة , وعدد قليل من السكان الموزعين على شبه القارة الواسعة , فمنذ بداية العصر الحجري الحديث وحسب المكتشفات الأثرية فقد وصلت أنماط التحضر المرتبطة بالزراعة المنزلية وتربية الحيوان والأدوات الحجرية المهذبة مما يميز ذلك العصر إلى ايبريا من وسط البحر المتوسط أو من شمال أفريقيا وذلك بعد العام 6000 ق.م , وتلك الأنماط الحضرية التي كانت معروفة بصورة مبكرة في جنوب وشرق شبه الجزيرة ( وهي بالمناسبة منطقة الحضارة الفينيقية الأصلية في ايبريا ) انتشرت بصعوبة وعبر فترة زمنية طويلة إلى الأماكن الأخرى من شبه الجزيرة .

بعد العام 3200 ق .م بزغ فجر جديد للحضارة بتطور أدوات الانتاج والنظم الاجتماعية حيث ترافقت صناعة النحاس مع الميل إلى اجتماع السكان بتجمعات بشرية أكبر من السابق (نشوء القرى) لكن الاختلاف في الموارد الطبيعية وكثافة السكان كان يعني أن الأقاليم لاتتطور بصورة متماثلة .

أما مراكز الابتكار والتطور فقد عرف تمركزها في المنطقة الجنوبية والجنوبية الغربية قرب الساحل لأسبانيا الحالية والبرتغال .

وفي العصر البرونزي تشير الاختلافات بين أنماط التجمعات البشرية والتقاليد إلى أن ذلك العصر قد تميز بعدم التجانس للأقوام التي عاشت فيه , ولكن بنوع من الموزاييك الاجتماعي والذي يضم مجتمعات قبلية مركزية وأيضا اتحادات مكونة من وحدات سكانية أصغر وأقل ترابطا .

ومثل تلك المجتمعات العائدة للعصر البرونزي كانت سائدة حين قدم الفينيقيون عام 800 ق . م .

وقبل العودة إلى ” كيف تفاعل سكان ايبريا الأصليون مع الحضارة الفينيقية الوافدة ” نقف قليلا مع الحضور اليوناني في ايبريا والذي يمكن بسهولة ملاحظة كيف يتم تضخيمه بطريقة غير  معقولة مقارنة مع الحضور الحضاري الفينيقي .

وللعلم مسبقا فالمعلومات هنا مستقاة مباشرة وبدون تعديل من الموسوعة البريطانية ” بريتانيكا ” .

قدم الاغريق من ايجه إلى السواحل الايبرية لكنهم وحتى العام 575 ق .م لم يؤسسوا سوى مستوطنتين صغيرتين كفرعين لمرسيليا في أقصى الشمال الشرقي لايبريا في امبرياس وروسس , وعلى أية حال فقد كانت هناك تجارة يونانية أقدم بزيت الزيتون والعطور والآنية الفخارية الممتازة والجرار البرونزية والتماثيل والتي حملت في السابق عبر مضيق جبل طارق بواسطة الفينيقيين , وقد تطورت تلك التجارة بين 800-500 ق . م وقفزت بصورة حادة بين العامين 600-550 ق .م وقد توجهت نحو المراكز السكانية على طول الساحل الجنوبي وبصورة دقيقة أكثر نحو المناطق  والتجمعات السكنية ذات الصبغة الفينيقية .

وتلك القصص التي جمعها المؤرخ اليوناني هيرودوت حول مملكة ترشيش ( ترتيس ) , وحاكمها الملك أرغانثونيوس ترتبط بتلك التجارة القديمة في أواخر القرن السابع قبل الميلاد , حيث يذكر هيرودوت أن أرغانثونيوس قدم مساعدة بروح الصداقة للقبطان كولايوس اليوناني بعد أن هبت على سفينته الرياح الشديدة , وقد صورت ترشيش كسوق للمعادن حيث استبدل كولايوس بضائعه بثروة من السبائك الفضية , وقد تذكر الاغريق تلك المملكة كعالم أسطوري بعيد عن الوصول اليه . وترشيش في الواقع هي المجتمع المتأخر من العصر البرونزي في الجنوب الغربي لايبريا الذي كان يحتوي على مناجم وادي نهر تنتو ( بالعربي لبلة ) في أراضيه . وقد ازدهر ذلك المجتمع بين 800-550 ق .م .

وبعد العام 450 ق .م تجدد الاهتمام اليوناني بايبريا , مع كونه اتجه نحو شرق شبه الجزيرة بدلا من جنوبها أو غربها , وقد كانت البضائع اليونانية تسوق بصورة واسعة من قبل وسطاء فينيقيين كما تفيدنا آثار السفينة الغارقة قرب جزيرة بالما , فالسفينة الغارقة كانت مشحونة بكميات مختلطة من البضائع تضمنت أحجار طواحين وسبائك والفخار اليوناني المزخرف وبعض تلك البضائع تم تعليمها باسماء قرطاجية مثل عبد ملقارت , أو بعل رحيم .

والآن لنلخص ماذا تعني الفقرة السابقة بالنسبة للحضور اليوناني في شبه الجزيرة الايبرية .

ببساطة ووضوح فهي تعني أن ذلك الحضور كان محدودا جدا , فالمستوطنتان الصغيرتان في أقصى شمال وشرق ايبريا كانتا فرعين صغيرين للوجود اليوناني في مرسيليا الفرنسية وكما يبدو فإن ذلك الفرعين كانا وظيفيين بدون أي امتداد نحو بقية أنحاء ايبريا , وأن الحضور اليوناني الآخر كان مجرد أعمال تجارية لبضائع يونانية تم احضارها وتسويقها بسفن فينيقية وتجار فينيقيين وبيعت لمجتمعات فينيقية .

ذلك كل ما في الأمر .

ونعود الآن الى السؤال : كيف تفاعل السكان الايبريون الأصليون مع الحضارة الفينيقية الوافدة ؟

تأثرت الجماعات السكانية الأصلية في شبه الجزيرة الايبرية بعمق وقوة بالثقافة الفينيقية بالدرجة الأولى وبصورة ثانوية بالثقافة اليونانية , وقد تبنت قيم وتقنيات حضارات شرق المتوسط , وفي البداية كان التأثر يقتصر على أعداد محدودة ثم اتسع بالحجم وبالخطوات دافعا كل المجتمعات نحو التحول , وفي كل مكان كانت عملية التغيير سريعة وكثيفة ,  شاملة عدة أجيال بين العام 700 ق.م والعام 550 ق . م  وبحلول العام 550 ق.م أصبح من الممكن ملاحظة ثقافة ايبرية مميزة في كافة المنطقة الجنوبية والشرقية من شبه الجزيرة الايبرية , تأسست الحضارة الايبرية على أسس مدنية وظهرت مدن حقيقية ذات أصالة بعد العام 600 ق .م ذات مظاهر شبيهة بالمستوطنات الفينيقية واليونانية , كبيرة ومتعددة خاصة في اقليم اندلوسيا واسونا ولاحقا في الجانب الآخر من شبه الجزيرة الايبرية في الشمال الشرقي عند غالسيا وتراغونا وجيرونا , وكانت المدن مراكز سياسية ( المدينة – الدولة ) ملحقة بها عادة بعض الأراضي حولها وترتبط مع مدن أخرى بروابط كونفدرالية أو هي مستقلة تماما . وقد ازدهرت المدن في وسط وغرب اندلوسيا اعتبارا من العام 550 ق.م بدون انقطاع , لكن مدنا عديدة في شرق وجنوب اندلوسيا تعرضت للتدمير في منتصف القرن الرابع ق.م بفعل الاضطراب الذي رافق التحول السياسي الذي قاده القرطاجيون في تلك المنطقة .

اعتمد الاقتصاد على الزراعة ومحاصيل العنب والزيتون ذات الأصول المشرقية , وقد أدخلت الصناعات الحديدية من قبل الفينيقيين وكانت الأدوات الحديدية اللازمة للزراعة متاحة في كل مكان من شبه الجزيرة بحلول العام 400 ق.م , وكذلك أدوات الحرب وقد تطورت الصناعات الحديدية ودفعت أعمال مثل صقل    الأسلحة وترصيعها تلك الصناعات الى أعلى المستويات .

وبإدخال الدولاب السريع الى صناعة الفخار أمكن إنشاء مصانع تنتج الفخاريات المنزلية والأوعية الفخارية التخزينية بكميات كبيرة .

أما الرصيد الفني للرسومات والأشكال فقد تطور من التصميمات الهندسية إلى التركيبات الفراغية و التماثيل المتنوعة بعد العام 300 ق.م  واستمرت مناجم الفضة في العمل عند نهر التنتو وامتدت عبر  الوادي الكبير  ” حتى المنطقة حول كاستولو والشاطىء عند قرطاجنة .                          Guadalquivir valley”

“: في الغرب والشمال عاشت مجتمعات مختلفة وصفت بالمجتمعات السيلتية.                Celts السيلت “

وقد عرفت استخراج الحديد منذ العام 700 ق.م , وكان اقتصادها مبنيا على الزراعة وتربية الحيوانات , وتميزت بالتجمعات الصغيرة ذات التحصينات الدفاعية التي تشبه القرى , وتسمى كاستروس أي أنها لم تعرف المدن , وقد استخدمت لغات من أصول هندو-أوربية ( السيلتية واللوستانيانية ) لكنها كانت منقسمة سياسيا وثقافيا الى قبائل وأماكن مختلفة بالعشرات , أماالقبائل السلتية التي عاشت وسط شبه الجزيرة وكانت على اتصال بالايبريين فقد تبنت كثيرا من ثقافة وعادات الايبريين بما في ذلك الفخار المصنع بواسطة الدولاب , والتماثيل الحجرية , والكتابة الأبجدية الايبرية , لكنهم لم ينشئوا مدنا لهم حتى القرن الثاني قبل الميلاد .أما في أعماق الداخل والشمال لشبه الجزيرة فلم يصل نمط حياة الايبريين المتوسطيين الى نومانتيا الا بعد سيطرة الرومان عام 133 ق.م وفي استورياس عام 19 ق.م  .

                                      

العصر الروماني                                                                                                                

بدأ اهتمام الرومان بايبريا بعد أن قام القرطاجيون بحملات عسكرية أدت الى سيطرتهم شبه التامة على شبه الجزيرة , وقد جاء ذلك عقب الحرب البونية الأولى والتي خسرت فيها قرطاجة السيطرة على صقلية وسردينيا وقد اندلعت الحرب في النزاع على اقليم ساغونتوم شرق ايبريا والتي حاصرها هاني بعل .  وفي البداية أحرز القادة الرومان تقدما كبيرا في السيطرة على ايبريا , لكنهم سرعان ما تراجعوا بعد هزيمتهم الكارثية أمام القرطاجيين عام 211 ق.م. , والتي دفعتهم للتراجع حتى نهر الايبرو , لكن القائد الروماني الشهير شيبيون الافريقي ( سكيبو أفريكانوس ) استأنف القتال عام 210 ق.م وفي النهاية تمكن من الانتصار التام على القرطاجيين وانهاء وجودهم العسكري في ايبريا .  وشيئا فشيئا أحكم الرومان قبضتهم على شبه الجزيرة , وقسموا البلاد الى اقليمين كبيرين , هسبانيا الأدنى وهسبانيا الأبعد , وذلك في عام 197 ق .م        

   Nearer and Further Spain (Hispania Citerior and Hispania Ulterior)

                                                           

وتلك هي المرة الأولى التي ظهر فيها اسم هسبانيا والذي حرف بعد ذلك الى اسبانيا .

ومن سوء حظ الأسبان المتعصبين لقوميتهم الأوربية أن الاسم هسبانيا ذو أصل فينيقي وفق المؤرخين , وهو مركب من ثلاثة مقاطع اي وسبان أو شبان ويا ومعناه جزيرة الأرانب وفق بعض التفسيرات .

ومن المحتمل أن الفينيقيين كانوا يطلقون ذلك الاسم على الجزء الشرقي الجنوبي من البلاد , وباعتبار أن السيطرة الرومانية بدأت منه فاعتبر هو الاقليم الأقرب ( هسبانيا  القريبة ) وأما هسبانيا البعيدة فهي الاقليم الأوسط والغربي .

ولابد من الاشارة هنا أن السيطرة العسكرية الرومانية واجهتها مقاومة عنيفة خاصة في أواسط وشمال ايبريا ولم تستطع روما اتمام السيطرة واخماد المقاومة سوى في عام 133 للميلاد عند اخضاع قسم من شعب ايبريا (السيلت – ايبري ) والسيطرة على مدينته الرئيسية نومانتيا في وسط وشمال ايبريا بعد حصار طويل قاده سكيبو افريكانوس الثاني .

لم يكن هم روما في احتلالها ايبريا ( هسبانيا ) سوى تكريسها كقاعدة عسكرية ثم جباية الضرائب للخزينة , لكن الأمر بدأ يختلف تدريجيا , فقد اكتشفت روما أن شبه الجزيرة الايبرية مصدر هام للمعادن والمنتجات الزراعية بما في ذلك القمح وزيت الزيتون والخمر , وأن سكانها خاصة في القسم الشرقي والجنوبي تجار أثرياء متحضرون  وحرفيون مهرة وزراع أصحاب أراض واسعة ويمكن التفاهم معهم باعتبارهم  بحاجة لحكم قوي مستقر ولاقرار النظام والقانون ومثل تلك الشراكة يمكن أن تؤسس لوجود روماني دائم .

ومن وجهة نظر الايبريين فربما توصلوا الى أن مواجهة الامبراطورية الرومانية التي أخضعت القرطاجيين ودمرت عاصمتهم في شمال افريقية , وأنهت وجودهم العسكري في ايبريا أمر يفوق طاقتهم , والأفضل الخضوع للسيطرة السياسية والعسكرية لروما مقابل شيء من الادارة الذاتية تمثلت في مجالس بلدية محلية تتسلم ادارة المدن وتكون مرتبطة بمندوب لروما كصلة وصل مع الحكومة المركزية .

وقد برهن الرومان في هسبانيا كما في المناطق الأخرى التي خضعت لروما عن حنكة سياسية وقدرة على تفهم خصائص الشعوب المختلفة , وتركوا لهم مجالا واسعا للنشاط الاقتصادي والثقافي والديني مقابل اعترافهم بهيمنة الامبراطورية الرومانية ودفعهم الضرائب , لكنهم كانوا غير متسامحين أبدا مع نزعات الاستقلال والتمرد كما حصل مع مملكة تدمر في سورية التي خرجت عن سيطرة روما بعد أن توسعت وضمت بلاد الشام حتى الأناضول والجزيرة وغربا حتى البحر المتوسط وجنوبا حتى مصر , وقوي جيشها وخرجت عن إرادة روما فكانت نهايتها تدميرا شاملا لعاصمتها واحراقها عام 273 م .

أنشأ الرومان معسكرات للجيش لتأمين سيطرتهم على هسبانيا , وقد توسعت بعض تلك المعسكرات لتتحول الى مدن صغيرة أقام فيها المحاربون الرومان المتقاعدون وعائلاتهم , ومنح بعضهم أراض زراعية , كما شهدت الفترة الرومانية زواج الرومان بالنساء الايبريات ونشوء جيل تختلط فيه المورثات الجينية الرومانية بالايبرية .

وبدون شك فقد تأثرت هسبانيا بما جلبه الرومان معهم من القوانين ونظم الادارة المتطورة , وكذلك بالأعمال الهندسية كشق الطرق وبناء الجسور وأنظمة الري وتنظيم المدن .

وفيما يتعلق بالحياة الدينية فقد استمرت العبادات السابقة الكنعانية ضمن العصر الروماني الى جانب الآلهة الرومانية , وارتدت الآلهة الفينيقية أحيانا شكلا رومانيا والمثال الصارخ لذلك هو التمثال المكتشف في قادش) لهيرقل الذي هو ملقارت الأله الفينيقي أيضا .

ويبدو أن المسيحية الأولى وجدت لها أرضا خصبة في أسبانيا لعدة أسباب منها جذورها الثقافية السامية التي تنتمي لذات الجذور الثقافية للفينيقيين , ومن اللافت أن الكنيسة في اسبانيا كان لها دور في ارشاد الامبراطور قسطنطين بعد أن تحول للمسيحية .           

لكن المؤرخين الغربيين يبالغون في تأثير المرحلة الرومانية على هوية الايبريين فيتحدثون عن تبدل جذري في تلك الهوية نحو الرومانية , بدافع التخلص من الطابع الفينيقي الكنعاني واعتباره أثرا منتهيا في غياهب التاريخ من جهة , ولتأكيد الهوية الأوربية لاسبانيا بصورة حاسمة .

ومعظم المؤرخين الغربيين السابقين في القرن التاسع عشر حتى بعد منتصف القرن العشرين بقليل , يميلون الى بدء التاريخ القديم لاسبانيا من العصر الروماني , وكانوا لايجدون ضرورة لبحث ماقبل ذلك سوى بأضيق نطاق .

لكن المكتشفات الأثرية الضخمة التي تمت بستينات القرن الماضي أحدثت صدمة كبيرة لعلماء الأركولوجيا وكان لابد من اعادة النظر بالتاريخ الأسباني وخصوصا ذلك الجانب منه في مرحلة ماقبل الميلاد, وفي كتاب “الفينيقيون في أسبانيا – مجموعة دراسات اركولوجية للفترة بين القرن الثامن حتى السادس قبل الميلاد “- ترجمتها من الاسبانية للانكليزية . مارلين بيرلنغ : ” إن الحفريات التي بدأت في 1960 م مثلت نقطة تحول قادت انتباه المتخصصين لظاهرة المستوطنات الفينيقية في شبه الجزيرة الايبرية , ومنذ ذلك الوقت أظهرت الأبحاث المعمقة أن المستوطنات الفينيقية في شبه الجزيرة أوسع بكثير مما كان يعتقد في السابق , مع معرفة أن التجمعات السكنية الفينيقية امتدت على الساحل من مصب نهر سادو جنوب لشبونة في البرتغال الحالية مرورا بمضيق جبل طارق وحتى مصب نهر سيغورا في مقاطعة اليكانتي .”

وفي حين انتهى الأركولوجيون الجدد للتسليم بعمق وشمول الحضارة الفينيقية في ايبريا الى درجة اعتباركونها طبعت شبه الجزيرة بطابعها حتى بالنسبة للشعوب ذات الأصول الأخرى غير السامية كالسيلت , فقد أصبح من الضروري تضخيم دور المرحلة الرومانية وجعلها قد قضت بصورة تامة على الهوية الايبرية الأصلية ذات الطابع الفينيقي واستبدلتها بالهوية الرومانية

والحقيقة أن الاصرار على اقرار ذلك كأمر مسلم بها ليس له سند علمي واضح .

فالامبراطورية الرومانية حكمت مناطق شاسعة حول حوض البحر الأبيض المتوسط وأوربة , ووجدت في تلك المناطق حضارات متعددة وشعوبا مختلفة , ورغم تأثرها بالمرحلة الرومانية , لكن هويتها الحضارية لم تتبدل على طول قرون مديدة .

وأوضح مثال على ذلك وأقربه لأسبانيا هو بلاد الشام أو سورية القديمة , والتي تتشابه في طبيعتها من حيث المناخ والموقع على البحر المتوسط واقتصادها وسكانها ( الآراميون والكنعانيون الفينيقيون )  تشابها كبيرا مع اسبانيا , فقد احتلها الرومان أيضا اعتبارا من العام 64 ق.م على يد القائد العسكري بومبيوس الكبير , وبقوا فيها حتى العام 637 م أي حوالي 700 عام , فهل تغيرت هوية سورية الآرامية-الكنعانية واستبدلت بهوية رومانية ؟

ففي مملكة تدمر العربية التي كانت جزءا من الامبراطورية الرومانية تظهر الاثار تمثل النمط الروماني في بناء القصور والمعابد وتنظيم المدن , أما معبدهم الكبير فكان مكرسا للإله بعل اله الآراميين والفينيقيين وليس لآلهة روما . وتجارتهم كانت تتم باللغة الآرامية مع الشرق وباللغة اللاتينية مع أوربة الرومانية .

وأسماؤهم كانت أسماء عربية باضافات رومانية مثل زنوبيا وهي ذاتها زينب العربية .فالتأثيرات الرومانية وجدت الى جانب الميراث الحضاري الأصلي وليس بدلا عنه .

وعند فتح العرب المسلمين لبلاد الشام وهزيمة الجيوش البيزنطية لم تكن بلاد الشام رومانية بعد 700 عام من الاحتلال الروماني , بالتأكيد كانت هناك مؤثرات رومانية باقية , لكن اللغة اللاتينية لم تحرز أي تقدم على صعيد السكان الأصليين فبقيت اللغة الآرامية سائدة حتى جاءت أختها العربية فحلت مكانها بالتدريج , ولاشك أن اللغة اللاتينية كانت هي اللغة الرسمية للحكم الروماني , لكنها بقيت محصورة بالحياة الرسمية ولم تتمكن من ازاحة الآرامية على الاطلاق .

لاشك أن الرومان أنشؤوا في سورية معسكرات للجيش لتأمين السيطرة على البلاد كما فعلوا في اسبانيا , ولا شك أن قسما من الجنود وأمراء الجيش تزوجوا من سوريات ولابد أن بعضهم استقر في سورية , لكنهم جميعا ذابوا بالهوية الحضارية الآرامية – العربية لبلاد الشام فلماذا يصر المؤرخون الغربيون أن الايبريين الذين طبعتهم الهوية الحضارية الفينيقية بطابعها وكانوا هم أصحاب البلاد الأصليين ,وكانت  أعدادهم تزيد عن ثلاثة ملايين , ومدنهم مزدهرة وتجارتهم تصل الى كل مكان ومستواهم الحضاري لايقل عن الرومان رغم تفوق الرومان بالادارة والأعمال الهندسية وبقوانينهم المشهورة , لكن الهوية الحضارية يمكن لها أن تستمر ضمن ذلك التفوق كما حصل في تدمر وفي بلاد الشام رغم أن بقاء الرومان في بلاد الشام أطول من بقائهم في اسبانيا .

لابد لنا من أن نميل للتفكير أن المؤرخين الغربيين تسرعوا في اعتبار الفترة الرومانية كافية للقضاء على الهوية الحضارية الفينيقية وفرض هوية رومانية , وأن ذلك جاء بدافع الرغبة في أوربة اسبانيا وقطع كل صلة تربط ايبريا بماضيها الفينيقي الذي استمر 600 عام بدون انقطاع .

لكن ذلك التوجه نحو “رومنة ” التاريخ الايبري لم يخل من الانتقاد ورغم أن الانتقاد لنظرية الرومنة الحضارية لم يأت في المثال الذي سأورده مخصصا لايبريا الفينيقية لكنه ينطبق عليها أكثر من انطباقه على المنطقة التي كان الباحث بصدد تقييم الرومنة فيها وهي فقط وسط ايبريا .

ففي كتاب ليونارد اي كورسبن ” رومنة وسط اسبانيا – التعقيدات , التنوع , المناطق النائية الداخلية “

كتب ليونارد حول نظرية الرومنة الآتي : ” إن نظرية الرومنة هي مصطلح وصفي أكثر من كونه تعريفيا أو تفسيريا , إنها اسم مفيد لبناء أو نمط أنتجه الأخصائيون في العلوم الانسانية عملية نقل للثقافة تم بواسطتها تكامل السكان الأصليين ضمن الامبراطورية الرومانية .

لكن في السنوات الأخيرة على أية حال فإن مفهوم الرومنة والكلمة ذاتها أصبحت تحت نيران النقد .

فمفهوم الرومنة ينكشف في بنيته عن فرضيات مؤسسة على تفكير خاطىء , لم يتم اثباتها حتى الآن , وبالتالي فنحن بحاجة لاعادة بناء ذلك المفهوم ( الرومنة ) بعرض الاشكالات التي يتضمنها وإنتاج تعديلات عليه لحذف الدلالات غير الصحيحة فيه .”

وتوضح الفقرة المقتبسة أعلاه أن مفهوم ” الرومنة ” لم يعد مفهوما مقبولا عند الأجيال الجديدة من المؤرخين وعلماء الأركولوجيا , وفيما يتعلق بايبريا الفينيقية فإن الحديث عن “رومنتها ” بمعنى شطب هويتها الحضارية الايبرية تماما ومنحها هوية حضارية رومانية أصبح تفكيرا قديما باليا .

  

الفصل الثاني

 عصر القوط

خلال القرن الخامس الميلادي شهدت السيطرة للامبراطورية الرومانية الغربية تراجعا مع اجتياح القبائل الجرمانية التي استقرت على طول الحدود الرومانية والتي جاءت تحت ضغط توسع الهون , وإحدى تلك الجماعات والتي دعيت لاحقا بالقوط أعطيت الحق من قبل الامبراطور الروماني فالنس بالاستقرار داخل الامبراطورية منذ العام 376 م , لكن سوء المعاملة التي تلقاها القوط من قبل الاداريين الرومان المحليين وفشل الامبراطور في احتواء الأزمة التي نشأت بسبب ذلك أوصل الأمور للثورة , ومن ثم حدثت معركة كبيرة بين الرومان والقوط في العام 378 م قتل فيها الامبراطور فالنس وتحطم جيشه تحطيما تاما .

 , وبالرغم من حجم انتصار القوط الكبير فقد عقدوا Battle of Adrianople وهي معركة أدريانوبل

اتفاقا مع الامبراطور الروماني ثيودوسيس الأول يعترف فيه بوجودهم ضمن الامبراطورية الرومانية الغربية كحلفاء يمتلكون درجة من الاستقلال الذاتي والحديث هنا يدور حول مايشبه الفدرالية , لكن ورثة ثيودوسيس الأول كانوا أقل  قدرة على احتواء التغلغل الجرماني في الامبراطورية الرومانية الغربية , وفي عام 406 م حاول القوط الشرقيون مهاجمة ايطاليا , وضمن محاولات ردعهم عن ذلك فقد استطاعت قبائل الفاندال والسويب والآلان الدخول الى أراضي الغال واسبانيا , وبعد اجتياح وتدمير البلاد لمدة عامين , استقر السويب وقسم من الفندال في المقاطعة الشمالية الغربية من البلاد ( غالشيا ) واستقر القسم الآخر من الفندال في الجزء الجنوبي من البلاد في مقاطعة ( باتيكا) أما الآلان ذوي الأصول الآسيوية الايرانية فقد استقروا في وسط البلاد في مقاطعتي ليستوانيا وقرطاجنة , وفي ذلك الوقت بقيت مناطق تراكونة وحدها تحت السيطرة الرومانية .

وفي مرحلة لاحقة اجتاز الفاندال مضيق جبل طارق نحو المغرب عام 429 م وتمكنوا من بسط سيطرتهم على المنطقة وعلى جزر البليار حتى أعادت الامبراطورية البيزنطية احتلال المغرب عام  534 م .

وفي اسبانيا تحول السويب الوثنيون الى المسيحية الأريوسية لكنهم انقلبوا الى الكاثوليكية في القرن السادس الميلادي على يد القديس مارتين اسقف باراكا , وقد استمرت مملكتهم المستقلة في غالشيا حتى انحدار العصر القوطي في 585 م .

وما هو جدير بالملاحظة أن الوجود القوطي في شبه الجزيرة الايبرية لم يكن وجودا سكانيا كثيفا , ولم يحدث انقلابا في الديمغرافيا هناك , فالغالبية الساحقة من السكان بقيت ايبرية – رومانية ومن أصل مايقرب من ستة ملايين نسمة يقدر أنهم سكان ايبريا في ذلك الوقت لم يتجاوز عدد الغزاة البرابرة القوط مئتا الف  نسمة موزعين على الأرجاء الواسعة لايبريا .

ويمكن لنا أن نخمن أن تغييرا طفيفا فقط طرأعلى ديمغرافية سكان ايبريا خلال المرحلة الرومانية أيضا بالقياس لما كان عليه الحال في سورية مثلا , لكن ذلك يحتاج الى مزيد من الأدلة والدراسات .

فالقوط هم اساسا قبائل شبه بدائية محاربة , وسيطرتهم على ايبريا كانت بسبب ضعف وتحلل الامبراطورية الرومانية الغربية , وأيضا بسبب تحضر الشعب الايبري الذي ابتعد عن التمرس بالقتال خلال القرون الطويلة السابقة واستسلم للحماية والادارة الرومانية .

ومقاومة اجتياحات القوط والتي كانت مدمرة في البداية لم تحصل من قوى عسكرية محلية بل من القوة العسكرية الرومانية الحاكمة فقط .

وفي ظل الحكم القوطي بقيت الوظائف الادارية الهامة بيد الايبريين أو الايبريين – الرومان كما يرغب بعض المؤرخين بوصفهم أو الرومان عند المؤرخين القدماء الذين تبنوا نظرية ” رومنة ايبريا ” , وبقي هؤلاء يعملون وفق الأنظمة والقوانين الرومانية .

بعد اجتياح الفرنكيين لبلاد الغال الجنوبية وانتصارهم على القوط هناك عام 507 م اضطر القوط للانسحاب من كامل بلاد الغال عبر جبال البيرينيه نحو ايبريا وبذلك ازداد تغلغلهم في شبه الجزيرة , وأنشأ ملوكهم عاصمة في وسط البلاد ( طليطلة ) .

بالرغم من أن القوط اكتسبوا بعض الصفات الرومانية خلال احتكاكهم لمدة مئة عام مع الرومان قبل استقرارهم في ايبريا , لكن تلك الصفات ظلت قشرة رقيقة وبقي بينهم وبين السكان الأصليين الايبريين فوارق كبيرة في الثقافة والاجتماع والدين والعادات والقوانين أبقتهم بعيدين عن الايبريين .

فاللغة القوطية تختلف اختلافا كبيرا عن اللغة اللاتينية من حيث أصلها الجرماني , وهي من اللغات الهندو –أوربية وقد مرت بمراحل متعددة منذ هجرة القبائل القوطية الجرمانية باتجاه بلاد الغال وشبه الجزيرة الايبرية لكنها بقيت معزولة وظلت مستعملة ضمن نطاق ضيق في ايبريا حتى الفتح العربي الاسلامي , كما أن القوط اعتنقوا المسيحية وفق المذهب الآريوسي بخلاف أهل ايبريا الذين كانوا يدينون بالكاثوليكية .

وبالرغم من الغاء القانون الروماني الذي كان سابقا يمنع الزيجات المختلطة بين القوط والسكان المحليين في القرن السادس الميلادي ( ربما بسبب الفارق بين المذهبين الكاثوليكي والآريوسي ) فقد باءت كل المحاولات لدمج القوط بالسكان الأصليين للوصول الى نوع من الوحدة الثقافية والسياسية الى فشل مريع .

ومن الدلائل على ذلك الارتياح الكبير لدى الأهالي لعودة السلطة البيزنطية في القرن السادس الميلادي في الجنوب الشرقي من البلاد .

لكن أهم محاولة بذلها القوط للتقرب من الشعب الايبري كانت في تغيير مذهبهم المسيحي من الأريوسية للكاثوليكية التي كانت مذهب المسيحيين الايبريين على يد ريكارد ( 586-601) الذي أعلن التحول التام نحو الكاثوليكية , وبعد أن تبعه النبلاء القوط ورؤساء الكنائس فقد أزيلت عقبة كأداء أمام تقارب القوط مع الايبريين .

وبفضل ذلك وبسبب فقدان أمل الايبريين في تمكن الامبراطورية البيزنطية من دعم وجودها العسكري فقد استطاع سوينثيلا الملك القوطي( 621-631) أن يوسع هيمنة القوط على شبه الجزيرة ويضم بعض المناطق التي كانت ماتزال خاضعة للسيطرة البيزنطية في الشرق والجنوب .

بالتالي يمكن اعتبار أن النصف الثاني من القرن السادس الميلادي وربما أواخره أيضا شهد تحول الوجود القوطي إلى كيان سياسي يضم معظم شبه الجزيرة الايبرية وتشكل المملكة القوطية بمؤسساتها الأكثر استقرارا .

ومثلما كان التحول القوطي نحو الكاثوليكية مؤشرا لغلبة الحضارة الايبرية – الرومانية , فقد تمثل مؤشر آخر لغلبة تلك الحضارة في المكانة التي احتلها الأساقفة الكاثوليك إلى جانب المؤسسة الملكية القوطية .

اتبع ملوك القوط التقاليد البيزنطية في احتفاظ الملك بحق تعيين الأساقفة والذين كانوا في يمثلون أغلبية الشعب أو يدعون تمثيله وفي تسميتهم الى مجالس العاصمة ” طليطلة ” , ورغم كون الطابع الأصلي لتلك المجالس هو الطابع الديني – الكنسي فقد كان لهم تأثير استثنائي على القرارات الحكومية .

ترافق تمركز السلطة في العاصمة وفي المؤسسة الملكية مع غياب الاستقلال الاداري للمقاطعات , وهناك دلائل على انخفاض الى الحد الأدنى في النشاط الزراعي وتربية الماشية واللذين كانا ركنين أساسيين في الاقتصاد .

وفي عام 654 م أصدر الملك ريكيوسوينث كودا للقانون يماثل في شكله ومضمونه القانون الروماني , مع بعض التعديلات المستمدة من التقاليد الجرمانية ومنها تحديد براءة الانسان من ذنب معين بتعريضه لمحنة الماء البارد .

تميزت الفترة الأخيرة للقوط في ايبريا باضطراب سياسي أواخر القرن السابع الميلادي , وأحد أسباب ذلك الاضطراب يعود إلى تضارب طرق انتقال السلطة بين الملوك , ففي حين بذلت محاولات للوصول الى تشريع انتقال السلطة من الملك المتوفى الى أبنائه لكن تلك المحاولات لم تصمد أمام المجلسين اللذين هما قاعدة المؤسسة الملكية القوطية , مجلس النبلاء ومجلس الأساقفة , وقد عرف عن القوط قتل ملوكهم والتآمر عليهم , لكن عوامل أخرى لابد أنها لعبت دورا في انحلال الدولة القوطية وقد سبق الاشارة للانحدار الكبير في اقتصاد البلاد في تلك الفترة .

وفد القوط لشبه الجزيرة كمحاربين برابرة , وبقوا معظم فترة سيطرتهم من القرن الخامس حتى القرن السابع قوة عسكرية أجنبية بعيدة عن ثقافة البلاد وحضارتها ودينها وتقاليدها , فأصولهم الجرمانية وديانتهم الأريوسية ومستواهم الحضاري المتدني ولغتهم القوطية وأعدادهم القليلة التي لم تتجاوز نسبة 3% من السكان كل ذلك لم يساعدهم على الاندماج الحضاري مع السكان الأصليين . رغم سيطرتهم العسكرية .

ويمكن النظر  للخمسين عاما الأخيرة في حكمهم كفترة ذهبية بعد تحولهم للكاثوليكية , وتبنيهم للأنظمة والقوانين الرومانية , واستكمالهم بناء المؤسسة الملكية باعطاء السكان الأصليين قدرا من السلطة من خلال مجلس الأساقفة .

لكن يبدو أن تلك الانجازات لم تكن كافية لردم الهوة بينهم وبين السكان الأصليين , كما أن طبقة النبلاء كانت مكروهة بصورة خاصة لاستيلائها على الأراضي الزراعية وتحويل قسم من السكان الى عبيد أو أقنان في مزارعهم . كما يبدو أن القوط فشلوا في ادارة البلاد ادارة تشجع النمو الاقتصادي في حقول الزراعة وتربية الحيوان والتجارة .

وباختصار , فلايمكن تفسير السهولة التي جرى بها تحطيم دولتهم على يد العرب المسلمين بعد العام 711 م , وانهيار مقاومتهم دفعة واحدة , وتلاشي نفوذهم السياسي وولاء الشعب لهم , وكأن المحيط قد ابتلعهم بموجة واحدة , سوى بأنهم لم يكونوا سوى قشرة عسكرية فوق البنية الاجتماعية والحضارية للمجتمع .

لكن لابد لنا في المقابل أن نذكر أن بعض المؤرخين والموسوعيين في هسبانيا القرون الوسطى مثل القديس ايسيدور الاشبيلي الذي ولد في قرطاجنة  وعاش بين ( 560-636) م . يعطي للقوط قيمة أكثر تقديرا , وبصورة خاصة فهو يثمن جهدهم في توحيد هسبانيا الممزقة , وبناء الدولة المركزية لأول مرة منذ عهد طويل . على أن شهادته تلك يمكن الطعن فيها بسبب تاريخه الشخصي القريب من ملوك وأمراء القوط على اية حال .

وتظهر آثار تقرب ايسيدور الاشبيلي من المؤسسة الحاكمة وتحول الكنيسة الكاثوليكية إلى شريك في السلطة والثروة بامتلاكها القصور والأراضي واستغلال قوة الأرقاء بموقفه من العبودية والذي يناقض فيه روح المسيحية الانساني ,  وقد كتب عنه المؤرخ الهولندي دوزي : ” أقول إن هذا القسيس اقتبس مبادىء حكيمي العصر القديم أرسطو وشيشرون فقد قال الفيلسوف اليوناني ” إن الطبيعة خلقت البعض ليحكموا وخلقت الآخرين لطاعتهم ” كما قال الفيلسوف الروماني : ليس من الظلم أن يقوم بالخدمة قوم لايعرفون كيف يحكمون أنفسهم ” وجاء نفس الشيء على لسان ” ايسودور ” الاشبيلي .” (6) وبالطبع فإن ذلك  يناقض تماما روح المسيحية التي ترى أن الجميع متساوون أمام الله .

في كتابه ” اسبانيا تاريخ فريد ” فإن ستانلي .ج. باين المؤرخ الأمريكي يقول مايلي : ” مايميزالنظرة المعتادة بصورة عامة للملامح الرئيسية للتاريخ الأسباني أنه سلبي وجدلي أكثر من تاريخ أي بلد أوربي , ويبدأ ذلك من تقييم القوطيين , الذين اعتبروا دائما ميالين للانقسام على أنفسهم , ولايتصفون بالحكمة , وأن انحدارهم كان سريعا , لقد ظهرت ممالكهم في العصور الوسطى هشة البنيان , ورجعية , كما أن حروب الاسترداد يعتريها الكثير من الشكوك , كما تحتمل الجدل , وقد تأخرت كثيرا .”

ويتبن مما سبق مدى التغير الذي طرأ على الفهم  الغربي التقليدي للتاريخ الاسباني وللمرحلة القوطية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم .

 

الفتح العربي – الاسلامي  (أسلمة الأندلس وتعريبه)

بعد فتح الأندلس تلاشت كل مظاهر الدولة القوطية خلال فترة قصيرة لاتتجاوز ستة سنوات , وانسحبت النخب القوطية العسكرية والأرستقراطية والدينية نحو أقصى الشمال في أستورياس الجبلية الوعرة والتي تحيط بها أراض جرداء قليلة السكان وشبه معزولة وتمكنت هناك من البقاء وتأسيس كيان مستقل بفضل الطبيعة الصعبة للإقليم وابتعاده عن المدن الرئيسية في اسبانيا وافتقاره لأي إغراء باستمرار القتال لأجل السيطرة عليه .

أما بقية الأندلس فقد انتشر فيها الإسلام انتشار النار في الهشيم , ولم تمض سنوات قليلة حتى أصبحت غالبية السكان الكبرى معتنقة للإسلام دون إكراه .

كتب السير توماس أرنولد في كتابه ” بحث في تاريخ نشر العقيدة الاسلامية ” يتحدث عن تسامح العرب المسلمين بعد فتح الأندلس :

” أما عن حمل الناس على الدخول في الاسلام , أو اضطهادهم بأي وسيلة من وسائل الاضطهاد , في الأيام الأولى التي أعقبت الفتح العربي , فإننا لانسمع عن ذلك شيئا , وفي الحق فإن سياسة التسامح الديني التي أظهرها هؤلاء الفاتحون نحو الديانة المسيحية كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذه البلاد , وإن الشكوى الوحيدة التي شكى منها المسيحيون هي فرض الجزية عليهم , والتي كانت تبلغ 48 درهما عن الأغنياء , و24 درهما عن الطبقة الوسطى , و12 درهما عن العمال مقابل اعفائهم من الخدمة العسكرية , على أن هذه الجزية لم تفرض الا على القادرين من الرجال , في حين أعفي منها النساء والأطفال والرهبان والمقعدون والعميان والمساكين والمرضى والأرقاء , مع العلم بأن الموظفين المكلفين بجمع الضرائب كانوا من المسيحيين أنفسهم مما خفف وطأتها على الناس “. (7)

لعل أول الداخلين للاسلام بعد الفتح الاسلامي كانت طبقة الأرقاء أملا في تغير أوضاعهم البائسة , فتحولهم للاسلام في ظل دولة مسلمة كان يعني تغيرا نوعيا في وضعهم الطبقي والانساني وعلاقتهم بأسيادهم المسيحيين , ويبدو أن تلك الطبقة كانت تضم عددا هاما نسبيا من السكان وقسم منها كان لايزال وثنيا , فالرومان لم يسعوا قط لفرض المسيحية على السكان بل ربما دخلت المسيحية اسبانيا قبل سيطرة الرومان عليها وانتشرت فيها على يد المسيحيين الأوائل الى جانب العقائد القديمة المرتبطة بالفينيقيين واليونان .

ومن أجل تصور مدى الاضطهاد والظلم الذي كان يحيق بطبقة الأرقاء أستعير هنا فقرة للمؤرخ الهولندي المشهور دوزي في وصفه لحياة طبقة الرقيق في عصر القوط : ” ..يستحيل على العبد أو القن أن يتزوج دون رضى مولاه , ويبطل زواجه إن تم بغير الحصول على موافقة سيده , ويحال بينه وبين امرأته بالقوة , وإذا اقترن أحد الأرقاء بامرأة في خدمة سيد آخر , تقاسم السيدان بالتساوي الأولاد الناتجين عن هذا الزواج , وكان قانون القوط الغربيين في هذه الأحوال أقل إنسانية من قانون الامبراطورية الرومانية , ذلك أن الامبراطور قسطنطين الأول حرم فصل النساء عن أزواجهن , والأولاد عن أبويهم والأخوة عن أخواتهم , وعلى وجه العموم , فليس يخامر أحدا الشك في أن وضع طبقة الرقيق لم يكن محتملا أيام القوط , ويتجلى ذلك عندما يتأمل الانسان قوانينهم الفظة تجاه العبيد .” (8)

كما انتقلت للاسلام بسرعة أيضا فئة من أشراف المسيحيين سواء عن قناعة أو ربما لتضمن الحفاظ على مصالحها بالتقرب من السلطة الحاكمة .

ويذكر المؤرخون وجود المذهب المسيحي الآريوسي في اسبانيا قبل الفتح الاسلامي وتأثيره الفكري كعامل سهل التحول نحو الاسلام , فالمذهب الأريوسي لايؤمن بأن المسيح ابن حقيقي لله بل كما يقال ابن بالتبني بمعنى أنه إنسان اختاره الله ليكون بمثابة ابن له وذلك يقترب من الفكرة الاسلامية عن المسيح .

ويستفاد من الروايات التاريخية أن رجال الدين المسيحيين كانوا يشتكون من تفشي الانحلال الخلقي خاصة عند الطبقة القوطية الحاكمة وانغماسها في الترف والمتع المادية مقابل معاناة الطبقات الوسطى والفقيرة والأرقاء من الاستغلال والأوضاع الاقتصادية الصعبة . ولعلهم وجدوا في الاسلام والمسلمين نافذة خلاص لهم , ومما يدعم ذلك الرأي الاستقرار الواضح للحكم العربي – الاسلامي , يقول سير أرنولد توماس : ” ومن الثابت لدينا أن هؤلاء المسيحيين الذين مالوا للصلح ورضوا عن طيب خاطر بحرمانهم ماكانوا يتمتعون به من نفوذ سياسي وسلطة , لم يكن ثمة مايدعوهم للشكوى , حتى إننا لم نسمع خلال  القرن الثامن الميلادي كله الا عن محاولة واحدة للثورة من جانب هؤلاء المسيحيين المقيمين بمدينة باجة , ويظهر أنهم انضووا في ثورتهم هذه تحت لواء رئيس عربي ” وتبدو الاشارة هنا الى ثورة علاء بن المغيث الذي ارسله العباسيون لتقويض سلطة عبد الرحمن الداخل عام 146 وكان عاملا على مدينة مدينة باجة ومن الواضح أن ذلك التمرد كان عملا سياسيا بالدرجة الأولى ولا يمكن النظر اليه كتعبير عن ثورة مسيحية خاصة مع وجود علاء بن المغيث على راس ذلك التمرد مع جيشه العباسي .

وما يستحق الوقوف عنده هو الحجم الصغير للقوى العسكرية العربية – الاسلامية التي سيطرت على شبه الجزيرة الايبرية فعند الفتح كانت حوالي 12000 مقاتل فقط وربما زاد عددها بعد ذلك لكنها لم تصل في السنوات الأولى لأكثر من 30 الف مقاتل كان مطلوبا منها السيطرة على مساحة حوالي 600000 كم2 بوجود بضعة ملايين من السكان في حين قدر جيش القوط بقيادة لذريق الذي واجه طارق بن زياد وفق المصادر العربية بمئة الف رجل بينما تشكك المصادر الغربية بذلك الرقم .                   (Barbate) قرب نهر برباط

يقول ليفي بروفانسال في كتابه ” تاريخ اسبانيا الاسلامية ” في معرض حديثه عن الفتح العربي – الاسلامي وتفسيره لذلك الفتح الذي وصف بالمعجزة وعلاقته بالأوضاع الاجتماعية والسياسية لدولة القوط الآتي “وبرغم كل هذا , لايوجد مثال واحد في التاريخ يخبرنا بأن دولة منظمة قد تركت في استكانة أراضيها تغتصب من قبل بعض فصائل الفرسان الشجاعة , لو كانت تنعم بالصحة وهيكلها سليم معافى , ولحكامها الهيبة والطاعة , فالفتوحات الكبرى قد صادفت دائما تحللا سياسيا واجتماعيا للأمم التي هبطت فوقها …وهذا ماحدث بالفعل لأسبانيا القوطية “(9) لكن السيد بروفانسال نسي عاملا على غاية من الأهمية وهو الفارق السوسيولوجي – الثقافي بين القوط والايبريين والذي لم يتم اختراقه بسبب انغلاق القوط ولغتهم المختلفة واعتناقهم المذهب الأريوسي معظم فترة حكمهم لايبريا .

وتشبه حالة القوط في اسبانيا من عدة وجوه حالة حكم المماليك في مصر وسورية من سنة 1250م إلي سنة    1517 م. فهم كانوا بالأساس نخبا عسكرية أجنبية عن أهل البلاد استمدت شيئا من الشرعية من خلال المؤسسة الدينية , لكنها بقيت مغلقة على نفسها الى حد كبير , ودعمت وجودها بجالية محدودة العدد من أبناء جنسها أو من عشائر قريبة لها كانت تحيط بها في مراكز الدولة واداراتها .

وحين بدأ الانحلال يصيب تلك الإمارات المملوكية لم تجد الى جانبها الشعب في بلاد الشام أو مصر , بل وقف يتفرج على مصيرها النهائي مستبشرا بالخلاص من فسادها على يد القادم الجديد كما حصل عند دخول سليم الأول العثماني حلب وحماة وغيرها من مدن الشام بعد معركة مرج دابق عام 1516م التي انهزم فيها السلطان قانصوه الغوري آخر حكام المماليك .

ومن المفهوم أن المؤرخين الغربيين يحاولون دائما التقليل من أثر ذلك الشرخ بين الشعب في ايبريا والدولة القوطية , بل نجد أحيانا شيئا من التعاطف مع الدولة القوطية , وذلك عائد للدور الذي لعبته طبقة النبلاء القوطية التي انسحبت الى شمال ايبريا وتحصنت بجبال منطقة اوسترياس والذي يعتبر أن الفضل يعود اليها في بدء المقاومة ضد العرب – المسلمين في الأندلس , وقد مر معنا سابقا كيف أن بعض المؤرخين الأسبان أو الغربيين المختصين بالتاريخ الأسباني يعتبرون أن منشأ الهوية الأسبانية يعود لفترة الدولة القوطية أولا ولمرحلة حرب ” الاسترداد” ثانيا والتي انطلقت من أستورياس .

كما سبق فقد تم انجاز السيطرة التامة على شبه الجزيرة الايبرية بحلول العام 716 م باستثناء جيوب صغيرة معزولة في الجبال الشمالية , لكن الأمر الأكثر إدهاشا هو تحول الغالبية الساحقة لسكان ايبريا للاسلام دون ممارسة ضغوط بهذا الصدد كما أقر بذلك السير أرنولد توماس , وكما يقول ليفي بروفانسال : ” وكما رأينا فيما تقدم , فإن احتلال المسلمين لشبه جزيرة “ايبريا” كان قد اكتمل بالفعل قبل اغتيال عبد العزيز بن موسى بن نصير عام 716 م ……كما يبدو أيضا أن القسم الأعظم من سكان البلاد ترك المسيحية طواعية وانضوى تحت لواء الاسلام لكي يتمتع بكافة مميزات المسلم وحقوقه , ولهذا فلم يبق للمقاومة سوى جيوب صغيرة لبعض وجهاء مملكة القوط الزائلة .” (10)

والشهادة الثالثة التي تؤكد أن التحول الكبير للسكان نحو الاسلام جرى بارادتهم الحرة هي ما قاله دوزي : ” لم تكن حال النصارى في ظل الحكم الاسلامي شديدة الوطأة إذا هي قورنت بما كانوا عليه من قبل , زد على ذلك أن العرب كانوا شديدي التسامح فلم يضيقوا الخناق قط على أحد من الناحية الدينية , ولم تكن الحكومة تميل الى دفع المسيحيين إلى اعتناق الاسلام , حتى لايخسر بيت المال الشيء الكثير , ثم إنها لاتعمد لذلك إلا إذا كانت شديدة التعصب , وهو أمر نادرقليل الحدوث , ولم يجحد النصارى جميلها هذا فكانوا راضين عنها لتسامحها واعتدالها , وآثروا حكمها على حكم القبائل الجرمانية والفرنجة , فانعدمت الثورات أو كادت طيلة طوال القرن الثامن للميلاد ………..وكان الفتح العربي من بعض الوجوه خيرا على اسبانيا فقد أحدث ثورة اجتماعية , وقضى على شطر كبير من المساوىء التي كانت البلاد ترزح تحتها منذ عدة قرون ..” (11) أضيف هنا ماورد في كتاب المؤرخ جوزيف كالاغن ” تاريخ اسبانيا العصور الوسطى” : ” تحول كثير من المسيحيين في الأندلس – ربما الأغلبية – نحو الاسلام لتأمين أنفسهم وأملاكهم ..وبتحولهم نحو الاسلام فقد أصبحوا هم وأولادهم  معفيين من دفع الجزية , رغم أن الحكام المسلمين لم يشجعوا على ذلك التحول كونه يفقدهم المورد المالي العائد للجزية ,أما العبيد الأرقاء فقد ربحوا حريتهم بتحولهم نحو الاسلام”

وفي حين أن تحول الايبريين إلى الاسلام تم سريعا وفي زمن قصير فقد أصبح من الصعب بعد عدة أجيال التمييز بين أحفادهم وأحفاد المسلمين القادمين من خارج ايبريا .

لابد من التوقف والتأمل مليا في مسألة تحول غالبية السكان الأصليين في ايبريا نحو الاسلام , وأول مايخطر بذهن المرء هو أن قَصْر تفسير ذلك التحول الكبير والسريع نحو الاسلام بالتخلص من الجزية أو الاحتفاظ بالأملاك والمنافع لايمكن أن يكون مقنعا تماما .

نعم يمكن للمرء الإعتقاد أن طبقة الأرقاء تحولت نحو الإسلام لتكسب حريتها , فاكتساب الحرية عامل بغاية الأهمية للإنسان , لكن ماذا عن الطبقات الوسطى التي تشكل قلب المجتمع ؟ والتي لم تتعرض لضغوطات تذكر للتحول نحو الاسلام , فمبالغ الجزية المطلوبة منها كانت تافهة قياسا للضرائب التي كانت تدفعها في زمن القوط حيث لاتزيد عن 24 درهما في السنة للرجل ولا تدفع عن النساء أو الأطفال أو الشيوخ أو العجزة

إذن فنحن مضطرون لتحليل أعمق لتلك الظاهرة المدهشة في تحول الايبريين نحو الإسلام والذي تفوق في سرعته وشموله تحول الشعوب آخرى نحو الاسلام  كبلاد الشام ومصر وافريقية وفارس وغيرها .

ومن أجل تقدير سرعة التحول نحو الاسلام في مصر مثلا , نجد أنه في عهد عثمان بن عفان كان خراج مصر اثني عشر مليون دينار في الفترة بين 23 – 35 للهجرة واستمر ينقص بسبب دخول المصريين في الإسلام حتى عهد عمر بن عبد العزيز في الفترة حوالي العام 100 للهجرة حين أرسل له واليه على مصر يخبره أن الخراج نقص كثيرا ويقترح أن لاتوضع الجزية عمن أسلم حديثا , بالطبع فقد رفض الخليفة التقي ذلك ووبخ واليه قائلا :” إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا” . والمهم في الموضوع أن تحول المصريين للإسلام استغرق حوالي 60 عاما أو يزيد بينما لم يستغرق في الأندلس سوى أقل من ذلك بكثير .

فإذا حاولنا البحث عن أسباب أخرى للتحول الشامل والسريع نحو الإسلام وقد كان بالمناسبة تحولا عميقا بحيث رصد المؤرخون كيف أن المسلمين الايبريين الجدد كانوا لايقلون في تعلقهم بالاسلام وغيرتهم عليه من المسلمين العرب أو البربر . فيمكن تصور حالة كامنة من الشعور بالاضطهاد والتعسف المرتبط بطبيعة السلطة القوطية التي تقاسمتها الكنيسة الكاثوليكية وطبقة النبلاء , وكما يبدو فإن سلطة الكنيسة الكاثوليكية التي تجسدت بمجلس الأساقفة الذي كان سلطة سياسية موازية لمجلس النبلاء قد وسع ثراء المؤسسة الدينية ومنحها أملاكا وأراض واسعة بحيث أصبحت تجمع بين السلطة الدينية والسياسية – الاقتصادية  وذلك ماخلق نفورا منها لدى الطبقات المتوسطة والفقيرة حيث تحولت صورتها إلى شريك في الإستغلال والإضطهاد بدل أن تحمل معاني التحرر والإنسانية .

وفي المقابل فسرعان مالمس الايبريون طبيعة الإسلام التحررية وانعدام وجود سلطة فيه لرجال الدين , ونظرته الإنسانية للعبيد .

أما السبب الآخر الممكن فهو الدافع العميق للايبريين ذوي الأصول الحضارية المشرقية – السامية لاستعادة هويتهم الحضارية التي عمل الرومان والقوط على طمسها أو تغييرها .

وأيا ماكانت الأسباب فلابد من النظر لذلك التحول المدهش نحو الإسلام بوصفه أحد أهم العوامل التي حددت الهوية الحضارية الأندلسية .

وأمام هذا التحول الشامل العميق والراسخ والذي امتد لمئات السنين تسقط كل دعاوى “استرداد ” أسبانيا كما تسقط ورقة الشجر اليابسة في الخريف , فالايبريون بقوا في وطنهم وأصبحوا مسلمين أبا عن جد , واختلطوا بالعرب والبربر بصورة تامة وعبر أجيال تلو أجيال فماذا يبقى من مبرر لاقتحام مدنهم وتحريرها من المسلمين ؟

 وكأحد الأدلة على تحول الايبريين الأصليين للإسلام ماجاء في كتاب يرجع تاريخه الى عام 1311 م من أنه لم يكن من بين سكان غرناطة المسلمين البالغ عددهم حوالي مئتي ألف نسمة أكثر من خمسمئة من أصل عربي على حين كان سائر هؤلاء المسلمين من سكان البلاد الايبريين الأصليين الذين تحولوا للإسلام . (12)

تعريب الأندلس    

 انتشرت اللغة العربية بسرعة أيضا , ليس فقط بين الايبريين الذين أسلموا ولكن أيضا بين الايبريين الذين احتفظوا بديانتهم المسيحية وكانت تطلق عليهم تسمية ” المستعربين ” وشيئا فشيئا سادت اللغة العربية شبه الجزيرة الايبرية وأزاحت اللغة اللاتينية نحو الإهمال , حتى أصبح جهل بعض القسيسين باللغة اللاتينية في صلاتهم وخطبهم الدينية مدعاة للسخرية ويعبر أحد الأساقفة عن شعور المرارة والحزن لانتشار اللغة العربية والثقافة العربية ومباهاة الشباب بها فيقول : ” وا أسفاه ..لقد جهل المسيحيون نظم شريعتهم …وأصبحوا لايعيرون لغتهم اللاتينية أي اهتمام ,حتى لاتكاد تجد بين كل الف رجل رجلا يستطيع أن يستفسر عن صحة صديقه بعبارات واضحة جلية , بينما تجد بينهم الكثيرين ممن يجيد إجادة تامة عبارات اللغة العربية الفصيحة , حتى لقد استطاعوا أن ينظموا القصائد المقفاة , تلك القصائد التي تتجلى فيها أسمى درجات الجمال , بل لقد أصبح بعضهم أمهر من العرب أنفسهم في نظم الشعر .” (13)

يقول دوزي : هجر أهل اسبانيا اللاتينية , واشتغلوا باللغة العربية وآدابها , وكانوا لايكتبون بغيرها , حتى إن أحد العلماء المشهورين منهم اشتكى من ذلك ( ويقصد الفارو القرطبي) .

ويقول نيكلسون : “في  أوائل القرن التاسع الميلادي كانت اللغة العربية هي  لغة الوثائق الرسمية , وفي هذا الوقت ترجم قسيس من أهل اشبيلية التوراة الى اللغة العربية لتلاميذه فغضب منه زميل له واتهمه بنشر اللغة العربية , ودافع القسيس عن نفسه بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لتعليم التلاميذ , وقد دامت هذه الحال زمنا طويلا في قرطبة وطليطلة حتى بعد أن استولى الفونسو السادس عليها عام 1085 م .

واتقان اللغة العربية في الأندلس كان شرطا لازما لأي رجل يريد أن ينظر اليه كمثقف أو عالم أو كاتب أو يعمل بإحدى الوظائف الهامة في الادارة والقضاء , يقول المقري في كتابه ” نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب : ” وكل عالم في أي علم لايكون متمكنا من علم النحو – بحيث لاتخفى عليه الدقائق – فليس عندهم بمستحق للتمييز , ولا سالم من الازدراء , مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عما تقتضيه أوضاع العربية ” .

ولابد من التنويه بتطور  لغة دارجة في الأندلس امتزجت فيها العربية مع اللاتينية المحدثة التي تسمى أيضا الرومانثية ويبدو أنها نتيجة انصهار اللاتينية الأصلية باللغة الايبرية في الفترة الرومانية  لكنها اقتصرت على حديث العوام كما حصل في بلاد الشام ومصر من انتشار اللهجات العامية التي حملت تأثيرات اللغات الأقدم كالسريانية في بلاد الشام والقبطية في مصر . ويذكر أن بعض الموشحات الأندلسية استخدمت فيه اللغة الدارجة الى جانب العربية .

في بادىء الأمر سمي الايبريون الذين أسلموا بالمسالمة ومن بقي على دينه من المسيحيين واليهود بأهل الذمة , وفي زمن لاحق أصبحت الأجيال من المسالمة بعد اختلاطهم بالعرب والبربر تسمى بالمولدين .

وانتقلت للمولدين والمستعربين ( المسيحيين الايبريين ) كليهما إضافة للّغة العربية العادات والتقاليد العربية واللباس العربي وقد تركزت مجتمعات المستعربين في طليطلة وقرطبة واشبيلية وفي مدن أخرى .

وقد كان معظم أمراء الأندلس من أصل مولد تجري في عروقهم دماء غير عربية وبخاصة الدماء البربرية والايبرية من جهة الأمهات والجدات , فعبد الرحمن الداخل من أم بربرية تسمى رداح , وابنه هشام من أم ولد ( يطلق على ابن الجارية التي اعتقت أم ولد تميزا عن الزوجة الحرة بالأصل )  تسمى حوراء , والحكم بن هشام من أم ولد تسمى مزنة , وهشام المؤيد بن الحكم المستنصر من أم ولد بشكنسية ( من الباسك كما يسمى اليوم ) تدعى صبح , وغير هؤلاء كثيرون . (14)

لقد كان انتشار الاسلام انتشارا واسعا حتى شمل غالبية السكان, وانتشار اللغة العربية معه وسيادتها , وما رافقها من انتشار الأدب والشعر العربي مع العادات واللباس العربيين يعني في الواقع تعريب شبه الجزيرة الايبرية فليست العروبة عروبة الدم والقبيلة لكنها عروبة الثقافة واللغة , وانخراط شعوب متعددة في بوتقة الحضارة الأندلسية لم ينقص منها بل زادها غنى وازدهارا حتى نافست حضارة المشرق وتفوقت عليها في بعض الجوانب .

الفصل الثالث

حروب “الإسترداد “

بالعودة لبداية الفتح العربي – الاسلامي للأندلس فبعد المعركة الفاصلة قرب نهر برباط بين جيش القوط بقيادة الملك رودريك ( لذريق ) وبين الجيش الأموي بقيادة طارق بن زياد والتي تحطم فيها الجيش القوطي واختفى على إثرها الملك رودريك  وقيل فيما بعد إنه غرق في النهر أثناء انسحابه , انسحبت القوى العسكرية القوطية بالتدريج أمام المسلمين ولابد أن قسما منها وبخاصة الأرقاء والمرتزقة قد ترك الجيش بعد أن فقد الأمل في النصر , أما القسم الآخر الذي يحكم قيادته النبلاء من القوطيين المقاتلين الذي تبقى بعد عدة معارك لاحقة خاسرة أيضا فقد انتهى به المطاف الى منطقة أستورياس الشمالية الجبلية شديدة الوعورة . حيث تحصن بالجبال واستفاد من بعد المنطقة عن المدن والمراكز السكانية في شبه الجزيرة .

انضم هؤلاء النبلاء ومن معهم من الفرسان والجنود الى أهالي أستورياس الذين كانوا قد اعتصموا بالسلاسل الجبلية العالية المسماة بالقمم الأوربية عندما هاجم موسى بن نصير إقليمهم , ومن المؤكد حسب ليفي بروفانس أن أولئك الأهالي قد تركوا الجبال وعادوا الى ديارهم بعد أن تبين لهم عدم جدوى المقاومة , وربما وصلتهم أخبار الأقاليم الأخرى عن إمكانية التفاهم مع الحكم الاسلامي الجديد , أما النبلاء القوط وحاشيتهم وهم الذين نفوا أنفسهم طواعية ولم يرضوا بتسليم مقاليد أمورهم للسلطة الجديدة فقد استمروا في المنطقة الوعرة من أستورياس واختاروا من بينهم زعيما عليهم يدعى بلايو وهو إبن أحد أشراف بلاط الملك القوطي أخيكا , وقد اختار قرية متواضعة في إقليم استورياس لتكون مقرا له .

وعندما علم المسلمون بالتمرد في أستورياس وجهوا له قوة مقاتلة لإنهائه فانسحب بلايو ومن معه نحو الجبال وتحصنوا بموقع صعب داخل تلك الجبال يسمى صخرة كوفادونغا حيث فاجؤوا القوة المسلمة وتمكنوا من محاصرتها والقضاء عليها وقد أحيطت تلك المعركة التي حصلت عام 718 م  بهالة من الأساطيرلدى القوط المسيحيين وأوربة واعتبرت نصرا إلهيا تدخلت فيه العذراء , بينما تتحدث الرواية العربية عن عدد محدود من المتمردين يتحصنون بالجبال على طريقة حرب العصابات وأن كلفة القضاء عليهم لم تكن تتناسب مع أهميتهم  العسكرية , ولابد أن القوة الموجهة  اليهم قد عانت صعوبات كبيرة في مسالك وعرة لاعهد لهم بها , فكان القرار بتركهم في عزلتهم الجبلية.

ومثل تلك الحالة تتكرر مرارا في التاريخ , وفي حالة مشابهة استعصت احدى القلاع الجبلية على صلاح الدين الأيوبي في مصياف قرب حماة بسورية فحاصرها ثم تركها , ولا يحتاج الأمر لمعجزة ليقتنع الجيش المهاجم بصعوبة اخضاع عصابات تتوزع في منطقة جبلية لا يعرف مسالكها الا أهلها .

والأرجح أن المسلمين اكتفوا بطرد فلول الجيش  القوطي نحو الجبال المعزولة في أقصى الشمال وأبقوا سهول اوسترياس في يدهم مع بناء تحصينات كافية .

وفي كتاب : ” أخبار مجموعة ” المشهور لدى مؤرخي الأندلس ورد الآتي حول تلك المعركة : ” دخل عقبة بن الحجاج الأندلس سنة عشر ومئة للهجرة ويوافق ذلك العام 728 م فأقام عليها سنين وافتتح الأرض حتى بلغ أربونة وافتتح جليقية , وألية , وبنبلونة , ولم تبق بجليقية قرية لم تفتتح غير الصخرة , فإنه لاذ بها ملك يقال له بلاي في ثلثمئة رجل , فلم يزل يقاتلونه ويغاورونه حتى مات أصحابه جوعا , وترامت طائفة منهم إلى الطاعة , فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلا , ليست معهم عُشر نَسوة  .

( يقصد قليل من الشراب والنسوة بفتح النون جرعة الشراب ) فيما يقال إن عيشهم كان بالعسل …..وأعيا المسلمين أمرهم وتركوهم وقالوا ثلاثون علجا ماعسى أن يكون أمرهم واحتقروهم , ثم بلغ أمرهم إلى أمر عظيم .”

وسواء كان عددهم أكثر من ذلك أو أقل فلا شيء في الرواية العربية يوحي بمعركة فاصلة ذات أهمية .

ومما يبعث على الإستغراب أن مؤرخا قديرا مثل ليفي بروفنسال يظهر قناعته التامة بأن تلك المعركة ذات أهمية كبرى وأنها أعطت الدفعة المعنوية الأولى لحروب “الاسترداد” .

وبدون شك فقد نسجت هالة أسطورية كبيرة حول تلك المعركة المحدودة جدا , واختلط فيها الخيال الديني مع الخيال الملحمي اذ تذكر الأسطورة أن السيدة العذراء نزلت اليهم وساندتهم في معركتهم التي  أبادوا فيها القوة المهاجمة الكبيرة ,  لكن الحديث عن الأساطير شيء والحديث عن المعارك الحقيقية شيء آخر تماما .

ولم يحفظ التاريخ من دويلة بلايو سوى تلك المعركة وذلك دليل آخر على محدوديتها , وفي عام 737 م مات بلايو دون أن يذكر أنه حرر أراض أو مدنا أو خاض معارك أخرى ذات أهمية .

وحتى خلال زعامة الفونسو الأول خلف بلايوالتي استمرت ثمانية عشر عاما في الحكم ( 739 – 757 )م فهناك جدل بين المؤرخين حول طبيعة نشاطه العسكري , ويبدو أنه كان خاليا تقريبا من السيطرة على أي مدينة هامة لذا نظر بعض المرخين لنشاطه العسكري باعتباره مجرد غارات للسلب والنهب أكثر من أن تكون معارك ضمن أهداف مثل احتلال اراض أو توسيع مملكة .

لكن تلك الفترة من تاريخ الأندلس شهدت صراعات داخلية عنيفة كان أبرزها تمرد البربر .

ويمكن اليوم القول بشيء من اليقين أن بقاء دويلة استورياس على قيد الحياة وما راكمته من الاستعدادات الحربية واستقطاب بقية القوط المستائين من السلطة الإسلامية الجديدة لم يكن ليحدث لولا التمزقات الداخلية التي شغلت المسلمين تماما وشلت اي امكانية لتوجيه قواهم العسكرية باتجاه أستورياس .

وأهم صراع داخلي انعكس بصورة مباشرة على الأوضاع في شمال الأندلس هو تمرد البربر .

كان للبربر مساهمة كبيرة في فتح الأندلس , فقوة الفتح الأولى بقيادة طارق بن زياد كانت غالبيتها العظمى من البربر , وبفضل صلابتهم وتضحياتهم تمكن ذلك الجيش الصغير من احراز انتصار تاريخي يعتبر بمثابة معجزة عسكرية , وحتى بعد أن جاء المدد من موسى بن نصير بحوالي 18000 مقاتل معظمهم من عرب الشام وأقلية منهم من الموالي فقد بقي جيش طارق بن زياد يحرز النصر تلو النصر حتى خضعت البلاد كلها للفاتحين المسلمين , وبخلاف ماتوقع البربر لم يحصلوا على معاملة عادلة فيما يتعلق بتوزيع الغنائم والأراضي الزراعية , فحصل العرب على حصة الأسد وأعطي البربر ما بقي , وأوضح دليل على ذلك استقرار العرب في الجنوب الغني بموارده الطبيعية وأراضيه الخصبة وبيئته المتحضرة , بينما ترك للبربر المنطقة الشمالية الغربية من البلاد الأقل خصوبة وتحضرا وخاصة اقليم جليقة المتاخم لأستورياس.

ويبدو أن الاضطرابات التي حدثت في شمال افريقية بين العرب والبربر في الفترة ذاتها انعكست أيضا على الوضع السياسي داخل الأندلس , وأخيرا فإن سوء ادارة بعض الحكام الذين تعاقبوا على الأندلس  خلال تلك الفترة وقصر نظرهم وخضوعهم للدوافع العصبية القبلية والعنصرية أوصل وضع البربر الى الثورة .

وأول مانتج عن ثورتهم إجلاؤهم للعرب المقيمين في إقليمهم مما أحدث خلخلة بشرية وعسكرية في وضع ذلك الإقليم ثم أتت فترة من القحط والجوع مع بداية العام 750 م أجبرت البربر على النزوح من المناطق الشمالية , فخلا اقليم جليقة من البربر والعرب وأصبح أرضا سائبة ضمتها دويلة أستورياس دون أي عناء , وأقصى مافعلته أستورياس هو مضايقة من بقي من البربر بأعمال حرب عصابات لدفعهم نحو اللحاق ببقية البربر الذين انسحبوا الى الجنوب .

 بعد ذلك هبط الفونسو الأول من جبال أستورياس وضم اليه استرقة ثم معظم اقليم جليقة وسهل ليون

فتشكلت بذلك نواة المملكة الإسبانية المحاربة ( قشتالة ).

ويذكر ليفي بروفنسال أن الأراضي التي ضمها الفونسو بقيت خالية لأن الفونسو لم يكن لديه القوات الكافية لشغلها أي أن الأراضي التي كسبها نتيجة انسحاب العرب والبربر منها بصورة رئيسية وليس بالحرب اذ لم يكن لديه قوى عسكرية ولابشرية للسيطرة عليها .

مع ذلك لم تشكل تلك الدولة الحديثة خطرا على الأندلس لفترة طويلة حتى بداية القرن الحادي عشر , واحتلت الشمال الغربي وهو الجزء الأقل خصوبة في الأندلس والذي كان دوما في التاريخ الأكثر تأخرا في الحضارة.

وترافق تشكل تلك الدولة مع حملات عسكرية للامبراطورية الميروفنجية على حدود فرنسا وداخل الأندلس , فبعد الفتح العربي – الاسلامي لايبريا عام 711 م توسع الجيش المسلم في فتوحاته حتى دخل بلاد الغال وراء جبال البيرنية واحتل بعض المقاطعات في الجنوب الفرنسي والتي كانت تابعة لمملكة القوط مثل لنجدوك وروسيون وسبتمانيا وغوتيا , لكنهم اضطروا بعد ذلك للانسحاب عن معظم تلك المناطق بعد أن تدخل شارل مارتل وارتد المسلمون الى أربونة .

لكن المسلمين عاودوا عدة مرات اختراق جبال البيرينية واحتلال جنوب بلاد الغال .

وفي النهاية وضعت معركة بلاط الشهداء عام 732 م حدا تاريخيا فاصلا للمحاولات الجريئة للجيش المسلم لتوسيع السيطرة نحو بلاد الغال .

وبعد ذلك أدرك شارل مارتل حاكم الامبراطورية الميروفنجية وخلفاؤه خطر التمدد العربي – الاسلامي فبدء بتحصين المواقع الحدودية قرب سلسلة جبال البيرينية , وأنشأ شارلمان مايعرف بالحزام الدفاعي على طول جبال البيرينية الفاصلة بين فرنسا واسبانيا والمكون من سلسلة من الحاميات سمي ب” ماركا دي سبانكا” وبدون شك فقد نظرت الإمبراطورية الميروفنجية الى دولة اوسترياس كحامية بوجه الجيوش المسلمة الأندلسية في الشمال الغربي للأندلس .

وفي عام 751 م قام ابن شارل مارتل الذي استولى على الامبراطورية الميروفنجية بحملة في الجزء الشمالي الشرقي من الأندلس فاحتل الثغور الاسلامية في سبتمانيا , وفي عام 785 م احتلت الجيوش الفرنكية جيرونا ثم برشلونة عام 801 م .

ومن المهم ملاحظة أن شارل مارتل سلم حاميات الحزام الدفاعي السابقة للنبلاء القوط بما في ذلك أهم تلك الحاميات في برشلونة وما حولها. أي أن برشلونة وماحولها قدمت لقمة سائغة للنبلاء القوط من قبل شارل مارتل . وهناك تكونت نواة مملكة الأرغون .

وفي الحقيقة من الصعب تفسير تحول ذلك الموقع الجبلي المعزول الذي تحصنت فيه أعداد قليلة من نبلاء القوط وحاشيتهم  في أستورياس الى كيان قادر على التوسع دون اعتبار الدعم الذي لقيه من الامبراطورية الميروفنجية ووريثتها الفرنكية التي تحولت لاحقا للامبراطورية الرومانية المقدسة وكانت تسيطر اضافة لفرنسا على المانيا وشمال اوربة وجزء من ايطاليا وشرق أوربة أيضا .

ويمكن للمرء تصور مدى الخوف والشعور بالكارثة الذي حل بأوربة المسيحية بعد الفتح الاسلامي المفاجىء للأندلس من خلال ماكتبه في رثاء إسبانيا القوطية مؤلف مجهول في كتاب ” تاريخ عام 754″ اللاتيني بعد نصف قرن تقريبا من الأحداث التي يصفها : ” حتى لو تحولت أوصال الانسان الى ألسنة , لما استطاعت الطبيعة البشرية أن تعبر عن خراب اسبانيا وشرورها الكثيرة والكبيرة ” (15) .

خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت السردية التاريخية السائدة لإسبانيا تقول بنشوء الهوية الإسبانية الوطنية بداية في عصر القوط ثم تبلورت في مملكة أستورياس , وفي القرن العشرين ومع التحولات السياسية الديمقراطية في إسبانيا والتي ترافقت مع شيء من الانفتاح الفكري والتخلي عن المفاهيم الوطنية – الفاشية التي حملتها مرحلة فرانكو , فقد توجه النقد لتلك السردية من خلال تناقضها في مسألتين : الأولى أن المجتمع الإسباني – المسيحي قد نشأ وفق السردية التقليدية في أستورياس التي هي أقل الأقاليم تأثرا بالتحول الروماني ( الرومنة ) وكذلك بالتحول نحو المسيحية . مع استثناء اقليم الباسك .

وفي الناحية الأخرى فهناك مفارقة في أن إحياء القيم القوطية والذي برز كعقيدة سياسية لدى النخب مع نهاية القرن التاسع الميلادي قد اختيرت  له أستورياس التي تتمتع بتاريخ هزيل لمثل ذلك المشروع , فمنطقة أستورياس التي قيل إن حظها من التأثيرات الرومانية كان قليلا , هي أيضا كماقيل لم تمتلك هياكل سياسية قوطية تذكرأو هوية قوطية . فقد كانت كما يقال موطنا لشعوب بدائية قديمة ذات بنية قبلية الى حد كبير , وكانت علاقتها بالدولة القوطية محدودة للغاية , ولم يتم احتلالها أبدا والسيطرة عليها أو ضمها للدولة القوطية .

(16)

ويمكن بسهولة أن نرى رابطا بين تضخيم معركة كوفادونغا وإضفاء الطابع التاريخي عليها وبين تضخيم مكانة مملكة أستورياس بطريقة تفتقر للأساس العلمي التاريخي .

ومن المستغرب فعلا كيف يتم وضع الغالبية الساحقة من الشعب الإسباني الذي اعتنق الاسلام وفق إجماع المصادر التاريخية الغربية وراء الظهر واعتباره خارج السردية التاريخية لإسبانيا ويوضع في مكانه الأقلية القوطية التي لم تتجاوز نسبتها 3% من السكان عند الفتح العربي الاسلامي  باعتبارها تمثل إسبانيا والوطنية الإسبانية والروح الإسبانية. ويختار لتلك الوطنية الإسبانية حاضنة أستورياس والتي هي أبعد ماتكون عن أي ميراث يتعلق بالدولة القوطية البائدة

والحقيقة التي لايمكن إخفاؤها أن مملكة استورياس لم تكن سوى معسكر تجميع في البداية لنبلاء القوط وحاشيتهم ثم لكل الناقمين على الوجود العربي الإسلامي في الأندلس سواء لتعصب ديني أو بسبب مصادرة أملاكهم وتوزيعها على الفلاحين الأقنان , أو كمحاربين مرتزقة من الأندلس وبلاد الغال القريبة .

وأن تلك الدولة لم تكن قادرة على تهديد الأندلس إلا بعد مئات السنين من وجودها .

أما مايقال عن الهوية الاسبانية فقد نشأت بعد أن توسعت مملكة أستورياس وصولا الى مملكة قشتالة  وخلال القرون اللاحقة وخاصة بعد بداية القرن الحادي عشر الميلادي .

حروب “الإسترداد “والحروب الصليبية   

منذ حوالي العام 750 م وحتى تفكك وانحلال الدولة الأموية عام 1031 م لم تتمكن مملكة أستورياس – ليون  من إحراز أي انتصار عسكري ذي قيمة وبقيت محصورة شمال نهر دويرإضافة لدويلات صغيرة مثل نافار وأرغون التي نشأت حول برشلونة في الشمال الشرقي وكانت كلها دائما بوضع دفاعي تجاه الحملات العسكرية السنوية لأمراء الدولة الأموية والتي كانت تسمى بالصوائف , وتهدف بصورة رئيسية إلى ردع أي محاولة للعدو للتقرب من حدود الدولة .

وبغض النظر عن التعبئة الدينية , والمشاعر الثأرية عند بقايا القوط , وحلمهم بإستعادة مملكتهم التي انهارت بصورة تامة , فإن الواقعية السياسية كانت تتطلب منهم التعايش مع الدولة الأندلسية , خاصة بعد التحولات الواسعة والعميقة لدى الشعب في الأندلس سواء لجهة اعتناق الاسلام أو انتشار اللغة العربية , أو التبدلات الاجتماعية التي أزاحت عن كاهل الطبقات الوسطى والفقيرة والأرقاء عبأً كبيرا ودفعت نحو الازدهار الإقتصادي والتقدم الحضاري ولايمكن بالطبع أن يكونوا بعيدين عن ذلك كله .

وبالنسبة للدولة الأموية الأندلسية فقد اتبع حكامها الاستراتيجية التي رسمها مؤسسها عبد الرحمن الداخل بصورة تامة وهي في جوهرها استراتيجية دفاعية , فمن الواضح أن عبد الرحمن الداخل لم تكن له أي رغبة في الغزو والتوسع , والحروب التي خاضها كانت لحفظ حدود الدولة التي ورثها عن  يوسف الفهري وردع أي محاولة للاعتداء عليها أو اقتطاع أراض منها , إضافة لحروبه العديدة ضد محاولات التمرد التي تكررت خاصة في السنوات العشر الأولى للحكم . وضمن تلك الاستراتيجية الدفاعية استطاع أن يعقد معاهدة سلام مع شارل مارتل حاكم الامبراطورية الفرنكية المجاور بل قيل إنه عرض عليه أن يتزوجا ابنته لتوثيق رابطة الصداقة بين البلدين لكن شارل مارتل رفض ذلك في حين قبل الدخول مع عبد الرحمن في معاهدة سلام وحسن جوار .

وربما ينهض تساؤل عن السبب الذي كان وراء ترك الدولة الأموية دولة أستورياس وعدم بذل الجهد العسكري لإنهائها وضم أرضها التي احتلتها خلال مرحلة الضعف الداخلية التي سبقت الدولة الأموية , فالدولة الأموية كانت تمتلك جيشا قويا وأسطولا بحريا , ويذكر المؤرخون أن عبد الرحمن الداخل امتلك قبل وفاته جيشا يزيد عن مئة الف جندي , وجيشا آخر مخصصا لحماية الحكم يقارب أربعين الف جندي , وأسطولا بحريا قويا , كما أسس عدداً من القواعد البحرية التي تضم مصانع للسفن في كل من طركونة وطرطوشة وقرطاجنة وإشبيلية وغيرها, وربما كان أفضل مؤشر لقوته العسكرية مانقل عنه قبل أواخر حياته عام 163 للهجرة من تفكيره بحملة عسكرية كبرى نحو بلاد الشام لانتزاعها من يد الخليفة العباسي واستعادة الدولة الأموية , وشجعه على ذلك أفراد أسرته الأموية , لكن صرفه عن ذلك اشتعال الثورة في سرقسطة، ثم توفي بعد ذلك عام 172 للهجرة.

وهناك مجموعة من الأسباب يمكن أن يفكر فيها المرء جوابا للتساؤل السابق , أولها يرتبط بالاستراتيجية الدفاعية التي سبق الإشارة اليها للدولة الأموية , والسبب الثاني المحتمل هو انشغال عبد الرحمن الداخل لفترة من حكمه باخماد الثورات التي كان يقودها الأمراء المحليون وأحيانا بدفع وتحريض من الدولة العباسية , فكرس بذلك تفكيرا لخلفائه بتوجيه اهتمامهم العسكري نحو الداخل وليس نحو الخارج مع بقاء سياسة الردع الموجهة للخارج الذي يمكن أن يشكل خطرا على الدولة , والسبب الثالث ربما يكمن في المساحة الواسعة جدا لاقليم الأندلس فلم تكن الدولة تشعر بالحاجة لمساحات إضافية , بل كانت تشعر – ربما – بأن المنطقة الشمالية والغربية التي اقتطعتها مملكة أستورياس فائضة عنها خاصة أن أراضيها هي الأقل خصوبة في الاقليم كما أن شعبها الذي يغلب عليه الطابع القبلي شكل دائما مشكلة أمام الدول التي تعاقبت على الأندلس , حتى إن المملكة القوطية السابقة لم تضم تلك المنطقة الى الدولة المركزية التي أنشأتها وبقيت العلاقة بين أستورياس والدولة القوطية شبه معدومة طوال فترة بقاء القوط في الحكم .

   مع ذلك فعبد الرحمن الداخل لم يترك قشتالة خارجة عن سيطرة الدولة الأموية لكنه أخضعها ووضعها تحت سيطرته كما يتضح جليا من المعاهدة التي أبرمهاعبد الرحمن الداخل مع مملكة قشتالة  في الشمال وفيها تقدم مملكة قشتالة جزية سنوية وتخضع لسيادة الدولة الأموية مقابل عدم المس بأمن شعبها وممتلكاته وعدم التدخل في حياتهم ومعتقداتهم وفيما يلي نص المعاهدة :

” بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب أمان الملك العظيم عبد الرحمن للبطارقة والرهبان والأعيان والنصارى والأندلسيين أهل قشتالة ومن تبعهم من سائر البلدان، كتاب أمان وسلام، وشهد على نفسه أن عهده لاينسخ، ما أقاموا على تأدية عشرة آلاف أوقية من الذهب، وعشرة آلاف رطل من الفضة، وعشرة آلاف رأس من خيار الخيل، ومثلها من البغال مع ألف درع والف بيضة، ومثلها من الرماح في كل عام الى خمس سنين، كتب بمدينة قرطبة ثلاث صفر عام اثنين وأربعين ومئة ( 759) للميلاد.”

وشكلت تلك المعاهدة بديلا لعبد الرحمن الداخل عن السيطرة الكاملة على قشتالة مع ما وفرته من أموال وتجهيزات وخيل وبغال …

وأخيرا فهناك أيضا احتمال أن يكون عبد الرحمن الداخل قد تساهل بترك شمال ايبريا لممالك مسيحية ضعيفة كحاجز بينه وبين الامبراطورية الفرنكية القوية , وربما اعتبر وجود معارضة مسيحية ضمن دولة هزيلة محكومة أفضل من انتشارها في الأندلس .

واذا كانت السردية التقليدية لتاريخ الأندلس تصور أن “حروب الاسترداد” قد بدأت مع معركة كوفادونغا وتشكل دولة اوسترياس فإن عدم وجود معارك ذات قيمة بين دولة اوسترياس والدولة الأموية في الأندلس لما يقرب من ثلاثمئة عام كفيل بثقب تلك السردية بطريقة تجعل من غرقها أمرا لامفر منه .

ويبدو أن الأجيال الجديدة من المؤرخين والتي اصبحت تنظر للتاريخ بدرجة من الموضوعية لم تعرفها الأجيال السايقة لم تعد مقتنعة بتلك السردية التقليدية لتاريخ الأندلس .

وقد شملت المراجعة ليس فقط لتاريخ حروب ” الاسترداد ” ولكن لمفهوم ” الاسترداد ” ذاته وبصورة أعمق لعلاقته بالحروب الصليبية بل لإمكانية اعتباره جزءا منها أكثر من أي شيء آخر .

وبالتأكيد فإن إدخال عامل الحروب الصليبية ومواقف بابوات الفاتيكان المتلاحقين من دولة الأندلس والتحريض والتعبئة لملوك ومسيحيي أوربة للحرب المقدسة ضد المسلمين يمكن أن يساهم بتفسير التحول في موازين القوى الذي طرأ على العلاقة بين المملكة القوطية في شمال الأندلس وبين الإمارات الإسلامية والذي يرسم لنا خطا تصاعديا بعد منتصف القرن الحادي عشر لصالح مملكة اوسترياس التي انضوت ضمن مملكة قشتالة والمملكة الأخرى ( أراغون )  الأقل أهمية في شرق وشمال الأندلس التي تشكلت بتاريخ لاحق بفضل تدخل الامبراطورية الفرنكية واحتلالها لبرشلونة كما سبق الاشارة اليه .

على أن أوربة الغارقة في ظلام القرون الوسطى والتي كانت خاضعة لتوجيهات بابا الفاتيكان أظهرت باكرا دعمها لمحاربة المسلمين في الأندلس وطردهم من البلاد كما تبين غزوة شارلمان ملك الفرنجة ( الفرنكيين)

غزو شارلمان ملك الفرنجة لبلاد الأندلس:

في عام 157 للهجرة الموافق 774 للميلاد ثار سليمان بن يقظان الكلبي والي برشلونة والحسين بن يحيى الأنصاري والي سرقسطة (جده سعد بن عبادة الصحابي المعروف)، واتفقا على خلع عبد الرحمن الداخل، فأرسل عبد الرحمن جيشا إلى سليمان بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي فهزمه سليمان وأسره وتفرق جنده، لكن سليمان لم يطمئن لنصره، ودفعه الخوف من بطش عبد الرحمن الداخل الى أن يلجأ لشارلمان ملك الفرنجة، فسار اليه في نفر من أصحابه حتى دخل الى مقره في مدينة بادربورن في مقاطعة ويستفاليا ( شمال غرب ألمانيا ) عام 160 للهجرة. وعرض سليمان على شارلمان المحالفة على قتال عبد الرحمن، واقترح أن يقوم شارلمان بغزو الولايات الأندلسية الشمالية على أن تكون هذه الولايات من نصيب شارلمان بعد تنفيذ الاتفاق، وتعهد بمعاونته، وبأن يسلمه المدن التي يحكمها هو وصحبه ولاسيما سرقسطة، وأخيرًا بأن يسلمه أسيره القائد ثعلبة بن عبيد. وأن يكون سليمان وباقي زعماء الثورة الأندلسية خاضعين لملك الفرنج شارلمان منضوين تحت حمايته.

اقتنع شارلمان بغزو الأندلس، ومن أجل ذلك أعد حملة عسكرية كبيرة الحجم قوية التسلح، ولإسباغ الصبغة الصليبية على حملته الضخمة أرسل “شارلمان” برسالة إلى البابا “هادريان” يبلغه فيها بعزمه على محاربة المسلمين وطردهم من الأندلس؛ فشكره البابا على ذلك، ووعده بإقامة الصلوات بكنائس روما ليل نهار حتى يعود ظافرا إلى مملكته، كما وعده بتوفير الدعم الداخلي من نصارى إسبانيا المستعربين الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية بالأندلس.

جمع شارلمان جيشا ضخما مع عدد كبير من الجنود والمتطوعة القادمين من البلدان الأوربية المسيحية الأخرى كايطاليا واليونان وانكلترا، وتحرك نحو جبال البيرينيه في بداية الربيع وهناك قسم جيشه الضخم إلى قسمين: قسم يهجم من ناحية الشرق، والآخر من ناحية الغرب على أن يكون اللقاء بين القسمين عند سرقسطة؛ حيث يلتقي شارلمان مع زعماء الثورة،لكن الحسين بن يحيى الأنصاري والي سرقسطة بدل موقفه خلال تلك الفترة، وقام بتحصين سرقسطة والاستعداد لمواجهة شارلمان .

وصلت جيوش شارلمان ومعه الثوار بقيادة سليمان بن يقظان إلى مدينة سرقسطة فوجدوها شديدة التحصين، وأهلها بقيادة الحسين بن يحيى في غاية التحوط والاستعداد للدفاع عنها، وحاول شارلمان وسليمان فتح المدينة وضربا عليها الحصار بشدة ولكن شدة التحصين والاستماتة في الدفاع وقفا سدا منيعا في وجه جيوش الفرنجة، ثم جاءت الأخبار لـشارلمان من بلاده أن القبائل السكسونية -ألد أعداءشارلمان- قد انتهزوا فرصة غيابه وقاموا باجتياح أراضيه فيما وراء الراين، وهنا شعر شارلمان أنه لا فائدة من بقائه في الأندلس بعدما فشل في اقتحام سرقسطة، واختلف حلفاؤه من المسلمين فيما بينهم ، وأعداؤه من خلفه استولوا على أراضيه بفرنسا، فقرر الرجوع بسرعة إلى بلاده، ولكنه غضب بشدة من حليفه سليمان بن يقظان لتخاذله وخداعه له، فقبض عليه وأخذه معه إلى بلاده أسيرا، وكان ذلك في شهر شوال سنة 161للهجرة = يوليو/تموز سنة 778 للميلاد.(17)

صحيح أنه لايمكن الاستهانة بالعوامل الأخرى في موضوع الخلل الذي أصاب التوازن في العلاقة بين الأندلس وقشتالة وأرغون مثل انحلال الدولة الأموية عام 1031 م وتفكك عرى الدولة المركزية الى إمارات اتسمت العلاقة بينها بالتنافس والخصومة التي تصل الى حد الاستعانة بقشتالة الإسبانية للتغلب على إمارة أندلسية مجاورة لكن بالرغم من ذلك يبقى السؤال : هل كان ممكنا للمملكتين الإسبانيتين التوصل للانتصار العسكري التام على جميع الإمارات الأندلسية وإنجاز الإبادة والتطهير الديني دون المساهمة الأوربية البشرية والمالية التي تعتبر جزءا من الحروب الصليبية ؟

وهل كان ممكنا بدون تحريض الفاتيكان والمؤسسات الكنسية التي تتبعهم  نشر التعصب الديني المسيحي في المملكتين الإسبانيتين قشتالة وأرغون ورفع درجة ذلك التعصب لاحقا نحو تشريع محاكم التفتيش وإجبار الناس على تغيير دينهم بحد السيف وتهجير الملايين من السكان الأصليين الذين وجدوا هم وأجدادهم في ايبريا قبل غزو القوط وقبل الرومان ؟ لمجرد أنهم أصبحوا مسلمين منذ مئات السنين ؟

لاحظ الدكتور حسين مؤنس في كتابه ” معالم تاريخ المغرب والأندلس ” أن الامارات المسيحية الشمالية بما  في ذلك ليون كانت في حالة ضعف وكانت ممالك صغيرة وفقيرة , تتكون من أراض زراعية , ليس فيها مدن تذكر سوى ليون وأبيط وربما استرقة , بالتالي فواقع الأمر أن الوضع كان في مطلع القرن الحادي عشر يمكن وصفه بتوازن الضعف بين ليون – قشتالة وبين طليطلة وماحولها , ويبدو أن فراغا في القوة حصل في طليطلة بسبب الأوضاع السياسية الداخلية السيئة التي كانت تعم الأندلس فلم تكن الولاية ذات الأهمية الإستراتيجية وسط الأندلس والتي تضم أراض تقارب خمس مساحة الأندلس تملك سوى 500 مقاتل , ولابد أن ملك قشتالة الذي آل اليه الحكم بعد موت أخيه سانشو والذي لجأ لطليطلة أثناء صراعه مع أخيه قد اكتشف خلال إقامته بطليطلة ضعف قوة الولاية وإمكانية السيطرة عليها بجهد عسكري محدود , فلجأ إلى تجميع قوى عسكرية من الممالك المسيحية الشمالية , وأحدث اختراقا سياسيا وعسكريا حين تحالف مع حاكم طليطلة يحيى بن ذي النون لدعمه في مواجهة بقية الولايات الأندلسية , ثم انقض عليه لاحقا , فاستولى على طليطلة وكسب أراض واسعة استطاع بواسطتها إرساء دعائم مملكة قشتالة لتصبح من أكبر ممالك الأندلس

  ويذكر الدكتور حسين مؤنس أن الممالك المسيحية شمال الأندلس كانت قبل مطلع القرن الحادي عشر في وضع دفاعي تجاة الأندلس , وهمها العيش بسلام واتقاء خطر القوى المحاربة المسلمة وبالتالي لايمكن الحديث عن حروب ” استرداد ” قبل ذلك التاريخ وهذا صحيح , لكن الصحيح أيضا أن ميزان القوى لم يختل تماما بعد ذلك سوى بعد أن تحولت المواجهة إلى حرب صليبية انخرطت أوربة والمؤسسة البابوية  فيها بصورة فعالة ودائمة .

وعندما نتحدث عن تحول المواجهة إلى حرب صليبية فنحن نتحدث عن مشاركة أوربية شاملة في المعارك ضد المسلمين في الأندلس ويشمل ذلك التعبئة والحشد وضخ الحماسة والأفكار الدينية المتعصبة وكذلك المشاركة البشرية وبكل ما تتطلبه الحرب .

وفي كتابه ” تاريخ اسبانيا العصر الوسيط ” كتب المؤرخ جوزيف كالاغان : ” كان القرن الحادي عشر مرحلة انتقالية تميزت باندماج إسبانيا المسيحية ( يقصد الممالك المسيحية خاصة قشتالة وأرغون ) بالمسيحية الغربية وأيضا بإعادة هيكلة البنية السياسية للأندلس , لقد كثفت الولايات الإسبانية المسيحية علاقاتها مع الشمال المسيحي خاصة مع فرنسا والبابوية بكل طريقة كانت ودخلت في السياق العام للحضارة الأوربية , وهكذا قدم من الأراضي شمال جبال البيرينيه الفرسان والرهبان والتجار والحرفيون والعلماء , أحيانا بدافع المغامرة والتجديد , ولكن في الغالب للاستقرار وبناء حياة جديدة لهم “

وبالطبع فقد فات السيد كالاغان القول بأن مكتسباتهم في الأرض الجديدة كانت الأملاك والأراضي والثروات التي حصلوا عليها بعد طرد الأندلسيين واغتصاب أملاكهم وبيوتهم . وأن ماكان يطلب منهم بالدرجة الرئيسية هو المشاركة بالقتال ضد الأندلسيين , وتأمين متطلبات الحرب الدائمة . لكن النص السابق يلقي ضوءا كافيا على حقيقة أن غزوا خارجيا كان يتم للأندلس وأنه كان مترافقا مع الاستيطان وهذا الغزو في الواقع هو الذي غير موازين الصراع في الأندلس بحيث جعل الأندلس  يحارب باستمرار حربا تراجعية أمام قوى بشرية وعسكرية لاطاقة له بها على وجه الاطلاق . (18)

في رسالة يعتقد أنها كتبت حول العام 1096 م وبعد مضي عام على إعلانه التعبئة والتجنيد من أجل الحملة الصليبية الأولى في مجلس كليرمونت عام 1095 م خاطب البابا أوربان الثاني أربعة مجموعات مقاتلة كتالونية قوية كانت عازمة على الانضمام للحملة من أجل القدس , وفي رسالته حث البابا تلك الفرق المقاتلة على أن تبقى في ايبريا وأن لاتترك  أرضها وتذهب نحو الشرق , وبدلا من ذلك فقد شجعهم على مواصلة القتال ضد المسلمين في ايبريا , فتلك المجهودات سوف تكسبهم مكافآت روحية تعادل المكافآت التي يمكن أن يحصلوا عليها من القتال في آسيا  وقد كان للبابا أسباب جعلته واثقا من أن النبلاء الكاتالونيين سيستجيبون لندائه في العدول عن التوجه إلى القدس. (19)

وفي نهاية القرن الحادي عشر الميلادي تماما قبل انطلاق أول حملة صليبية , عبر الملك سانشو الأول  ملك أرغون ونافار عن تطلعاته كالتالي : ” ليكن معلوما بالنسبة لجميع المخلصين أنه من أجل توسيع كنيسة  المسيح  التي أبعدت  سابقا من الأقاليم الإسبانية فإنني أنا سانشو سوف أرعى توطين السكان في ذلك المكان ( مونتيميور- جنوب قرطبة ) من أجل استعادة وتوسيع كنيسة المسيح , ولتدمير الوثنيين ( يقصد المسلمين ) أعداء المسيح , ومن أجل نهضة ونفع المسيحيين , لكي تتحرر المملكة التي هوجمت واحتلت من قبل الإسماعيليين ( يقصد العرب ) لخدمة وشرف المسيح . وبحيث يتم طرد كل أولئك الذين يقومون بالطقوس الكافرة , والتطهر من قذارة أخطائهم الشريرة , ولتتعزز هناك كنيسة سيدنا عيسى المسيح الى الأبد “(20)

يظهر النص السابق قوة وعمق الروح الصليبية في خطاب الملوك الأسبان فيما يتعلق بحربهم ضد المسلمين , فالمسألة بجوهرها هي مسألة تطهير ديني , وخدمة لكنيسة المسيح , ويتطابق ذلك مع خطابات البابوات في الفاتيكان عن تطهير القدس من الوثنيين المسلمين واستعادة قبر المسيح وكنيسته في الأراضي المقدسة

وبكلام آخر فإن تحرير المملكة بعد تدمير وطرد المسلمين واستئصال عاداتهم سوف يؤدي إلى انتعاش ونمو وازدهار الدين المسيحي .

ويظهر النص السابق أيضا أن جميع المآسي الكبرى التي حلت بشعب الأندلس لاحقا لم تأت من فراغ , ولا هي مجرد  فورة غضب أو رد فعل وإنما جاءت تنفيذا لعقيدة تطهيرية – استئصالية تبلورت عند الملوك القوط والكنيسة الأسبانية وأصبحت جزءا من ايمانهم المسيحي . وهي ذات العقيدة الصليبية التي صاغها الفاتيكان لدفع جماهير المؤمنين نحو حمل السلاح والتوجه للأراضي المقدسة .

وفي رده على رسالة استغاثة بعث بها حاكم طليطلة إلى فرناندو الأول يستنجد به ضد حاكم سرقسطة المسلم , كتب فرناندو : ” نحن فقط نريد استعادة أرضنا التي قمتم باحتلالها منا في الزمن الماضي في بداية تاريخكم ( يقصد تاريخ المسلمين في الأندلس ) وأقمتم فيها الزمن الذي أتيح لكم ( كان من نصيبكم ) وقد أصبحت الغلبة لنا عليكم , بسبب شركم , ( يقصد كفركم ) , فاذهبوا اذن للجهة الأخرى من المضيق ( مضيق جبل طارق ) واتركوا بلادنا لنا , فلاخير لكم في بقائكم هنا معنا بعد اليوم , فسنظل وراءكم حتى يفصل الله بيننا .” (21) وهي رسالة تحمل معاني الإهانة إضافة للتهديد بدلا من الإجابة سلبا أو إيجابا .

وفي حين لايشعر المرء بأي تعاطف مع حاكم طليطلة الذي أرسل يستنجد بفرناندو , الا أن ماورد فيها يؤكد روح الإبادة والتطهير الديني لحرب ” الاسترداد ” التي تفاقمت منذ مطلع القرن الحادي عشر .

ماينبغي الإنتباه اليه أن الخطاب المتكرر الذي يحمل كل معاني الابادة والتطهير الديني قفز فوق حقيقة جوهرية وهي أن معظم المسلمين الذين يريد إخراجهم من الأندلس هم أهل البلاد الأصليون الذين أسلموا . وتكمن الخدعة في ذلك الخطاب في اعتباره وكأن أهل البلاد الأصليين ” الأسبان ” بقوا على دينهم المسيحي وأن المسلمين هم العرب أو المورو , بالتالي فإخراج المسلمين هو إخراج  لغرباء احتلوا البلاد مدة من الزمن ( مهما طالت )

ويناقش  غالاكان في كتابه “ الاسترداد والحرب الصليبية في اسبانيا العصور الوسطى” الملامح الصليبية في حروب ” الإسترداد” ويقول في مقدمة الكتاب إن المؤرخين للعصور الوسطى ( ويقصد المؤرخين الغربيين ) قد مالوا إلى نظرة ضيقة بالتركيز على الحروب الصليبية التي توجهت نحو الأراضي المقدسة ( يقصد بلاد الشام ) خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي بينما يرى هو أن الحروب في شبه الجزيرة الايبرية والتي وصفت عموما بحروب ” الاسترداد ” قد تحولت من قبل البابوية ( الفاتيكان ) إلى حروب صليبية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر .

كتب لويس غارسيا : 

“في عام 1958 م نشر القس خوسيه غونيغز تامبيديه من كاتدرائية بامبلونة كتابه ” تاريخ صعود الصليبية في اسبانيا ” ويعتبر الكتاب مسحا تاريخيا  لأسبانيا شاملا للفترة من عام 711 م – القرن التاسع عشر يضم أكثر من 700 صفحة . واعتبر الكتاب مرجعا لعمق مصادره خلال الخمسين عاما اللاحقة على نشره , مع ذلك فإن قيمته لايمكن أن تحجب طابعه الايديولوجي , وفي كتابه أكد خوسيه على الملامح الصليبية لحرب ” الاسترداد ” وبرر ذلك باعتبارها ردا على العواقب السلبية للغاية التي حملها الغزو المغاربي ( الموريسكي) على المسيحية .

اعتبر خوسيه حرب ” الاسترداد” حربا مقدسة , وأنها تحولت إلى حرب صليبية اعتبارا من النصف الثاني للقرن الحادي عشر , أما في الوقت الراهن فهناك كثيرون لايتفقون مع خوسيه في اعتبار حرب “الاسترداد “حربا صليبية وبعضهم يجد ذلك مبالغة ذات لحن امبريالي , وقد واجهت أفكار خوسيه الاستنكار والتجاهل من قبل المؤرخين الكلاسيكيين بسبب ربطها بين التاريخ الداخلي لشبه الجزيرة الايبرية وما يحدث خارجها ولكون وجهة نظر خوسيه تطرح التساؤل ليس فقط حول الملامح الايبرية الحقيقية لحرب ” الاسترداد ” لكنها تتطلب من المؤرخين مد نظرهم إلى ماوراء جبال البيرينيه وشواطىء ايبريا مع البحر المتوسط .

لكن وبعد خمسة وأربعين عاما من ظهور كتاب خوسيه نشر جوزيف غالاكان كتابه حول الموضوع ذاته بمقاربة مشابهة تماما لمقاربة خوسيه وقد توصل فيه إلى أن الحروب بين المسلمين الأندلسيين والممالك المسيحية (القوطية ) والتي وضع لها عنوان ” الاسترداد”  قد تحولت بفعل تدخل المؤسسة البابوية إلى حرب صليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر , وهكذا لم تظهر مداخلة غالاكان التوافق مع ما طرحه خوسيه سابقا فقط ولكنها أدخلت فكرة جديدة وهي اعتبارتدخل المؤسسة البابوية عاملا فعالا في تحول الحرب إلى حرب صليبية . وقد كان مفاجئا أن غالاكان وهو الخبير في تاريخ العصور الوسطى لشبه الجزيرة الايبرية يقترح أن تدخل المؤسسة البابوية قد غير طابع الصراع ضد الاسلام في ايبريا “(22)

لكن أخطر ماكتب حول طابع الحرب الصليبي والتدخل الخارجي جاء من ريتشارد فليتشزر الذي كتب مقالة عام 1987 يقرر فيها أن لا أهمية لفكرة ” الإسترداد” كما أكد أن التوتر الذي ساد العلاقة بين الأندلسيين المسلمين والمسيحيين حتى عام 1080 م , وغلبة التوجهات العدوانية عند المسيحيين اعتبارا من ذلك التاريخ إنما يعزى إلى التحريض والدفع من الخارج وخصوصا من المغامرين القادمين من فرنسا سواء منهم الرهبان الكنسيون أو الفئات الأخرى والذين أسسوا لأنفسهم في إسبانيا في الفترة مابين العام 1080 – 1140 م , وهكذا فإن طابع الحرب المستديمة بين الطرفين المسلم والمسيحي  قد جلبت بواسطة الأفكار الصليبية والتي لم تكن نابعة من إسبانيا ولكن تم تصديرها اليها من الخارج ” (23)

وكدليل آخر على الطابع الصليبي  لحروب الاسترداد ففي زمن الموحدين كان من الصعوبة بمكان على يعقوب المنصور إيقاف خطر الأعداء في وقت واحد بكل من الأندلس وافريقية، وهكذا فقد استغل البرتغاليون أولا وجوده في إفريقية، ثم حالة الإرهاق التي كانت عليها قواته بعد العودة منها، وأخيرا إنشغاله بمؤامرات أقاربه ، ليكثفوا من هجماتهم التي امتدت إلى مختلف أنحاء الأندلس. ففي البرتغال وبعد أن خصص سانشو، الذي خلف والده هنريكيث على العرش عام 1185م، السنوات الثلاث الأولى من عهده لإعادة تعمير وتنظيم التي أصابها الخراب من جراء الحروب، وهو ما جعله يستحق لقب المعمر  المراكز والقلاع التي أصابها بدأ بمهاجمة أراضي المسلمين  وقد استغل في ربيع 1189م وجود الجيوش الصليبية الجرارة القادمة من بلدان الشمال، على أراضي مملكته، وكانت عادة تتوقف في الموانئ البرتغالية إما اضطراراً أو اختيارا أثناء توجهها نحو فلسطين، ليقوم وبمساعدتها بغزو شامل لمنطقة غرب الأندلس، وكانت البداية بأهم معاقل هذه المنطقة وأكثرها تحصنا وهي مدينة شلب  .                                                                        .

وخلال نفس سنة 1189م، أي بعد عام واحد من استعادة القدس من طرف صلاح الدين الأيوبي، أرغمت العواصف البحرية عددا من الفلاندريين والألمان المتوجهين الى فلسطين على ظهر أسطول مكون من خمسين سفينة فرنسية، للإلتجاء الى ميناء لشبونة، وكانت هذه السفن قد توقفت قبل ذلك في ميناء شنت ياقب. وأثناء وجودهم في لشبونة اتفقوا مع سانشو للتوجه الى شلب على اعتبار أنها كانت ملجأ للقراصنة، وعلى اعتبار أن المسلمين كانوا ينطلقون منها نحو مختلف جهات بحر المحيط (المحيط الأطلسي) حيث يأسرون الكثير من المسيحيين ويستولون على ثرواتهم .

وقد استهدف الهجوم في البداية مدينة “البورو” حيث تمكن الفيلق الصليبي الذي قام به، من إبادة ساكنيها الذين  تقدر أعدادهم بستة آلاف نسمة، هذا النجاح شجع سانشو على تكرير العملية خصوصا مع مجيء قوات صليبية أخرى ألمانية وإنجليزية. وقد غادرت هذه القوات خليج تاجة يوم 16 يوليو 1189م، وفي ظرف أربعة أيام رست في خليج “بورتيماو” على بعد 12 كلم من شلب، ثم انتقلت بعد ذلك إلى ميناء نهر “دراري” الواقع على مسافة ثلاثة أميال من شلب وذلك للالتقاء بالقوات البرتغالية البرية المشاركة في الحصار وكان على رأسها الكونط “ميندو .                                                                                                     ”

ثم مباشرة بعد هذا، تمت مهاجمة شلب بعزيمة كبيرة حيث تم احتلال أرباضها، وأمام هول المفاجأة، انتابت سكانها حالة رعب التجئوا معها الى ما خلف أسوار المدينة دون أن ينتبهوا إلى أنهم تركوا أبوابها مفتوحة. وحسب مؤلف “تاريخ سانشو الأول” فإنه كان من السهل وقتها احتلال المدينة، غير أن جشع الأجانب المشاركين في الهجوم حال دون ذلك؛ حيث انهمكوا في النهب وحمل كل شيء نفيس وجدوه  بالأرباض إلى سفنهم وإضرام النيران فيما دون ذلك. (24)

وهنا سوف نتوقف قليلا .  

وأول ما ينبغي الإشارة اليه تذكير القارىء بأن أوربة الحالية ليست أوربة القرنين الثاني عشر والثالث عشر , فالمؤسسة البابوية الحالية تملك فقط نفوذا روحيا محدود التأثير بينما كانت في قمة قوتها ونفوذها الفكري والسياسي على ملوك أوربة وشعوبها المتدينة في العصور الوسطى وبالتالي فإن انخراطها في الحروب ضد الأندلس كان يعني الكثير بالنسبة لتأمين الدعم المالي والبشري والحماس الديني لتلك الحروب .

والنقطة الثانية أن المؤرخين الغربيين لم يتجاهلوا النظر إلى الحروب الصليبية ضد الأندلس عن غير قصد كنوع من الاهمال والتقصير , لكن لسبب جوهري يتمثل في أن توصيف الحروب ضد المسلمين في الأندلس بوصفها حروبا صليبية ينفي عنها في الواقع تلك الصفة التي حرص المؤرخون الغربيون على اشاعتها واعتبارها شبه مسلمة بكونها حروب ” استرداد” ومفهوم “الإسترداد” هنا يحمل بوضوح معنى التحرير والإنقاذ من الإحتلال الأجنبي . فالحروب الصليبية شيء والحروب الوطنية شيء آخر مختلف تماما .

ولكون مفهوم ” الإسترداد” يعاني في الأصل من الإختلال الداخلي والغموض ويتضح ذلك بسهولة من حقيقة أن الغالبية الساحقة من السكان الأصليين في ايبريا ( أسبانيا الحالية ) قد اعتنقوا الاسلام بإجماع المؤرخين , وتعلموا العربية ونسوا اللاتينية عبر مئات السنين , فما معنى التحرير والاسترداد هنا ؟

هكذا فمفهوم “الإسترداد” ميت بالولادة وما كان له أن ينهض سوى بحقنه بالتعصب الديني , لكن إدراك الحقيقة الصليبية لحروب “لاسترداد” والاقرار بها سيلحق بذلك المفهوم ضررا مدمرا لايمكن إصلاحه .

وذلك بالضبط مادفع المؤرخين الغربيين لتفادي توجيه الانتباه للحروب الصليبية التي كانت تجري في إسبانيا تحت عنوان ” الإسترداد ” .

والملاحظة الأخيرة أن المكاسب الكبرى لحروب “الاسترداد ” والتي تزامنت مع انهيار التوازن في القوى بين ممالك الأندلس والممالك الأسبانية خاصة قشتالة وأرغون والبرتغال ( جليقية كما تسمى بالعربية ) حدثت بالتوافق مع انخراط البابوية في الحروب الصليبية في الأندلس .

فحتى العام 1031 م كانت الممالك الأسبانية بوضع دفاعي تجاه الأندلس , وكانت معظم أراضي أسبانيا والبرتغال بيد الأندلسيين ( حوالي 75% من شبه الجزيرة الايبرية ) .

والحقيقة أن الانخراط البابوي في الحروب ضد الأندلس لم يبدأ كما ذكر كالاغان مع القرن الثاني عشر بل قبل ذلك , لكن ذلك الانخراط كان يتصاعد مع الزمن حتى بلغ ذروته خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر , ويمكن الاشارة هنا الى حملة شارل مارتل التي عرض لها هذا البحث سابقا حوالي العام 778 م والتي أرسل فيها البابا هادريان رسالة له قبل انطلاقها يشجعه فيها ويبارك حملته لطرد المسلمين من اسبانيا ويعده بدعمه بالمتطوعين وبتوجيه التعليمات إلى الكنائس في الأندلس لدعم الحملة .

مع ذلك يمكن القول إن الحملات الصليبية الكبرى وما رافقها من حشد لامثيل له في اوربة بلغت ذروتها بالفعل في القرنين الثاني عشر والثالث عشر وهي الفترة التي شهدت انقلاب موازين القوى في الأندلس وسقوط اشبيلية وقرطبة وانحسار الوجود الأندلسي نحو غرناطة وماحولها .

فقبل معركة العقاب التي حدثت عام 1212 م وفي التحضير لها “بعث الفونسو الثامن ملك قشتالة كبيرالأساقفة  رودريغو إلى روما ليطلب من البابا إعلان الحرب الصليبية ضد المسلمين في الأندلس , وقبل عودة رودريغو إلى طليطلة ذهب إلى ايطاليا وفرنسا وألمانيا لتنظيم التجنيد , وقد كتب البابا اينوسنت الثالث إلى أساقفة فرنسا لحث المؤمنين بقوة على المسارعة لمد يد العون والنجدة لملك قشتالة , كما أعلن عن رضاه ومباركته عن الفونسو الثامن وشعبه , وحذر الحكام المسيحيين طالبا منهم المحافظة على السلام فيما بينهم .

وخلال احتفال في طليطلة بمناسبة أحد الأعياد المسيحية , بدأت عملية التعبئة لجيش ذي صفة دولية ومع المقاتلين الصليبيين الفرنسيين كان مندوب البابا حاضرا بنفسه , وكذلك رئيس أساقفة ناربون (جنوب فرنسا ) أرنالد أموري , وويليام رئيس أساقفة بوردو , الفيكونت ريموند من تورين , ثيوبلاد من بلازون , وغيرهم , وحين تحرك الجيش خارجا من طليطلة في 20 حزيران (يونيو) عام 1212 م تم تقسيمه إلى ثلاثة أقسام , أحد تلك الأقسام الثلاثة كان الجنود الذين جاؤوا من خارج أسبانيا من خلف جبال البيرينيه يقودهم اللورد لوبيز دي هارو حاكم بيسكاي , وفي السياق ذاته أثناء توجههم نحو الجنوب قام الفرنسيون والمقاتلون الصليبيون الترامونتان الآخرون بمحاصرة حامية مالغون ثم قاموا بذبحهم جميعا .”(25)

ويظهر ماسبق بوضوح المشاركة الفعالة القوية لأوربة والفاتيكان في الحرب ضد الأندلس , مع العلم أن قسم الجيش الذي وصف بأنه يضم المقاتلين من وراء البيرينيه هو للمقاتلين الذين قدموا حديثا , ولنا أن نضع في الإعتبار أن نسبه هامة من الجنود في الأقسام الأخرى هي أيضا لمقاتلين قدموا قبل ذلك الوقت واستقروا في قشتالة وأصبحوا في عداد سكانها الدائمين .

فإذا أردنا اقتراح سردية لتاريخ العلاقة بن الأندلس والممالك القوطية التي نشأت شمال شبه الجزيرة الايبرية يمكن القول إن تلك الممالك الصغيرة والضعيفة كونتها أقلية محدودة من النبلاء القوط وأشلاء القوة العسكرية التي دمرها الفتح العربي الاسلامي , واستندت الى الكنيسة الكاثوليكية في تجميعها للمسيحيين شمال الأندلس وقد كانوا من أصول متعددة وبحالة شبه قبلية فمنطقة نافار كان يسكنها الباسكيون ومنطقة استورياس لم تكن ذات صفة قوطية بل لم يتمكن القوط من دمجها بمملكتهم التي كانت قائمة قبل الفتح الاسلامي , وتبين المعاهدة التي أجراها عبد الرحمن الداخل الأموي مع قشتالة خضوع تلك الامارة لسلطة الدولة الأموية مع تمتعها بمايشبه الحكم الذاتي , فالدولة الأموية لم تكن تمانع في وجود إمارة مسيحية خاضعة لها إلى جانبها ولم تشعر بخطر من وجودها , وربما استمر الوضع مستقرا ضمن حدود معينة على تلك الشاكلة مع ممارسة الدولة الأموية سياسة الردع من خلال حملات ” الصوائف ” والتي كانت تستهدف أي بؤرة عسكرية يمكن أن تشكل تهديدا لحدود الأندلس الشمالية , وربما كانت الحدود مفتوحة للتبادل التجاري والعمل .

وفي بداية القرن الحادي عشر توترت العلاقة بين الطرفين بفعل الضخ الفكري – الديني الذي جاء من أوربة , خاصة من فرنسا , ومن المؤسسة البابوية , وذلك مع صعود الصليبية التي خيم ظلها فوق اوربة , وهنا تحول الحلم القوطي القديم باستعادة مملكتهم الضائعة إلى مشروع سياسي صليبي مضمونه طرد المسلمين من اسبانيا بالأساس , وتعمق التدخل البابوي في هذا المشروع ودفع معه آلاف المتطوعين نحو الحرب المقدسة في إسبانيا ومشاركة جيوش كاملة العدة والعتاد في بعض المعارك , وتدفق على قشتالة وأراغون المال والسلاح والرجال , وانتشرت في أوربة فكرة القتال في اسبانيا , وترافقت مع الاستيطان هناك ونهب المدن الأندلسية الغنية , وفي تلك المرحلة التي امتدت مئات السنين ولدت الهوية الأسبانية التي انصهر فيها المقاتلون من مختلف أنحاء أوربة مع بقايا القوط وتحت إمرة ملوكهم ونبلائهم , واستعيدت اللغة اللاتينية من خلال الزخم الديني والتي تحولت نحو الإسبانية .

صحيح أن الأندلس عانى من الانقسام بعد انهيار الدولة الأموية عام 1031 م لكن الممالك القوطية المسيحية كانت أيضا تعاني من الانقسام , وجرت بينها مواجهات مسلحة بعض الأحيان , وماكان بإمكانها أن تصل من القوة الى حد انهاء الوجود العربي – الاسلامي في الأندلس على وجه الاطلاق لولا تحول المواجهة إلى حرب صليبية دخلت معها أوربة بقوة ضد الأندلس . في حين لم تجد الأندلس الدعم الذي يعادل كفة ميزان القوى الذي اختل بشدة بين الطرفين , وأكثر التعابير بلاغة عن تلك الحقيقة ما قاله أبو يوسف يعقوب المنصور أمير الموحدين  لأبنائه حين شعر بدنو أجله : ” أوصيكم بتقوى الله واليتيمة ” قالوا : من اليتيمة ؟ قال : “الأندلس وأهلها الأيتام ” .

هكذا ترك الأيتام وحيدين على مائدة اللئام , ولم يكن باستطاعتهم مهما فعلوا مواجهة الاجتياح الصليبي الأوربي في زمن كانت فيه أوربة تعاني من طفرة سكانية لم تشهدها سابقا , وضيق في وفرة الغذاء والمعيشة بينما كان الأندلس فردوسا لامثيل له في أوربة وكانت قرطبة زينة الدنيا كما وصفتها شاعرة اوربية .

وعلى خلاف نظرة ساذجة انتشرت في المشرق تلوم الأندلسيين لتقاعسهم وخلودهم للدعة والرفاهية , فقد كان المسلمون العاديون يقاومون الغزو دائما بإصرار أثار اعجاب أعدائهم أنفسهم كما يقول ماثيو كار ويتابع في ذلك الموضوع ” وقد أبدى المؤرخ الأسباني فرناندو دي بوليغار إعجابه الشديد بالتحدي الذي أظهره سكان ” الحمة ” حين بذل الأندلسيون كل قوتهم وطاقتهم في القتال كما يتحتم على الرجل الشجاع أن يفعل حين يدافع عن حياته وزوجته وأطفاله من تهديد الرق , ولذلك لم يكونوا يحجمون عن القتال فوق جثث أطفالهم وإخوانهم وأحبتهم على أمل إنقاذ الباقين “و يتابع ماثيو كار قائلا : ” لكن الموارد البشرية والمادية المتوافرة للجيوش المهاجمة كانت دائما أكبر , ومن ذلك ما قاله مسلم غرناطي مجهول حين تذكر : ” هاجمنا النصارى من كل حدب وصوب في سيل لاينقطع , فرقة بعد أخرى .. وأخذوا يضربوننا بحماس وإصرار كالجراد في كثرة فرسانهم وأسلحتهم …وعندما ضعفت قوتنا خيموا في أرضنا وضربونا بلدة بعد أخرى …وأحضروا كثيرا من المدافع الكبيرة التي هدمت الأسوار الحصينة للمدن ” .(26)

لاشك أن القيادات الأندلسية لم تكن عموما على قدر مسؤولية الخطر الداهم , وأن تفرقها وتناحرها ساهم بصورة مؤكدة بالهزائم التي انتهت بفقد الأندلس , لكن لاينبغي لذلك أن يحجب عنا العناصر الرئيسية الأخرى في المشهد الأندلسي الكارثي , وأهم تلك العناصر هو التفوق العسكري والبشري الساحق الذي جاء نتيجة انخراط أوربة كلها في المعارك ضد الأندلسيين , والموارد البشرية التي ضختها نحو ايبريا من فرسان وجنود وسكان مستوطنين من مختلف الطبقات الاجتماعية وأسلحة وتمويل وتحريض ديني صليبي تم فيه تسخير طاقات الكنائس الكاثوليكية لخدمة المجهود الحربي . وأمام التفوق الكاسح الذي حدث بعد منتصف القرن الحادي عشر خصوصا , أصبحت نتائج الصراع مرتسمة في الأفق , ولم تنفع المقاومة الباسلة للمرابطين والموحدين والأندلسيين سوى في تأخير ذلك المصير .

تطور المواجهة بين الأندلس  والممالك الأسبانية :       

في عام 1031 كانت الإمارات الأندلسية ماتزال تحتل معظم مساحة شبه الجزيرة الايبرية وبقيت الممالك الأسبانية محصورة في الشريط المحاذي لجبال البيرينية في الشمال فيما عدا الجزء الغربي من اوسترياس الذي تمدد نحو الجنوب حتى نهر دوير كما يظهر في الخارطة أدناه . (27)

خلال القرون الثلاثة التي سبقت العام 1031 م وجد شريط من المنطقة العازلة التي كانت أرضا غير مسكونة شمال نهر دوير من المحيط الأطلسي غربا  حتى أرغون في الشرق حيث لاوجود لسلطة لكلا الطرفين فيها  لكن السكان المسيحيين في الشمال والمستوطنين الأوربيين كانوا ينزحون نحو ذلك الشريط ببطء دون مقاومة  وازدادت وتيرة نزوحهم بعد العام 1031 م , أما في الشمال الشرقي فكان الوضع مختلفا حيث ظلت الجبهة الإسلاميةهناك متقدمة نحو سفوح جبال البيرينية حتى أواخر القرن الحادي عشر

وبعد أن ترسخ احتلال وادي نهر دوير عسكريا تقدمت جيوش مملكة قشتالة – ليون فاحتلت طليطلة عام 1085 م ولولا تدخل دولة المرابطين في المغرب لانهار مجمل الوضع في الأندلس منذ ذلك التاريخ . وقد أسفر تدخل المرابطين ثم الموحدين بعدهم في منتصف القرن الثاني عشر عن وقف هجمات المملكة الإسبانية وإجبارها نحو التراجع الى وضع دفاعي .

وفي مطلع القرن الثالث عشر وبالتحديد في عام 1212 م وقعت معركة كبرى بين تحالف واسع ضم الممالك المسيحية المتنافسة قشتالة وأرغون ونافار ومملكة البرتغال وفرسان سانتياغو ومتطوعين من فرنسا ومتطوعين من ليون ومن أوربة بعد أن أعلن البابا انوست الثالث الدعوة لحرب صليبية لايحل الغفران على من لايشارك أو يساهم فيها فأرسلت ايطاليا وفرنسا الجنود والمؤون للحرب . وفي الطرف الآخر كان هناك السلطان محمد الناصر سلطان دولة الموحدين التي وضعت الأندلس تحت حكمها إضافة للمغرب.

وفي هذه المعركة تقرر في الواقع مصير الأندلس بعد أن هزمت دولة الموحدين وقتل عشرات الألوف من الجيش ( وقيل مئة الف ) وانكفأ السلطان وبقية جيشه نحو المغرب .

وفي صيف عام 1236 م بعد 24 عاما على معركة العقاب سقطت قرطبة , وفي منتصف القرن الثالث عشر لم يبق في الأندلس سوى إمارة غرناطة التي انضوت تحت حماية قشتالة . وفي عام 1492 تسلم فرناندو وزوجته ايزابيلا ملكا قشتالة وأراغون  مفاتيح غرناطة بعد حصار دام حوالي عام وسقطت بذلك آخر المدن الأندلسية . وتظهر الخارطة أقاليم الأندلس المختلفة والممالك التي استولت عليها قبل سقوط غرناطة :

السردية التقليدية الغربية لحروب ” الاسترداد” :

اعتبرت “حروب الاسترداد” حربا لأجل طرد المسلمين الدخلاء الذين كانوا يرتكبون خطأ باحتلالهم أرضا يعود الحق فيها للمسيحيين . وهكذا تشكل التفكير باستخدام مشاعر العداء الديني لإعطاء الدفعة الأولى للمقاومة .

وفي ذلك الوقت فإن ملوك كل من قشتالة وليون وأستورياس الذين قدموا أنفسهم كورثة لدولة القوط توصلوا للاعتقاد أن عليهم مسؤولية استخلاص كل الأراضي التي كانت ذات مرة تحت حكم المملكة القوطية .

ويعتقد بعض المؤرخين أن ذلك المفهوم ل”الإسترداد” ظل قائما دون أي تعديل ذي قيمة طوال العصور الوسطى لغاية السيطرة النهائية على غرناطة والاتحاد الحتمي بين قشتالة واراغون تحت حكم فرديناند وايزابيلا .

مع ذلك فإن المؤرخين في الثلاثين عاما الأخيرة أو مايقارب تلك الفترة , قد تحدوا تلك الافتراضات , متسائلين فيما إذا كان من المناسب أصلا الحديث عن “استرداد “. وهل حقا ما حصل هو “استرداد” ؟ أم أن المفهوم لايعدو أن يكون أسطورة ؟ وإذا كان من المشروع الحديث عن “استرداد” فما هو المعنى الذي قصد من وراء ذلك التعبير ؟

أوضح المؤرخ ديريك لوماكس أن مفهوم الاسترداد قد تم إدخاله من قبل المسيحيين الأسبان عقب دخول المسلمين الأندلس عام 711 م مباشرة . وأحرز ذلك المفهوم تقدما في القرن التاسع الميلادي في مملكة أستورياس .

على أية حال فمفهوم “الإسترداد ” لم يكن مفهوما استاتيكيا وصل صيغته النهائية في مملكة أستورياس لكنه تطور وتعرض لمؤثرات عبر الأجيال المتعاقبة (28).

والخطورة في سيادة ذلك المفهوم لدى المؤرخين الأسبان والغربيين حتى مابعد منتصف القرن العشرين حين بدأ يتعرض للنقد أنه يشرع إبادة شعب الأندلس و كل الوسائل الجهنمية التي استخدمت في تهجيره وإجبار من بقي على تغيير دينه بحد السيف بما في ذلك محاكم التفتيش الرهيبة .

من أجل ذلك لم نجد حتى عهد قريب في الغرب تلك الصرخة بالشعور بالذنب تجاه أفظع وأوسع حملات الابادة والتطهير الديني التي تمت داخل أوربة عبر التاريخ .

لقد كان مفهوم حرب “الاسترداد” السابق غطاء فكريا يمنح الغرب ليس فقط الأداة الضرورية لقلب وقائع التاريخ وإعادة كتابته بطريقة كاذبة ولكن أيضا لوضع الزهور فوق جثث مذبحة كبرى وجريمة بحق الانسانية

فبدلا من الشعور بالعار لطرد وتهجير مايقارب ثلاثة ملايين أندلسي عبر حملات متلاحقة وقتل مئات الألوف منهم  واجبار ملايين آخرين على تغيير دينهم تحت تهديد القتل والسجن والتعذيب وأولئك الأندلسيين في غالبيتهم  ليسوا من العرب ولا من البربر بل هم من السكان الأصليين لشبه الجزيرة الايبرية الذين كان أجدادهم يعيشون فيها قبل اجتياح قبائل القوط بمئات السنين , وكل مافي الأمر أن آباءهم وأجدادهم اعتنقوا الاسلام , وتعلموا العربية , وأصبحوا جزءا من الحضارة العربية – الاسلامية . أقول بدلا من الشعور بالعار فقد أصبحت تلك الأعمال مدعاة للإفتخار والإحتفال في كل الغرب وليس فقط في أسبانيا .

ومن حظ أجيال اليوم من العرب والمسلمين أن مراجعة واسعة لدى المؤرخين الغربيين قد بدأت منذ ثلاثين سنة ليس فقط لتاريخ الأندلس ومايسمى بحروب “الاسترداد” ولكن أيضا لتاريخ إسبانيا القديم الذي يظهر الهوية الحقيقية لشعب شبه الجزيرة الايبرية والتي تكونت في جزء هام منها من الحضارة الكنعانية الفينيقية خلال ستمئة عام من القرن التاسع قبل الميلاد وحتى القرن الثالث قبل الميلاد حين سيطرت الامبراطورية الرومانية على ايبريا .

وبدون شك فستحمل تلك المراجعة التاريخية التي تتسم بقدر من الموضوعية والبحث العلمي يقظة للضمير الغربي لإدانة الجرائم التي ارتكبت في الأندلس تحت ستار ” الإسترداد ” .

التقدم الحضاري الأندلسي وحروب “الاسترداد”  

من المعروف على نطاق واسع أن الأندلس شهد نهضة حضارية جعلت منه فردوس أوربة الثقافي , وجاء ذلك النهوض مترافقا مع النهوض الإقتصادي والثراء والترف الذي لم تعهد أوربة مثيلا له من حيث اتساع قاعدته الاجتماعية , فأوربة العصور الوسطى كانت غارقة في الفقر والجهل , بينما تنحصر مظاهر الثراء والترف في قصور النبلاء والملوك .

وأحد العوامل الهامة التي حفزت حروب ” الاسترداد ” هي الفارق الحضاري والمادي بين القوط والفرنجة وبين مدن الأندلس العامرة بالغنى والثقافة .

وقد شهدت الفترة اعتبارا من القرن الحادي عشر زيادة سكانية في أوربة مقابل شح في الموارد الاقتصادية بسبب البنية الاجتماعية السائدة وتسلط الكنيسة التي جمدت مفاعيل التطور الحضاري

في بداية القرن الحادي عشر وحتى القرن الرابع عشر حين حدث الطاعون الكبير ازداد عدد سكان أوربة من 30 مليون نسمة وحتى 80 مليون نسمة تقريبا وكانت الكثافة الأكبر للسكان في فرنسا والمانيا ويقدر علماء الديمغرافيا أن عدد سكان فرنسا ارتفع من حوالي خمسة ملايين نسمة في العام 1000 م الى حوالي 15 مليون في القرن الرابع عشر قبل الطاعون الكبير والبعض يرفع التقدير الى 19 مليون نسمة وفق المؤشرات الديمغرافية والسجلات الملكية وبنسبة ازدياد مشابهة ارتفع عدد سكان البلدان التي تتكلم الألمانية ( الجرمان ) من ثلاثة ملايين إلى 12 مليون نسمة (29) , ولم يرافق تلك الطفرة السكانية طفرة في وسائل الانتاج , ويعلمنا التاريخ أن الطفرات السكانية حين تحدث بالنسبة للشعوب المعزولة وذات نمط الانتاج المحدود كالمجتمعات الرعوية أو الرعوية – الزراعية حين تكون الزراعة محدودة الانتاج بسبب طبيعة الأرض أو الطقس أو الظروف النباتية كانتشار الغابات أو ضعف التقنيات الزراعية وقلة مهارة اليد العاملة فإن ذلك يمكن أن يدفع تلك المجتمعات نحو الغزو أو الهجرة . ومن الطبيعي أن يستهدف الغزو المراكز الحضارية الأكثر ثراء كما حدث في اجتياحات المغول للمراكز الحضارية في آسيا وصولا الى المنطقة العربية في القرن الثالث عشر الميلادي .

ويربط البعض الحملات الصليبية نحو المشرق العربي – الاسلامي بأوضاع أوربة الاجتماعية – الاقتصادية وعجز نظامها الاجتماعي عن مواجهة الطفرة السكانية في تلك الفترة بصورة مشابهة لما هو الحال بالنسبة لحروب ” الاسترداد ” . وهناك مؤشرات متعددة لمشاركة الفرنسيين الواسعة في حروب الاسترداد واستيطانهم إثر ذلك في اسبانيا وانصهارهم ضمن البوتقة ” الاسبانية ” كما سيرد لاحقا .

يقول ستانلي بول : ” وكانت حروب المسيحيين نقمة وسوط عذاب على أعدائهم , فقد كانوا جفاة أميين , وكانت أخلاقهم على اتساق مع أميتهم , وماكان يتوقع من هؤلاء الجفاة المتوحشين الا التعصب والقسوة , فإنهم لم يؤمنوا مستجيرا , ولم يتركوا فارا , ولم يبقوا على جريح , وهذا يذكرنا والحزن يملأ صدورنا بما كان للعرب من  بطولة ورفق وسماحة خلق , فكثيرا ما عفوا عن أعدائهم نبلاء متكرمين , بينما نرى اليوم رجال ليون وقشتالة العتاة يذبحون جميع رجال الحاميات , ويستأصلون مدنا مليئة بالسكان , حتى إذا أحد من سيفهم لم ينج من استعبادهم ” ( 30) .

تحيلنا الفقرة السابقة لستانلي بول التي تطرق فيها للأساليب الوحشية التي اتبعها القوط وحلفاؤهم في الحرب إلى ذات الأساليب الوحشية التي اتبعتها الحملات الصليبية نحو بلاد الشام وجرائم القتل الجماعي للمدنيين دون تمييز مثلما حدث عند الاستيلاء على بيت المقدس عام 1099 حين ذبح معظم سكانها ( حوالي 70000) رجل وامرأة وطفل . والهدف هنا واحد وهو الابادة وإرهاب بقية مدن البلاد.

يقول المؤرخ كالاغان في حديثه عن الفترة التي أعقبت انقلاب التوازن لصالح الممالك القوطية وانحسار المسلمين في الأندلس نحو الجنوب : ” مع ذلك فإن إسبانيا الاسلامية التي أصبحت أقل أهمية من قشتالة وأرغون بقيت اللحن المفتاح لشبه الجزيرة الايبرية ليس فقط لكونها وحدها موضوع الحرب ولكن لحضارتها ولبقاء تفوقها الكبير خاصة في الجوانب المادية والروحية على قشتالة وأرغون , لقد كان ذلك الزمن في الحقيقة هو الزمن الذي قدم فيه العالم الاسلامي أعظم علمائه , وفيه أصبحت الدول المسيحية متأثرة بقوة بروح الثقافة الاسلامية ” .

ويا للأسف فقد كان جزاء تلك المنارة للعلم والحضارة ليس فقط التدمير وتشريد شعبها واستعباده , لكن تشويه التاريخ بعد ذلك وتصوير حملة مشعل الحضارة كغزاة وثنيين وأولئك الذين دمروا مدنهم وأحرقوا كتبهم كحملة للايمان القويم .

ونأتي الآن إلى سؤال رئيسي : إذا كانت الغالبية العظمى لسكان شبه الجزيرة الايبرية قد تحولت للإسلام بعد الفتح العربي – الاسلام بزمن قصير , وتعلمت اللغة العربية التي أصبحت سائدة كلغة الشعب اليومية , ونسيت اللاتينية , وأصبحت عاداتهم عربية – اسلامية , واذا كان مصيرهم بعد هيمنة الممالك الاسبانية على ديارهم يتراوح بين التهجير والقتل والاستعباد أما تغيير دينهم بحد السيف فلابد أنه كان الأقل انتشارا , بينما الراجح أن التهجير كان الأوسع انتشارا , وقد بدأ التهجير مبكرا مع بداية القرن الحادي عشر وكان يتم عموما من الشمال نحو الجنوب , وبعض ذلك التهجير جرى بموجب مراسيم أصدرها الملوك الأسبان بعد احتلالهم المدن يمنحون فيها المسلمين مهلة زمنية قصيرة لمغادرة بيوتهم وتسليمها مع أملاكهم للموظفين  المعتمدين من الملك , وهناك نوع آخر من التهجير تم بصورة ذاتية من قبل المسلمين قبل دخول المحتلين الأسبان مدنهم بدافع الخوف من القتل أو اغتصاب النساء أو العبودية , فإذا كان الأمر كذلك فمن أين جاء السكان الجدد ؟

ولاشك أن الاجابة عن ذلك السؤال ستلقي أيضا الضوء بطريقة غير مباشرة عن مصادر القوة البشرية التي سمحت بتكوين جيوش الممالك القوطية رغم أن نسبة القوط في أيام مملكتهم قبل الفتح الاسلامي لم تتجاوز 3% من السكان في ايبريا . ويمكن أن نجد جوابا في ذلك البحث لفايفس وخايمي فسنس:

Economic History of Spain || 13. Reconquest and Resettlement in the 12th and 13th Centuries

Vives, Jaime Vicens

تحت عنوان : ” إعادة التوطين لمدن مملكة أراغون “حيث يقول البحث : ” كقاعدة عامة فإن المدن الاسلامية لوادي نهر الايبرو قد احتلت عن طريق استسلامها ( دون حرب ) وسكانها المسلمون كان بإمكانهم البقاء في ديارهم مدة سنة واحدة , وبعد ذلك عليهم مغادرة منازلهم والخروج خارج أسوار المدينة إلى أماكن تجمع خاصة بهم , مع تركهم أملاكهم المنقولة وغير المنقولة ضمن بلدية مدينتهم أو ضمن بلدية مدينة أخرى , وكنتيجة لذلك برزت بوضوح مشكلة اعادة توطين في المدن بصورة خاصة بخلاف الريف حيث لم تحصل فيه تغييرات جوهرية مماثلة ( السبب غالبا هو الحاجة الماسة لليد العاملة لزراعة الأراضي التي وزعت على النبلاء والفرسان وموظفي الدولة الرئيسيين ) .

وفي المدن بعد أن تم تطهيرها من المسلمين بعد استسلامهم كان من الضروري ايجاد مستوطنين مسيحيين إما من الداخل أو من خارج المملكة وحيث أنه لم يكن هناك طبقة بورجوازية مدنية محلية فإن السكان الجدد الذين كان عليهم النهوض بأعمال التجارة الصغيرة والكبيرة كان  يتوجب جلبهم من الأجانب مثلما كانت الحالة بالنسبة للمدن القريبة من البيرنيه , وهكذا فإن الفرنكيين الذين احتلوا سابقا منذ أربعين سنة أجزاء متفرقة من جاكا , سانغوزا , بنبلونة , وايستيلا , وهوكانوا هم الذين استوطنوا في سرغوزا ( سرقسطة ) توديلا , ترازونا ( طرشونة ) وهكذا .., ونتيجة لذلك فقد كان المستوطنون الأوائل في مدن أراغون من أصول أجنبية , وقد جاؤوا منجذبين بمنافع خاصة عرضت عليهم “

يمكن الاستنتاج بسهولة أن ماسبق لاينطبق بالضرورة فقط على مدن مملكة أرغون , بالتالي فالمسألة لم تكن تحرير أسبانيا الأرض والشعب من نير الاحتلال العربي – الاسلامي , لكنها كانت ابادة شعب من أجل جلب شعب آخر وتوطينه مكانه تحت رايات دينية صليبية .

كما يلقي المثال السابق ضوءا على المصادر المحتملة للقوى البشرية التي بواسطتها جرت حروب ” الاسترداد” .

 يقول كالاغان إن القرنين الحادي عشر والثاني عشر شهدا زيادة سكانية في شبه الجزيرة الايبرية وتعود تلك الزيادة لعدة أسباب منها تدفق السكان من أوربة خاصة فرنسا إلى ايبريا بسبب الزيادة السكانية في فرنسا مما دفع الناس إلى ترك موطن آبائهم باحثين عن أماكن لحياة أفضل وكثير من المهاجرين الفرنسيين استوطنوا بصورة دائمة في ايبريا وبينما كانت أعداد السكان في الولايات المسيحية في ازدياد كانت أعداد المسلمين الأندلسيين في تناقص مستمر ( لم يذكر السبب في الاضطهاد وحملات التهجير القسرية ) وكان سكان المدن المسيحية خليطا من سكان غاليسيا وليون وقشتالة والباسك وأراغون وقتالونيا وهي مجموعات غير منسجمة بقيت لفترة متباعدة عن بعضها مع ازدياد مطرد لأعداد مااصطلح على تسميته بالفرنكيين وهم في الواقع من مختلف مناطق اوربة ممن استوطنوا في ايبريا وجاؤوا من المانيا وانكلترا وايطاليا ومن غاسكوني وتولوز وبروفنس  وأقاليم أخرى فرنسية . (31)

يصف ماثيوكار في كتابه الرائع “الدين والدم – إبادة شعب الأندلس ” محاصرة غرناطة كالآتي : ” شق زهاء ستين ألف فارس وجندي من المشاة طريقهم عبر الوديان النهرية والسهول حتى جبال غرناطة العالية , مدعومين بأرتال إمدادات ووحدات غير نظامية كانت مهمتها الوحيدة حرق المحاصيل وتدميرها , ضمت الجيوش النصرانية في صفوفها كثيرا من المتطوعين الأجانب , جذبهم الوعد البابوي بغفران الذنوب لمن يحاربون الكفار , فضلا عن فرص النهب التي كانت توفرها تلك الحروب , فقد  شارك رماة وحاملو فؤوس انجليز ومحاربون قدامى من حرب الوردتين ومرتزقة سويسريون ولوردات وفرسان من أنحاء أوربة كافة في حرب أسماها الديبلوماسي البندقي أندريا نافاجيرو ” حربا جميلة ربحناها بالحب ” ”  .

لايمكن للمرء تصور مشهد أكثر من هذا المشهد تعبيرا عن طبيعة حروب ” الإسترداد” الصليبية وعمق الإنخراط الأوربي فيها منذ بدايتها وحتى نهايتها عند سقوط غرناطة عام 1492 م .

حضارة الأندلس     

في بداية النهضة الحضارية الأندلسية كانت الكتب تحمل على ظهر الجمال في  القوافل من بغداد ودمشق إلى الأندلس , وكان الأندلسيون يسافرون إلى المشرق لطلب العلم , كما أن كثيرا من علماء وأدباء المشرق هاجروا للأندلس لأسباب مختلفة , ومما امتاز به الأندلسيون إقبالهم على الثقافة العربية – الاسلامية بشغف غير معهود , وانتشار ذلك الشغف لدى الطبقات الوسطى المدنية انتشارا واسعا . وفي عصر لاحق ظهر تفوق العلماء والأدباء والفلاسفة والفقهاء الأندلسيين وأصبحوا أساتذة وأندادا لأقرانهم المشرقيين .

أما الطبقات الوسطى الأندلسية من تجار وحرفيين ومزارعين وممن شغلوا الوظائف الحكومية والدينية – الشرعية فقد تفوقوا بالتأكيد بحبهم للثقافة والكتب على نظرائهم المشرقيين , فلم يكن يخلو منزل من مكتبة عامرة بمئات الكتب , وكان الأندلسيون يتفاخرون بمكتباتهم كما يتفاخر بعض الناس هذه الأيام بسياراتهم الحديثة .

” إلى جانب صقلية أصبحت الأندلس قناة فكرية بين العالم المسيحي ( الأوربي) والعالم العربي مكنت أوربة من إعادة بناء ارتباطاتها المنقطعة بتراثها الكلاسيكي , فكانت قوافل الأمتعة من بغداد ودمشق تأتي بالكتب والمخطوطات العربية من المكتبات العامة ( والوراقين ) إلى أسبانيا , جنبا الى جنب مع ترجمات النصوص اليونانية واللاتينية الكلاسيكية التي اختفت من أوربة منذ انهيار الامبراطورية الرومانية , كما قطع سلسلة من العلماء  المسيحيين ( الأوربيين ) من أمثال أبيلارد البائي وروبرت الشيستري وجيرالد الكريموني الرحلة الشاقة جنوب جبال البيرينيه لزيارة المكتبات العامة ومدارس الترجمة التي ازدهرت في ايبريا الأندلسية, وترجمت هذه النصوص إلى اللغة اللاتينية , إلى جانب ترجمات الأعمال العربية في مجال الكيمياء واللاهوت والرياضيات والفلك والطب , وقد شكلت هذه اللقاءات جزءا مما سماه المؤرخ ريتشارد بوليت ” النقل الهائل للثقافة والعلم والتقنية” من العالم الاسلامي إلى أوربة , وهو النقل الذي أسهم في وضع الأساس لعصر النهضة الأوربي .”

” كانت قرطبة في أوجها إبان القرن العاشر , مدينة لانظير لها في العالم المسيحي ( الأوربي )  ( في الحقيقة لانظير لها حتى في العالم الاسلامي أيضا ) فزهت بطرقها المعبدة وشوارعها المضاءة ومستشفياتها ومدارسها وحماماتها العامة , ومكتباتها العامة , وفي الوقت الذي كانت فيه أكبر مكتبة في أوربة المسيحية تضم ستمئة مجلد على الأكثر , كانت الصناعة المنزلية للخطاطين العرب في قرطبة تنتج زهاء ستين ألف كتاب مكتوب باليد في العام , ويقال إن المكتبات العامة في عهد الخليفة الأموي الحكم ” المهيب والمثقف والاداري ” المولع بالكتب كانت تضم نحو أربعمئة ألف مخطوطة في مختلف المواضيع من الشعر واللاهوت إلى الفلسفة والطب والزراعة .”(32)  .

يقول ابن عذارى في كتابه “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب :”  ومما قيل في آثار قرطبة وعظمتها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية – رحمهم الله – إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة ( 113000)  مئة وثلاثة عشر ألف دار , ومساجدها ثلاثة آلاف مسجد ….وعدد حماماتها ثلاثمئة حمام ” (33)

 ووصف ابن حوقل النصيبي الرخاء والثروة لأهالي الأندلس فقال : ” وأما جزيرة الأندلس ….تغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر والرخص والسعة في الأحوال ..من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر إلى أسباب التملك الفاشية فيها , ولما هي به من أسباب رغد العيش وسعته وكثرته , يملك ذلك منهم مهينهم وأرباب صنائعهم , لقلة مؤنتهم وصلاح معاشهم وبلادهم ” . (34)

فإذا تذكرنا وصف ستانلي بول للمحاربين في حروب ” الاسترداد ” بالوحشية والجهل فربما يصبح مبررا وصف حروب ” الاسترداد ” بأنها في جانب من جوانبها حرب برابرة ضد مجتمع حضاري مترف , تحدوهم الرغبة القوية في النهب والسلب والتملك أكثر من رغبتهم في خدمة الكنيسة . والشبه كبير بينهم وبين قبائل الجرمان التي اجتاحت روما وأعملت فيها سلبا ونهبا وحرقا , وتسببت في انهيار الامبراطورية الرومانية بكل ماكانت تحمله من معالم حضارية ورجوع أوربة نحو الغرق في ظلام القرون الوسطى .

يقول المقري عن حال العلم في الأندلس : ” وأما حال أهل الأندلس في فنون العلوم فتحقيق الانصاف في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز …..والعالم عندهم معظم من الخاصة والعامة , يشار اليه ويحال عليه , وينبه(يعلو)  قدره وذكره عند الناس , ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك ….فالعالم عندهم بارع لأنه يطلب العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه , وينفق من عنده حتى يتعلم , وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء , إلا الفلسفة والتنجيم فإن لها حظا عظيما عند خواصهم “

كتب ليفي بروفنسال : ” إن الإشعاع الذي كانت تعكسه قرطبة على المسيحية الغربية لايمارى فيه ….وهذا الاشعاع آخذ في تأكيد ذاته , وفي بعض الوثائق النادرة جدا مع الأسف أن الشاعرة الألمانية روزيثا التي نظمت أبيات شعرها في منتصف القرن العاشر تدعو العاصمة الأموية قرطبة ب” زينة الدنيا ” ويرسل أوتون الأول امبراطور جرمانيا السفير جان دي غورتس في عام 956 م الى عبد الرحمن الثالث فينقل الينا مترجم حياة ذلك السفير ماشعر به إزاء حضارة كان مع ذلك يعرف عنها من قبل أنها رقيقة وناعمة ” .(35)

أما النص الآتي لبروفنسال أيضا فهو يلقي بضوئين في آن واحد , أحدها على ماسبق أن تعرضنا له من انخراط أوربة خلف حروب ” الاسترداد ” والطبيعة الصليبية لتلك الحروب أما الآخر فيبين أحد عوامل التأثير الحضاري الأندلسي في فرنسا القرون الوسطى .

” على الرغم من أن فرنسا كانت في العصور الوسطى في عزلة عميقة بسبب وضعها الجغرافي , الا أن ذلك لم يحل دون وصول المؤثرات الحضارية من الأندلس اليها عبر الممالك المسيحية في شمال الأندلس , ذلك أن الحملة الصليبية الفرنسية ( ليفي بروفنسال يصفها بالصليبية بوضوح ) التي استهدفت عام 1064 م مدينة برباسترو الواقعة ضمن اقليم اراغون كانت تضم في صفوفها فرسانا من أغلب مقاطعات المملكة  بقيادة أمير نورماندي فلما فاجأت المدينة وانتهت من نهبها , عادت عبر جبال البيرينيه ومعها أعداد هائلة من الأسرى المسلمين , وليس مايمنع هنا من الظن بأن هؤلاء الأسرى قد عملوا في المدن التي سيقوا اليها على نشر المعرفة  بالفنون والأساليب التي لم تكن قد خطرت ببال أسيادهم  قبل أن يذوبوا بين السكان وقد رأينا أن غالبية الكلمات الفرنسية المشتقة من العربية قد جاءت عبر اللغة الأسبانية .”(36)

واذا ربطنا بين النص السابق الذي تحدث عن توطين الفرنسيين في مملكة أراغون بعد طرد العرب    والمسلمين منها والفراغ السكاني الذي أحدثه ذلك الطرد , وبين هذا النص الذي يخبرنا عن حملة عسكرية كبيرة منظمة من المملكة الفرنكية لاجتياح المدن الاسلامية في اراغون ونهبها وسوق سكانها أسرى لأصبح لدينا رؤية أفضل لسبب اختلال ميزان القوى لصالح الممالك الاسبانية , ولطبيعة الموارد البشرية القادمة من أوربة سواء منها المشاركة بالمجهود الحربي او بالاستيطان والاستيلاء على ممتلكات وأراضي أهل الأندلس الذين طردوا من ديارهم وسلبوا جميع أملاكهم .

أما التأثيرات الحضارية التي يتحدث عنها بروفنسال والتي انتقلت الى فرنسا عبر الأندلس فنادرا مايرد ذكرها لدى المؤرخين الغربيين , وفي حين تبقى محصورة ضمن بعض الكتب والأبحاث الأكاديمية المعمقة فأن الثقافة المتداولة على نطاق أوسع تسقطها إلى حد كبير .

تذكر بعض التقديرات أن السكان المسلمين في ايبريا بداية القرن الثاني عشر بما في ذلك الأمازيغ والعرب والأيبريين الأصليين الذين اعتنقوا الاسلام كان عددهم جميعا زهاء خمسة ملايين ونصف المليون , وفي  نهاية القرن الخامس عشر كان عدد المسلمين في اسبانيا يتراوح بين خمسمئة الف وستمئة الف من أصل إجمالي سكان أسبانيا الذين كان عددهم يتراوح بين سبعة الى ثمانية مليون نسمة .

ومما سبق يمكن استنتاج أن الغالبية العظمى لسكان ايبريا في القرن الثاني عشر كانت من الأندلسيين المسلمين الذين انصهروا في بوتقة الحضارة العربية – الاسلامية فلو افترضنا جدلا عدم زيادة عدد المسلمين من القرن الثاني عشر حتى القرن الخامس عشر لكانت نسبتهم حوالي 73% من اجمالي السكان.

وقد تم طرد وتهجيرقسم كبير منهم خلال  مئتين وخمسين عاما تقريبا  قبل سقوط غرناطة أما القسم الآخر فقد وجد نفسه مجبرا على التحول نحو المسيحية بدل الهجرة أو التعرض للاضطهاد . أما الذين بقوا بعد   سقوط غرناطة فقد كان ينتظرهم سيف محاكم التفتيش .

لقد تم التهجير بحملات منظمة كان فيها الأندلسيون مخيرين بين الهجرة أو الموت أو الاستعباد , فلايعقل أن يهاجر شعب بكامله من أرض آبائه وأجداده ويترك بيته وأرضه لسبب أقل من القتل أو الاستعباد.

ههنا تم اقتلاع شعبٍ هو صاحب أرقى حضارة عرفتها أوربة حتى ذلك الوقت , دون رحمة ودون شفقة , واعتبرت تلك الجريمة الكبرى بحق الإنسانية مبررة بل وممجدة في أوربة كلها لوقت طويل وجرى إضفاء الشرعية عليها على المستوى العالمي بجعل هذه الأفعال مرادفة لمصالح الدين .

الفصل  الرابع

إبادة شعب الأندلس

يتفق غالبية المؤرخين اليوم على وحشية عملية الطرد , بغض النظر عن قبولهم أهدافها , وتوصف تلك العملية باعتبارها مأساة تاريخية , وجريمة ضد الانسانية لاتنسى , وحتى بعد أربعمئة عام لاتزال تبدو وكأنها من وقائع العصر .  لكن الأفكار القديمة الموروثة منذ القرون الوسطى والحروب الصليبية مازالت حاضرة عند البعض في الغرب وتظهر تارة في تبرير عملية الطرد ففي كتابهما “تاريخ اسبانيا ” دفع المؤرخان الفاشيان لويس برتراند والسير تشارلز بتري بأنه لولا ابعاد المورسكيين لأصبحت أسبانيا ” واحدة من تلك البلدان اللقيطة , التي تترك الأجانب يتقاسمونها ويستغلونها ولاتمتلك فنا أو فكرا أو حضارة تميزها ” وتارة أخرى في انكار دور الحضارة الأندلسية أو التقليل من قيمتها , كما أن هناك اصرارا على اعتبار الأندلسيين المسلمين الذين تعربوا بالثقافة واللغة على مختلف أصولهم العرقية من عرب وبربر وايبريين وقوط ورومان وموالي وصقالبة وانصهروا في بوتقة حضارية واحدة , أقول اعتبارهم مسلمين أغراب محتلين واعتبار حرب الابادة التي شنتها عليهم أوربة تارة عن طريق النبلاء القوط وتارة عن طريق الجيوش الفرنكية والمتطوعين من فرنسا وانكلترا وايطاليا وألمانيا وسويسرا وشمال أوربة . حرب تحرير واستعادة للوطن الأسباني السليب .

وبدون شك فإن الأجيال الجديدة من الغرب الأكثر تحررا وانفتاحا بدأت منذ بعض الوقت مراجعة للسردية التقليدية لتاريخ اسبانيا , وبالنسبة لنا كعرب وكمسلمين فإن النظرة الحديثة في الغرب لعملية ابادة الشعب الأندلسي كجريمة تاريخية ضد الانسانية أمر هام وينبغي تثمينه , لكن المسألة لاتتوقف عنده فقط بل ينبغي الاعتراف بطبيعة التاريخ الأندلسي , وكون الابادة لم تحصل ضمن حرب تحرير , كما أن ثمانمئة سنة من الحضارة لايمكن المرور عليها كمجرد احتلال عسكري أجنبي , فليس الأندلسيون غرباء بل هم أساسا شعب أسبانيا الأصلي , ولم يتم تحريرهم بل استعبادهم وابادتهم لصالح مجموعات عرقية متنوعة جاء قسم هام منها من خارج اسبانيا تحت راية التعصب الديني .

سقطت طليطلة بيد الفونسو عام 1085 م ومنذ ذلك الوقت انفتح باب ابادة شعب الأندلس , فالأندلسيون الذين كانوا يعتزون بحضارتهم ورفعتهم , ويتمسكون بالإسلام والثقافة العربية لم يكن من السهل عليهم العيش تحت حكم ملوك القوط القساة الأجلاف الذين كان أسمى هدف لهم طرد المسلمين واستعادة مجدهم ومملكتهم القديمة , ويصور الشاعر ابن عسال تلك المشاعر التي عصفت بالأندلسيين خوفا من الاستعباد على يد الأسبان فيقول بعد سقوط طليطلة :

يا أهل أندلس حثوا مطيكم                          فما المقام بها الا من الغلط

الثوب ينسل من أطرافه وأرى                      ثوب الجزيرة منسولا من الوسط

من جاور الشر لايأمن بوائقه                      كيف الحياة مع الحيات في سفط

لكن النزوح عن الوطن وترك الديار ليس بالأمر الهين , ولكون ميزان القوى لم ينقلب تماما , كما أن القشتاليين لم تكن لديهم الموارد البشرية في تلك الفترة للتعويض عن السكان بقدر ماكانوا يرغبون في تمويل جيشهم ودولتهم من خلال فرض الجزية ومختلف الضرائب فلم نشاهد عمليات طرد واسعة كالتي صارت تحدث بعد ذلك على دفعات .

فكان من شروط تسليم طليطلة : أن يؤمن أهل المدينة على أنفسهم وأموالهم وأن يؤدوا الجزية الى ملك قشتالة إضافة للضرائب والمكوس وأن يتمتع المسلمون بإقامة شعائرهم وعباداتهم .

لكن الأمور بدأت تختلف خاصة بعد سقوط  قرطبة عام 1237 م فحين ذاك كان الرهبان المرافقين للحملة العسكرية لفرناندو الثالث مصرين على قتل أهل قرطبة جميعا , لكن فرناندو الثالث ملك قشتالة لم يوافق على ذلك ربما ليتسلم المدينة وما تحوي من عمران وكنوز سليمة فخرج أهلها تاركين كل شيء نحو الجنوب .

وحين تدخل المرابطون بزعامة يوسف بن تاشفين لنجدة الأندلس ومواجهة الحملات العسكرية لمملكة قشتالة فقد تمت استعادة ميزان القوى بعد معركة الزلاقة الشهيرة والذي سبق أن اختل بشدة بين الطرفين ,لكن طليطلة بقيت بيد القشتاليين , وفي عام 1212 م حدثت معركة العقاب الفاصلة حين تمكن تحالف الممالك المسيحية ومنها قشتالة وأرغون والبرتغال من هزيمة جيش الموحدين الضخم , وعلى إثر ذلك انسحب الموحدون من ايبريا واختل التوازن بقوة بين الممالك المسيحية وممالك الأندلس المتفرقة والمتناحرة فيما بينها ودخل “الإسترداد”  أقوى فتراته وأنجحها , وفي عام  1248 م سقطت إشبيلية وخرج منها مئات الألوف من الأندلسيين المسلمين منهم من هاجر نحو غرناطة واستقر فيها ومنهم من هاجر نحو المغرب أو بلاد أخرى .

وفي عام 1492 م وبعد حصار دام عدة أشهر سقطت غرناطة آخر مدينة أندلسية في يد فرديناند ملك أراغون وايزابيلا ملكة قشتالة , وهكذا كانت نهاية عصر الأندلس , لكن تلك النهاية لم تكن سوى بداية أخرى لحملات الإبادة والتطهير الديني التي لم تشهد لها أوربة مثيلا في تاريخها .

وكخاتمة منتصرة لحملة صليبية فقد كافأ البابا فرديناند وايزابيلا بإعلانهما ” الملكين الكاثوليكيين ” وفي انجلترا , جمع هنري االسابع البلاط لصلاة خاصة في كاتدرائية القديس بولس , وهناك وعظ الجميع بأن ينشدوا لله أنشودة جديدة وأثنى على بسالة ملكي اسبانيا وتقواهما .

أصبح قسم من الأندلسيين خاصة الفقراء وعمال الأرياف الذين لم يكن باستطاعتهم ترك أرضهم وبيوتهم والهجرة تحت رحمة الملوك الأسبان , الذين عاملوهم في البداية كأقلية بإمكانها العيش في ظل دولتهم والقيام بعباداتهم ضمن شروط وقيود محددة كما في القانون الذي أصدره الملك القشتالي الفونسو العاشر في القرن الثالث عشر لكن دون الاعتراف بالاسلام كدين أو تشريع , وحددت للمسلمين الأماكن المسموح لهم السفر اليها والضرائب التي سيدفعونها والممتلكات التي بإمكانهم الإحتفاظ بها ..الخ ..

وترافق ذلك مع نزعة عامة لعزل المسلمين في أحياء وأماكن خاصة , لكن تلك التعليمات لم تكن تتبع في كل الأحوال وكان يحدث دائما شيء من الإتصال بين المسلمين والمسيحيين واليهود لمختلف الأسباب والضرورات المعيشية . كما ينبغي عدم نسيان التفوق الحضاري الأندلسي الذي كان يعمل دائما لصالح حاجة الأسبان للأندلسيين ويساهم في ذات الوقت بالتأثير في اللغة والثقافة والعادات الأسبانية .

تميزت الفترة الأولى لحكم الملوك الأسبان بعد سقوط آخر إمارة أندلسية بشيء من التساهل مع وجود الأندلسيين المسلمين لعدة أسباب أهمها الحاجة إليهم كقوة عاملة , وكحرفيين ومثقفين واداريين متفوقين , وحين أكمل جيمس الفاتح الغزو المسيحي لبلنسية ومرسية , حرضه البابا وبعض أساقفته على ” إبادة السراسنة ” كما كان يطلق على المسلمين من أراضيه التي ضمها حديثا , على أن كلمة الإبادة لم تكن تعني القتل بالضرورة فهي تتضمن أيضا فكرة الطرد , لكن الملك الأرغوني لم يكن بمقدوره الإمتثال لتلك المطالب دون فقدان السكان الذين يفلحون الأرض ويحصدون الزرع ويزودون التاج نفسه بدخل كان أساسيا بالنسبة اليه .

لكن ذلك ” التسامح ” الأسباني تجاه بقاء المسلمين بدأ يتغير مع مرور الوقت خاصة مع ازدياد اندماج إسبانيا مع بقية العالم المسيحي الأوربي وتأثرها بالتطورات التي تحدث هناك, وأيضا مع ازدياد الهجرة اليها من أوربة . ففي عام 1209 م أطلقت البابوية حملة صليبية همجية داخلية ضد ” هرطقة” الكاثار في جنوب فرنسا , كانت حرب إبادة بكل  مافي الكلمة من معنى , وبعد إبادة المعاقل الأخيرة للكاثار في عام 1229 م عقدت محكمة تفتيش بابوية في تولوز لاستئصال من بقي منهم على قيد الحياة وانتقل نشاط تلك المحكمة الى شمال اسبانيا واقليم كتالونيا اللذين فر اليهما بعض الكاثار , ومع صعود الهوس البابوي بمكافحة الانشقاق والهرطقة فقد تصاعد أيضا الهوس بوضع حدود صارمة بين المسيحيين وغيرهم , فقد أمر المجمع المسكوني الرابع لكنيسة لاتيران اليهود والمسلمين في أنحاء العالم المسيحي كله بارتداء لباس مميز لإزالة إمكانية “الخلط اللعينة” بين المسيحيين وغيرهم .

وانجذبت إسبانيا كثيرا الى فلك العالم المسيحي اللاتيني عبر ترسخ الحج إلى ” شنت يعقوب ” أوكما يسمى بالاسبانية  سانتياغو دي كومبستيلا في شمال غرب اسبانيا حيث اكتشف قبر القديس جيمس الكبير أحد حواريي المسيح وهو يعقوب بن زبدي الذي حمل تلامذته جثمانه من القدس وجاؤوا به الى اسبانيا حيث دفن كما يقال , وظل قبره مجهولا مئات السنين , وبعد أن اكتشف فيما يشبه المعجزة أصبح ضريحه مقصدا للحج الكاثوليكي لكل أوربة حتى نافس الحج الى القدس , وشيدت في مكانه كاتدرائية ضخمة , وحولها وجدت بلدة صغيرة توسعت تدريجيا , وقد لعب ذلك في القرن التاسع الميلادي دورا هاما في بعث الروح الصليبية لاسترداد الأندلس وطرد المسلمين , ومن وحي ذلك الضريح والأساطير التي نسجت حوله والحجاج الذين كانوا يفدون بالآلاف إليه من كل أوربة ( وبعضهم لم يكن يرجع على الغالب ) وجدت طائفة صليبية متطرفة هي طائفة “القديس جيمس قاطع رقاب الأندلسيين” بداية من القرن الحادي عشر ولا شك أنها استفادت من مواسم الحج لتجنيد المؤمنين المتحمسين للقتال ضد المسلمين في الأندلس .

ومن أجل التبشير بتلك الطائفة والتعبئة للإنضمام اليها فقد ألف رئيس الدير البنديكتي في كلوني جنوب فرنسا بيتر المبجل كتيبين مؤثرين حول ” هرطقة الساراكينوس ” وهو الاسم الإزدرائي للمسلمين الأندلسيين , وكان رؤساء الأديرة الكلونيون الأقوياء من أشد أنصار الحملات الصليبية ولديهم صلات وثيقة بالحكام المسيحيين المشاركين في حرب ” الاسترداد” وهكذا وجدت قناة رئيسية أخرى لنقل الروح الصليبية من أوربة الى الأندلس .

دخل الأندلس الذي سقطت كل مدنه ومناطقه بيد الممالك الأسبانية خاصة مملكة قشتالة التي كان لها نصيب الأسد في ابتلاع ممالك الطوائف منذ منتصف القرن الثالث عشر في عصر مختلف عما سبق , مع تأثر إسبانيا بالروح الكاثوليكية الصليبية التي كانت تنتشر عبر أوربة والتي شملت المسلمين واليهود أيضا “قتلة المسيح” كما نظرت إليهم الكنيسة , وفي ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة والأوبئة التي اجتاحت أوربة والحروب الداخلية  في ذلك الوقت فقد وجدت تلك الروح صدى لها واسعا بين الجماهير الأوربية الفقيرة والجاهلة المتدينة , وفي القرن الرابع عشر وقع الاختيار على اليهود ككبش فداء لتلك الكوارث , فاتهموا بشتى التهم ومن بينها تسميم المسيحيين , وفي العقد الأخير من القرن الرابع عشر أنتجت تلك المشاعر سيلا من الحقد والعنف اجتاح العلاقة بين المسيحيين واليهود والمسلمين .

ولنا هنا أن ننسى كل ما كتب في المعاهدات حول العلاقة بين الممالك الأسبانية والمسلمين فالكلمة العليا أصبحت للتعصب والإضطهاد بصورة متزايدة .

انتقلت حملات الإجبار على التنصير من حملات كنسية شعبية إلى أن أصبحت حملات رسمية تتشارك فيها السلطات الحاكمة , وفي عام 1412 م أمرت الانجليزية أم ايزابيلا الوصية على عرش قشتالة وليون كاثرين اليهود والمسلمين بقطع كل علاقاتهم الإقتصادية والإجتماعية مع المجتمع المسيحي وأن يلزموا أحياءهم وإلا واجهوا الموت أو مصادرة أملاكهم فيماعرف بقوانين كتالانيا . ونتيجة تلك الضغوط القاسية عُمّد زهاء ثلاثمئة الف يهودي وعدد غير معلوم من المسلمين كنصارى جدد .

ويبدو أن اليهود والمسلمين الأندلسيين الذين تنصروا استطاعوا الزواج من المسيحيات والدخول إلى الطبقات  الوسطى والأرستقراطية وذلك أمر يبدو سهلا للفهم بسبب تفوقهم الحضاري والثقافي , اذ كان التمييز الديني وحده هو العائق أمام تسيدهم للمجتمع , لكن ذلك أثار حفيظة أحفاد النبلاء القوط ذوي الدم الأزرق وهو المصطلح الذي ظهر لأول مرة في أسبانيا على يد النبلاء القوط لتمييزهم عن بقية المجتمع المسيحي ثم انتقل الى أوربة . وأسفرت شكوك الكنيسة الكاثوليكية الأسبانية وحسد الأرستقراطية المسيحية والطبقة الوسطى الملحقة بها الى إثارة عاصفة أقوى من التعصب والإضطهاد ضد ” المارانو ” أي الخنازير الذين تصنعوا الإيمان المسيحي نفاقا للوصول الى غاياتهم .

وفي هذه الفترة ظهر المذهب العنصري المعروف بنقاء الدم على السطح أول مرة كإحدى القوى الدافعة المهمة في المجتمع الأسباني وهو نوع من التعميم والتعديل البسيط لمفهوم الدم الأزرق .

فبينما كان هدف مفهوم ” الدم الأزرق ” هو إظهار شرف السلالة المرتبطة بنبلاء القوط فقد أصبح هدف ” مذهب الدم النقي ” هو تمييز قرابة دم متخيلة كانت تربط المسيحيين القدامى بماضي إسبانيا القوطي واللاتيني وانتشر الإعتقاد بأن قطرة دم واحدة من اليهود أو المسلمين كافية لإفساد ذلك الدم النقي اذا انتقلت اليه بالزواج نحو الأبناء .

وتجدر الإشارة الى أن هذا المذهب لم يكن المدخل والمبرر لاستعباد واضطهاد وتهجير المسلمين واليهود الأندلسيين فقط ولكنه كان المبرر أيضا للمستعمرين الأسبان لاستعباد الأفارقة على أساس مفهوم مرتبط بالدم النقي هو مفهوم الدم الأسود لعبيدهم الزنوج في أمريكا اللاتينية وهكذا صنف الناس وفق أنسابهم وألوانهم الى مسيحيين جدد , وأنصاف مسيحيين , وأرباع مسيحيين , وصنف سكان هاييتي إلى 128 درجة مختلفة من الدم الأسود الى الدم الأبيض النقي .

ومثلما ” ألهمت ” أوربة أسبانيا بالروح الصليبية القتالية ضد المسلمين فقد ” ألهمت ” أسبانيا المهاجرين الأوربيين إلى أمريكا بروح التمييز العنصري ونظرية الدم النقي .

 

محاكم التفتيش

بعد اتحاد قشتالة وأراغون وسقوط غرناطة أعيد إحياء محاكم التفتيش الدينية التي اختصت أول الأمر بالتأكد من صدق تحول اليهود والمسلمين نحو المسيحية لكنها جاءت هذه المرة ليس باشراف وتعيين الفاتيكان من روما ولكن بتعيين حكام أسبانيا وبالتالي فقد تحولت الى أداة سياسية بيدهم .

ويبدو أن بداية محاكم التفتيش الأسبانية في القرن الخامس عشر كانت موجهة لكشف الشكوك القوية التي حامت حول يهود اعتنقوا المسيحية واتهموا بالتآمر سرا لمقاومة الحكم الأسباني المسيحي في إشبيلية .

ثم مدت محاكم التفتيش نشاطها الى بلدات ومدن أخرى في قشتالة تحت اشراف المفتش العام المتعصب الكاردينال توماس دي توركومادا . وبعد ذلك الى الأرغون .

المفتش العام الكاردينال توماس دي توركومودا

يختلف المحقق في محاكم التفتيش  عن القاضي العادي من حيث أن الأول اضطلع بمهمة مستحيلة هي التفتيش في الضمائر والتأكد من الخواطر والأفكار التي  تجول في عقل  المتهم , واعتبر المحقق في محاكم التفتيش مجرد الشك معصية لاتغتفر ولم يكن كافيا مايظهره المتهم من الإعتراف أو أن يكثر عطاياه لله فكل هذا لايمنع أن يكون مهرطقا بقلبه حيث أن معظم المتهمين بالهرطقة تظاهروا بالإيمان عند مثولهم أمام محاكم التفتيش , ولأن المحققين كانوا يفتشون في ضمائر المتهمين فإنهم أدركوا أن اتباع الأساليب العادية لن يأتي بأية نتيجة وهكذا برر هؤلاء المحققون لأنفسهم القسوة والوحشية في التعامل مع المتهمين معتبرين أن من الخير للكنيسة أن يموت مئة بريء من أن يهرب من العقاب مهرطق واحد .

كانت عمليات الإبلاغ تؤدي الى الإعتقال , والاستجواب , والتعذيب , والسجن , والمحاكم السرية , وكان المدانون يظهرون في العرض التكفيري الجماهيري المسرحي المعروف باسم ” موكب الايمان ” وفيه كان الزنادقة ” التائبون ” الذين كانت مخالفاتهم غير خطرة يعرضون وهم يرتدون قبعات مخروطية ويحملون شموعا مشتعلة , أما المذنبون الأكثر إجراما فكانوا يسلمون للسلطات المدنية المحلية لتحرقهم وهم على الخازوق وبين عامي 1485-1501 م أحرق حوالي 2000 من معتنقي المسيحية “الزنادقة” منهم 250 في طليطلة وحدها .

وقد لخص أحد المحققين في القرن الخامس عشر إجراءات محاكم التفتيش بأنها غاية في البساطة , وجادل بعدم الحاجة إلى فرض كفالة للإفراج المؤقت عن المتهم , فالرأي عنده أنه إذا القي القبض على المتهم واعترف بذنبه ولم يظهر ندمه على هرطقته فيجب تسليمه للجهاز المدني لتنفيذ حكم الاعدام , وأما إذا أظهر توبته وندمه فينبغي إلقاؤه في السجن المؤبد ولايجوز الإفراج عنه بكفالة , وإذا أنكر المتهم التهم وقام الشهود بإدانته فإنه في هذه الحالة يعتبر عاقا وعاصيا وينبغي تسليمه إلى الجهاز المدني لإعدامه .

وبلغ من جنون محاكم التفتيش ملاحقة المتهمين بعد وفاتهم !

فحتى القبر نفسه لم يكن كافيا لتوفير الحماية للمذنبين بعد أن يختارهم الله إلى جواره فإذا صدرت ضدهم أحكام مخففة بالسجن فإن محاكم التفتيش لم تتورع عن نبش قبورهم وإخراج عظامهم , أما إذا صدر الحكم عليهم بالحرق فإن عظامهم تستخرج لإضرام النار فيها بالإضافة لمصادرة ممتلكاتهم , وكمثال على ذلك يكفي أن نذكر حالة أرمانو بونجيلو بو في بلدة فيرارا الذي نشب صراع حول استحواذ بقاياه بعد وفاته عام 1269 م بين الأسقف ومحققي محاكم التفتيش في فيرارا استمر اثنين وثلاثين عاماً , وقد أسفر ذلك الصراع عن انتصار محاكم التفتيش عام 1301 م .

ولابد أن السلطات السياسية كانت على دراية بجنون وهوس محاكم التفتيش لكنها كانت راضية عن عملها , ليس فقط من أجل كسب تأييد الكنيسة الكاثوليكية واستخدام ذلك التأييد لتأمين ولاء الناس للملوك , لكن لسبب سياسي أكثر أهمية وهو مضايقة الأندلسيين واضطهادهم وإشعارهم بأن بقاءهم في تلك البلاد سيحمل معه الخوف الدائم من السجن والتعذيب والحرق ومصادرة الممتلكات لأتفه سبب ممكن , وأن من الخير لهم أن يحملوا أمتعتهم ويرحلوا بإرادتهم الحرة إلى خارج الأندلس . لكن ذلك لم يكن كافيا كما يبدو لدفعهم للرحيل عن وطنهم ووطن أجدادهم .

في عام 1492 م وبعد سقوط غرناطة مباشرة وقع فرديناند وايزابيلا مرسوما في قصر الحمراء في نهاية شهر آذار ( مارس ) أمرا فيه كل اليهود في ممالكهما أينما وجدوا بأن يدخلوا في المسيحية أو يغادروا أرض اسبانيا خلال مهلة أربعة أشهر وعشرة أيام .

وهكذا بينما اختار خمسون يهوديا اعتناق المسيحية , فقد فضل عدد يتراوح بين مئة ألف ومئة وخمسين ألف يهودي الهجرة خارج اسبانيا . واستقر المبعدون في الدولة العثمانية وبلاد المغرب .

افتتحت ابادة اليهود في اسبانيا مرحلة جديدة في تاريخ الأندلسيين , حيث تمحورت حملات التطهير الديني بعد ذلك على المسلمين الأندلسيين .

وحتى يمكن تصور حال الأندلسيين الذين كانوا يهجرون من مدينة إلى مدينة ومن قرية الى قرية حتى اضطروا لركوب البحر نورد هذه الشهادة من ” حوليات الملك دون فرناندو الرابع ” التي يذكرها المؤرخ الإسباني كلاوديو سانتشيت البرنوث في كتابه ” إسبانيا المسلمة ” حيث يذكر قصة المسلم المرحل باستمرار فيقول هذا المسلم المطارد من الزحف الاستيطاني التطهيري المسيحي مخاطبا الملك دون فرناندو الذي زحف  للاستيلاء على جبل طارق في القرن الثالث عشر الميلادي ” قال له أحد المسلمين الذين يعيشون بتلك الناحية والذي كان شيخا مسنا , سيدي الملك : ماذا فعلت أنا حتى تطردني من هنا ؟ فقد كان والد جدك الملك دون فرناندو الرابع حين استولى على اشبيلية قد طردنا منها فتوجهت لأعيش بشريش وبعدها جاء الملك الفونسو جدك واستولى عليها وطردني فتوجهت لأعيش بجزيرة طريف وظننت أنها مكان آمن إلى أن زحف والدك الملك سانتشو فاستولى على جزيرة طريف  فطردني وها أنا أعيش الآن بجبل طارق وهو آخر ملجأ لي وليس في وسعي أن  أتجاوزه لأنك تعلم أن أرض الإسلام أصبحت وراء البحر , فأين يمكنني أن أذهب ؟ ” (37)

فحملات الإبادة والتطهير الديني والإستيطان كانت تتواصل دون انقطاع منذ سقوط طليطلة عام 1085 م وقد تكثفت على نحو خاص منذ سقوط اشبيلية عام 1248 م . وكان على الذين أفلتوا من تلك الحملات أن يتحملوا عذابات لاحدود لها على يد محاكم التفتيش لاتمام عملية التطهير الديني .

وفي عام 1500 م” أقدم الكاردينال الصليبي المشهور خيمينيث دي ثيسنيروث على حرق الكتب الاسلامية في الساحة العامة بغرناطة , وعدد مجلداتها خمسة آلاف دون أن ينظر بما تحتويه الكتب , وقيمتها العلمية والأدبية , وكذلك فعلت محاكم التفتيش بمقاطعة أراغون ” وأصدرت محاكم التفتيش قرارات بمصادرة كل ما هو مكتوب باللغة العربية وأعقبتها قرارات بمصادرة كل مايتعلق بالإسلام سواء كتب بالعربية أم بغيرها , ورغم ذلك فقد كان من الصعوبة بمكان القضاء على اللغة والثقافة العربيتين . ففي عام 1579 م وبعد 87 عاما من سقوط غرناطة أبلغت السلطات الكنسية في اراغون قداسة المفتش العام لمحاكم التفتيش التالي : ” إننا نلفت جنابكم الموقر على ما تمكنا من الحصول عليه بين هؤلاء المرتدين من الفرق المحمدية من الكتب العربية التي في حوزتهم , قصد التعلم بها , وكذلك إلى الروابط والاتصالات التي تتم فيما بينهم وخاصة مع سكان الجزائر , وللوقاية من هذه الأخطار , نرى من الضروري القاء القبض على الفقهاء والرؤساء منهم “. (38)

لوحة تمثل إحراق الكتب العربية

وفي عام 1609 م وبعد أكثر من قرن على سقوط غرناطة , وتحول معظم المسلمين فيها نحو المسيحية لضمان بقائهم في بيوتهم وممتلكاتهم واستمرار حياتهم , توصلت الكنيسة الكاثوليكية  والملك فيليب الثالث الى أن اولئك المسلمين المتحولين للمسيحية لم  يكونوا في كثير من الأحوال صادقين في إيمانهم المسيحي , وأن كثيرا منهم كانوا يعودون بين حين وآخر لممارسة الشعائر الإسلامية سرا مثل الختان وصوم رمضان وقراءة أجزاء من القرآن وغير ذلك , وأن بقاءهم يشكل خطرا على الوحدة الدينية لإسبانيا , لذلك تم اتخاذ قرار نهائي بطردهم من البلاد والتخلص منهم .

هكذا انتصرت وجهة النظر التي عبر عنها الأسقف خوان بابتيستا بيريث بتحيزه العدائي ضد هذه الأقلية المغلوبة على أمرها والتي لم تكن تمتلك أي قوة تواجه بها الظلم والاضطهاد , يقول الأسقف خوان ” إنه لأقل خطرا أن يكونوا مسلمين هناك على أن يبقوا وهم نصارى باسبانيا ” .

وفي آخر المطاف نجد المصادر تحدثنا عن ترحيل حوالي ثلاثمئة الف أندلسي ممن سبق أن تحولوا للمسيحية في غرناطة وحولها كانوا يشكلون في معظمهم يدا عاملة رخيصة الثمن وحرفيين نشيطين لأرقى الصنائع وتجارا  وفلاحين منتجين , وكان لخروجهم أثر مدمر على الاقتصاد الأسباني .

يصف الشاعر الاسباني منديث رحلة المهجرين الرهيبة :هجرة مضنية …أمر فظيع ….مشحونة بالمجهول ..أحزان  ثقيلة …في غمرتها ينفد الصبر ….وترتعش لها آلام الروح العدوة .

ويقول الشاعر الآخرأفيلار :

شيخ يجر طفلا بيده …وآخر تلفه أمه على صدرها …وفتى آخر كذاك الطروادي ….قد حمل والده على ظهره

يشير هنا الى أسطورة طروادة حين خرج شعبها منها نحو المنفى وتركها وهي تحترق .

لكن لماذا تطلبت السيطرة على الأندلس كل هذا القدر من العنف الذي نادرا ما نراه في التاريخ الانساني والذي انتهى بإبادة ملايين البشر عن طريق طردهم من وطنهم التاريخي ؟

وبالمقارنة بين دخول العرب المسلمين إلى الأندلس وسيطرتهم على الجزيرة وبين حروب ” استرداد ” الملوك القوط الذين تسموا بالإسبان في النهاية نجد أن العرب المسلمين لم يحتاجوا إلى شيء من ذلك العنف في تعاملهم مع السكان الأصليين , وأن الايبريين باعتراف أهم المؤرخين الغربيين للتاريخ الأسباني مثل الهولندي دوزي والفرنسي ليفي بروفنسال قد اعتنقوا الاسلام بإرادتهم الحرة دون إكراه , ولم يمض على الفتح العربي الاسلامي سوى خمسين عاما أو أقل حتى أصبحت الغالبية العظمى للسكان الأصليين تدين بالاسلام وتعلمت اللغة العربية حتى أوشكت اللاتينية على الانقراض .

كما لم يسجل التاريخ أن العرب المسلمين قد عمدوا الى طرد سكان مدينة أو قرية في طول الأندلس وعرضها خلال مئات السنين .

فلماذا استخدم ملوك القوط كل ذلك العنف الذي وصل إلى حد الوحشية المجنونة التي استمرت دون توقف لمئات السنين وانتهت بالابادة الجماعية والتهجير لملايين السكان  في سيطرتهم على الأندلس ؟

والجواب على ذلك التساؤل ليس صعبا , فالايبريون سكان اسبانيا الأصليون وجدوا في الاسلام دعوة تحرير لشرائح واسعة من الأرقاء والأقنان شبه الأرقاء , ومن الطبقات الوسطى التي تخلصت من جور واستغلال طبقة النبلاء القوطية ومن اليهود الذين اضطهدتهم الكنيسة الكاثوليكية .

وقد رصد المؤرخون كيف أن النبلاء القوط بعد أن استولوا على منطقة الأراغون في حروب ال”الاسترداد” عادوا إلى نظامهم القديم فتحول المزارعون من شركاء لمالكي الأرض كما كانوا في زمن الأندلس المسلم  إلى أقنان ( شبه عبيد) مرتبطين بالأرض لايملكون حق مغادرتها إلى أي مكان , وعليهم تقديم الكثير من الخدمات لسيدهم إضافة لحصة الأسد من إنتاج الأرض . وقد تسبب ذلك لاحقا بثورة الفلاحين المسلمين في منطقة أراغون تلك الثورة التي قمعت بالقوة ثم صدر القرار بترحيل جميع المسلمين نحو البحر .

كما شعر الايبريون الذين استقبلوا الفتح العربي الاسلامي بالتحرر من ثقل تسلط رجال الكنيسة على حياتهم الاقتصادية – المعيشية والفكرية – الروحية , وبالمقارنة وجدوا أن الاسلام ليس لديه تلك المؤسسة الدينية بل يقتصر الأمر على العلاقة بين الانسان وربه مباشرة دون وسيط .

وقد برهن التاريخ أن النظام السياسي والقضائي والاقتصادي العربي –الإسلامي الأندلسي كان حاضنة مناسبة للنمو والازدهار وفي ظله خطت الأندلس خطوات كبيرة نحو الأمام حتى أصبحت الأغنى اقتصادا والأكثر ثقافة وحضارة من أي بلد أوربي آخر في العصور الوسطى وحتى سقوط غرناطة عام 1492 م .

وإذا غصنا نحو الأعمق قليلا يمكن أن يفكر المرء في أن الموروثات الحضارية الكنعانية الفينيقية لدى الايبريين جعلت من السهل تقبلهم للفتح العربي الاسلامي وانصهارهم في بوتقة الحضارة العربية – الاسلامية

وفي الطرف المقابل فقد كان على الملوك القوط ( الإسبان لاحقا ) الذين اعتبروا أنفسهم دائما ورثة لمملكة القوط البائدة أن يتغلبوا على حقيقة أنهم كانوا أقلية حاكمة لاتمتلك قاعدة اجتماعية واسعة , وبالتالي فقد كان شعورهم بالغ العداوة تجاه السكان الأصليين الايبريين الذين نبذوهم بسهولة مع الفتح الاسلامي , واختلطوا مع العرب والمسلمين ثم انصهروا معهم باللغة والثقافة والدين .

ومن أجل استعادة ملكهم القديم كان لابد من الاستعانة بعنصرين . الكنيسة الكاثوليكية والعنف الصليبي .

وكمصادفة تاريخية فقد بدأت حروب ” الإسترداد” في الحقيقة في أواسط القرن الحادي عشر مع تصاعد الروح الصليبية في أوربة , وجاء احتلال طليطلة على يد مملكة قشتالة عام 1085 م بينما جاء احتلال القدس على يد الحملة الصليبية عام 1099 م وبينما كانت الأذرع العسكرية الصليبية تتحرك في الأندلس مستخدمة الملوك والنبلاء القوطيين كانت الأذرع الصليبية تتحرك في بلاد الشام مستخدمة ريموند دى تولوز (أمير إقليم بروفانس وتولوز بفرنسا) الذي قاد الصليبيين إلى بيت المقدس .

لكن المركز الروحي كان واحدا في الحالتين وهو بابا الفاتيكان في روما , وكان الهدف واحدا وهو التخلص من الوثنيين الكفار المسلمين وتخليص الأماكن المقدسة منهم .

ولأن ايبريا لاتحوي أماكن مقدسة لتخليصها من المسلمين فقد استعيض عن ذلك بخلق مكان مقدس أسطوري هو مايزعم أنه قبر يعقوب بن زبدي الحواري للمسيح عليه السلام في شمال الأندلس , وسرعان ما أحيط قبره المكتشف بهالة عظيمة من التقديس والتبرك والمعجزات جعلته مركزا دينيا للحج منافسا للأماكن المقدسة في القدس . بل إن يعقوب بن زبدي الحواري المسالم المتواضع أصبح ملهما لطائفة من المقاتلين الصليبيين المتحمسين ليس فقط لتطهير ضريحه وما حوله من المسلمين الوثنيين ولكن لتطهير إسبانيا كلها منهم , وأصبح اسم ذلك القديس  ” سانت جيمس  ( باللاتينية  سانتياغو ) قاطع رؤوس المسلمين ” . كما أصبحت الكاتدرائية  التي تضم قبره المفترض أقدس مكان في أوربة الكاثوليكية .

واستقبلت مملكة أوسترياس الصغيرة المعزولة ألوف المقاتلين الصليبيين الكاثوليك المتطوعين من فرنسا وغيرها , كما استقطبت ماتبقى من الأقلية القوطية في الأندلس خاصة بعد توسعها أثناء انشغال الأندلسيين الأوائل بحروبهم الداخلية , وليست الدوافع الدينية فقط وراء التطوع للقتال إلى جانب النبلاء القوط , ولكن الغنيمة ومنح الأراضي للمقاتلين كانت حاضرة أيضا بذات القوة , فالأراضي التي كسبتها أوسترياس حتى نهر دوير كان يقابلها نقص شديد في سكان تلك المملكة الصغيرة , وبالتالي فقد كانت دائما معروضة كمكافأة للمقاتلين الذين ينضمون إلى النبلاء القوط .

لقد كان واضحا للملوك وطبقة النبلاء القوط أنهم ليسوا بمواجهة حكومة إسلامية وجيش إسلامي معزول عن المجتمع , لكنهم بمواجهة مجتمع حضاري تبلورت هويته عبر مئات السنين . وأن استعادتهم لمملكتهم البائدة لايمكن أن يتم من خلال ذلك المجتمع , وقد أيدت التجربة التاريخية تلك الفكرة . بالتالي لايمكن بناء المملكة القوطية الجديدة سوى على أنقاض المجتمع الأندلسي وليس بواسطته كما فعل العرب المسلمون بعد فتح الأندلس . فكيف يمكن إزالة مجتمع حضاري وشعب راسخ بأرضه في بلد من أكثر بلدان العالم كثافة بالسكان في ذلك الزمان بدون العنف الوحشي؟

هكذا يصبح العنف كما التعصب الديني ضرورة سياسية وليس مجرد انحراف أخلاقي وسقوط إنساني .

خاتمة :

بلا شك فإن التعصب الديني  المشبع بالروح الصليبية هو المسؤول الأكبر عن مأساة الأندلس , وهذه الروح الصليبية التي فتكت بأوربة القرون الوسطى ودفعتها للغزو والقتال واجتياح بلاد المسلمين في بلاد الشام ومصر وفي الأندلس وشمال افريقيا مناقضة تماما لروح المسيحية الحقيقية روح التسامح والمحبة والبعد عن العنف ” من يضرب بالسيف بالسيف يضرب ” كما قال المسيح .

واذا كانت محاكمة التاريخ غير ممكنة وغير عقلانية فإن رؤيته على حقيقته دون تزييف هو أمر يستحق بذل الجهد ونشر الوعي المطابق للحقائق .

لكن الجرائم الكبرى ضد الإنسانية مثل الإبادة والتهجير وإجبار الناس على تغيير معتقداتهم بحد السيف ومثل جرائم محاكم التفتيش لايمكن القبول بأقل من إدانتها إدانة تامة , وأي محاولة لتبريرها أو طمسها أو الدفاع عنها مدانة بنفس المقدار .

ومن الواضح أن الثقافة الغربية السائدة لم تتخذ حتى الآن الموقف الأخلاقي من إبادة شعب الأندلس . رغم أن بعض المؤرخين الأحرار والمنصفين قد تعرضوا لتلك الجريمة ضد الانسانية .

لايستطيع أحد اليوم الدفاع عن محاكم التفتيش , ويكفي اخراج أعمالهم للنور لإدانتهم بكل المعايير الأخلاقية والإنسانية , ولايبقى من طريقة أمام الثقافة الغربية سوى فصل إدانة محاكم التفتيش عن أعمال الإبادة الأخرى لشعب وحضارة الأندلس , لكن الحقيقة أن محاكم التفتيش لم تكن سوى أداة صغيرة لتنفيذ إبادة شعب الأندلس فالقرارات الملكية المتلاحقة ثابتة وواضحة في الأمر بتهجير شعب الأندلس منذ بداية القرن الثالث عشر وحتى القرن السابع عشر حملة بعد حملة ومدينة بعد مدينة حتى تهجير شعب غرناطة عام 1609 م .

لايمكن للذاكرة العربية – الاسلامية نسيان مأساة الأندلس , ولا التغاضي عن تلك المظالم الفظيعة التي ألمت بجزء عزيز من أوطان الحضارة العربية – الاسلامية , وليس هناك شك في أن قضية الأندلس ستظل مشكلة وعقبة كبيرة تعترض التعايش والتفاهم بين الثقافتين العربية – الاسلامية والثقافة الغربية – المسيحية . ومن أجل إزالة تلك العقبة لابد للثقافة الغربية من الإعتراف بالظلم الذي وقع على شعب الأندلس , وأن حروب ” الإسترداد ” لم تكن حروب تحرير قط , بل كانت امتدادا للحروب الصليبية , وأن الأندلسيين الذين اضطهدوا وطردوا من ديارهم لم يكونوا محتلين أجانب , بل هم الشعب الأسباني الأصلي الذي انصهر مع العرب والبربر واليهود وغيرهم في بوتقة الحضارة العربية – الاسلامية , بالتالي فإن إنكار هويته وحقه في وطنه هو تبرير لأعمال الإبادة والتطهير الديني .

لقد طرد الأندلسيون أصحاب الحق في وطنهم التاريخي , وجرى استبدالهم بمستوطنين آخرين بعضهم من داخل شبه الجزيرة الايبرية وقسم كبير منهم  من دول أوربية مختلفة ضمن حرب صليبية حين كانت أوربة غارقة تحت السلطة الروحية والفكرية للكنيسة الكاثوليكية . ولقد عبر بعض المؤرخين الغربيين بطريقة غير مباشرة عن تلك الحقيقة حين اعتبروا أن الهوية الوطنية الإسبانية إنما تكونت خلال حروب “الإسترداد”.

المسألة ليست مجرد مأساة للبكاء والحزن والشعور بالمرارة والظلم .  بل لابد من  إلقاء الضوء الساطع على جزء من تاريخ الأمة الذي يحمل هويتها ويرسم آفاق مستقبلها .

*****************************************************************

ملحق

( محاكمة الأندلسية ماريا لادويدا في محاكم التفتيش عام 1561م)(39)

المتهمة ماريا لادويدا مسلمة من بينا لاوريا وهي قرية في مقاطعة ملاقة أرملة ” مارتين الدويدي “

كتب على مغلف الملف :”اتهام ومحاكمة وتعذيب بالماء والحبل , والذي يتضمن شربا إجباريا للماء , من خلال قطعة قماش مبلولة بالماء توضع بالفم , مما يسبب ألما , وكذلك لف الحبل حول وسطها ” .

يحوي ملفها 17 ورقة

تاريخ الملف : 1561 م

سقطت ملاقة أو مالقة بيد الاسبان عام 1487 م قبل سقو ط غرناطة بخمس سنوات بعد معارك ضارية مع حاميتها الصغيرة , وهي مدينة قديمة اسسها الفينيقيون وميناء هام على البحر المتوسط , وماريا هي امرأة عجوز أرملة عمرها 65 عاما  لرجل يدعى مارتين الدويدي ويتضح من اسمها واسم زوجها أن الأسماء تغلب  عليها  اللغة الأسبانية مع أثر عربي , وربما اضطر الأندلسيون لتغيير أسمائهم كجزء من الحملة الواسعة لاستئصال اللغة العربية التي جرت بعد سقوط غرناطة , وكونها امرأة وعجوزا وأرملة لم يشفع لها في شيء , فتم القاء القبض عليها ووضعها في السجن وتعرضت للتعذيب لانتزاع الاعترافات منها , وهي من عائلة أندلسية مسلمة تحولت للمسيحية مع عائلتها عندما كانت طفلة أي حوالي العام 1503 م حينها جرى تعميدها حسب الطقوس المسيحية .

الورقة الأولى تضمنت معلومات تمهيدية لأجل المحاكمة ذكر فيها أنه تم تعذيبها .

الورقة الثانية تضمنت شهادة امرأة تدعى : اينيس دي مينا أدت اليمين القانونية في اعتراف ” لإراحة ضميرها ” وقالت” إن المتهمة قد قامت بتغسيل حماتها الميتة ( حماة الشاهدة ) بسبب أنها كانت متسخة من النصف الأسفل من جسدها “

وتحوي الورقة مايشبه الحاشية التي تتضمن وقائع جلسة استماع أخرى تفيد أن ماريا لادويدا غسلت بالماء الساخن كامل جسد حماة الشاهدة وغطتها بملاءة وربطوها برأسها وبهذه الطريقة كفنوها وشاهدها الرهبان

وقد جرت تلك الحادثة قبل أربعة عشر عاما أو نحو ذلك كما ذكر في الورقة الثانية .

لكن المحققين كانوا أذكى من أن تخدعهم قصة أن غسيل الميتة بسبب قذارة نصفها الأسفل فسألوا الشاهدة : هل تعتقد أن المتهمة حقا غسلت الميتة لأنها كانت قذرة ؟ فأجابت الشاهدة بما معناه إنها لاتعرف تماما ويمكن سؤال المتهمة في ذلك , فقيل لها : إن غسل الجسد كله لايمكن القيام به بسبب الأوساخ , وبالتالي يفترض أن هذا الغسل قد تم من أجل أمر آخر كونها ميتة , فالميتة لايهمها أبدا دفنها قذرة أو نظيفة لأن الأرض تأكل كل شيء , ويبدو أن الأمر أسقط من يد الشاهدة وخافت فقالت ” لو لم تكن من المسلمين لما تم عمل ذلك لها ( تقصد الميتة ) .

ولتبرئة نفسها والخروج من دائرة الاتهام اعترفت الشاهدة أن المتهمة ماريا لادويدا قالت أثناء تغسيل الميتة ” هذا ما اعتدنا عليه عندما كنا مسلمين ” .

في الورقة الثالثة تتوالى اعترافات الشاهدة بعد أن استطاع المحققون كسر محاولاتها الأولية لإخفاء الحقائق خاصة حين جادلوها بالقول : ” إذا كان الشخص مسيحيا أو مسلما أو من أي دين آخر فإن دينه يظهر في يوم موته وبما أن المتهمة كانت تعتقد أن التغسيل حسب دين المسلمين سيكون مفيدا للميتة فهو يدل على أنها مسلمة وليست مسيحية فلتقل الحقيقة ” عند ذلك قالت الشاهدة : بأنها كانت مسلمة , وتطلب الرحمة ” . وهكذا تكشف للمحققين أن الشاهدة كانت مسلمة ” فقيل لها أن توضح الوقت الذي كانت فيه مسلمة , قالت : نعم وقالت إنها اعتنقت دين الاسلام لأنه جيد , وفكرت أن تذهب بواسطته للجنة , وهي تطلب الرحمة ” وهذه طبعا كتابة كاتب المحكمة نقلا عن وقائعها .

ثم سئلت : “من الذي حَولّها مسلمة بعد أن كانت مسيحية ؟ قالت إنها المدعوة ماريا لادويدا , لأن هذه قبل ذلك كانت مسيحية أيضا ” وأن لادويدا علمتها أشياء كثيرة مثل ” قل هو الله أحد” وأخبرتها عن صيام المسلمين وكيف الصلاة ..الخ..

بعد ذلك يتضح من وقائع الجلسة أن ماذكرته الشاهدة التي سميت أيضا بالمعترفة قد جرى منذ عشرين عاما من تاريخ المحكمة , وأن الشاهدة – المعترفة ظلت مسلمة حتى قبل سنتين حين عادت للمسيحية .

وفي الجلسة الأولى لمحاكمة ماريا كما سجلت وقائعها في الورقة 4 ” وعندما سئلت ( يقصد ماريا) أجابت إنها مسيحية معمدة ومؤكدة وتعترف وتسمع القداس عندما تأمر الكنيسة , وتعرف الصلوات , وجلست على ركبتيها , وأشارت وصلبت , على الرغم من أنها أخطأت ولاتعرف أكثر من ” آفي ماريا ” ( وهي صلاة كاثوليكية تؤدى باللاتينية وتعني كوني بخير مريم ) وهذه تعرفها بشكل سيء “

الورقة الخامسة : تضمنت تسجيل توجيه ثلاثة انذارات متتالية للمتهمة ماريا ” لتبحث في ذاكرتها وتقول حقيقة كل ماهو ذنب , لأن القيام بذلك سيؤدي غلى حل قضيتها بايجاز ورحمة , لكنها أصرت أنها لم تفعل شيئا من أشياء المسلمين “

في الورقة الخامسة عشرة سجل الكاتب أن ماريا بعد إحضارها واستجوابها وردها بأن ليس لديها ماتقوله تم إنزالها لغرفة العذاب وأمرت بخلع ملابسها وكونها عارية أمرت بالجلوس وقيل لها أن تقول الحقيقة , فقالت لوكان لدي المزيد لقلتله , ثم أمر بربطها وقيل لها أن تقول الحقيقة قبل أن يضغطوا عليها , قالت لهم فلينتظروا قليلا , ماذا يجب أن تقول وهي لاتتذكر أحدا ؟

ويبدو أنها تذكرت شيئا فقالت إنه كان لديها صبي في بيتها يدعى دييغو ربما كان عمره عشر سنوات وأنه من بلدة هورناتشوس وقد جلبت له الماء وعلمته ” قل هو الله أحد, وقل أعوذ برب الناس “

ومن الواضح أنها تذكرت ذلك لتتفادى المزيد من التعذيب .

في الأوراق اللاحقة يبدو أن كل ورقة كانت مخصصة لتسجيل وقائع جلسة أو أكثر اعتبارا من الورقة الرابعة التي سجلت وقائع الجلسة الأولى بتاريخ 25 آب ( أغسطس ) 1561 م وفي الورقة السادسة عشرة الأخيرة يبدو أن ملف ماريا قد أقفل على النحو الآتي :

حددت بلدتها كسجن لها بسبب مرضها ( حكم مخفف ) , ويجب عليها أن تعترف في ثلاثة أعياد فصح في السنة , وتسمع القداس في أيام الأحد والأعياد , ولاتستطيع إحضار الذهب والحرير أو استخدام الأشياء الأخرى المحظورة على المتصالحين , وقد قالت إنها ستلتزم بذلك تحت طائلة العقوبة وتم إخضاعها لاختباراشعارات السجن  وعهد اليها بالسرية ووعدت بها .

وأخيرا : ” في غرناطة في اليوم الحادي عشر من شهر تموز عام 1562 م بوجود المحققين المرخصين دون دييغوا دي اسبينوزا , وأندريس دي الافا وبعد اطلاعهما على هذه القضية قالا : إنه في شهر ايلول سبتمبر من عام 1561 بدأت المدعوة ماريا لادويدا منذ ثلاثين عاما في ارتكاب جرائم البدعة والردة , ولأن المصالحة معها ومصادرة ممتلكاتها تمت , فهذا يدل على اعتراف من جانبها وهكذا أوضحت وأعلنت ذلك .

وقعوا بأسمائهم : المرخصون بالتوقيع : دييغوا اسبينوزا ( توقيع ) , أندريس دي ألافا ( توقيع )

حصل أمامي , كاتب العدل , بيدرو دي مانسيلا ( توقيع )

 وفي الملخص فإن العجوز الأرملة ماريا دي لادويدا أخذت للسجن  اثر بلاغ عنها يتلخص في أنها منذ أربع عشرة سنة قامت بتغسيل ميتة حسب الشعائر الاسلامية وأنها كانت تقوم بين وقت بآخر بقراءة بعض السور من القرآن وصوم رمضان , وأنها قامت بتعليم بعض الأشخاص سورة أو سورتين وبعض فرائض الاسلام ورغم أنها صرحت أنها مسيحية وأدت أمام  المحكمة صلاة المسيحيين لكن ذلك لم يكن مقنعا للمحكمة وفي النتيجة وبعد التعذيب والسجن الذي بقيت فيه حوالي سنة تحت الاستجواب (ليس من الواضح فيما اذا كان قد أطلق سراحها بين فترة وأخرى أم بقيت في السجن طيلة تلك المدة) وبعد الاستجوابات المتكررة واحضار الشهود فقد اعترفت ماريا بالتهم وأعلنت توبتها وعودتها للمسيحية ووعدت بالالتزام بكل مافرضته المحكمة وفرض عليها عدم مغادرة مكان اقامتها وصودرت كل أملاكها .

المحاكمة الثانية

المتهم : برناردينو أبديلاسين  – مسلم من قرية تولوكس في ملاقة                                                 

تاريخ الملف : 1560 م                                                                                                      

يحتوي الملف على 8 ورقات .   

تذكر الورقة الأولى أنه بموجب أمر قضائي حضر المتهم برناردينو أبديلاسين مسيحي جديد من المسلمين إلى غرناطة مع ابنه وضامنه ” راميرو هاكيم ” من سكان “موندا”

في الورقة الثانية : تتضمن إفادات للمتهم فيها أنه مزارع يبلغ من العمر 36 عاما وأن والده ووالدته كانا مسلمين أندلسيين من سكان تولوكس , وأنه متزوج من مارينا زوجته وله منها أربعة أبناء دييغو وماريا وخوان وخوانا .

أقسم المتهم الأيمان أنه مسيحي معمد ومؤكد ويعترف كل عام , ويستمع الى قداس الأحد والعطلات , ويعرف صلوات الكنيسة , وحين أمر أن يقولها قالها لكنه أخطأ ببعض الكلمات في صلاة مريم .

سئل فيما إذا كان يعلم سبب إحضاره فقال نعم , لأنه منذ 12 عاما ولد له ابن يدعى دييغو , ظهر وكأن عضوه الذكري غير طبيعي , فدعا كاهنا في تولوكس وأظهر له الطفل , وطلب منه شهادة عن أن الطفل ولد هكذا , فأخبره الكاهن أنه ليس بحاجة لأي شهادة مكتوبة , وأنه إن حصل لديه أي شيء فهو ( أي الكاهن ) سيقول الحقيقة وبقي الأمر على هذا النحو , لكن بعد ثلاث أو أربع سنوات أرسل كاهن ملاقة إلى المتهم برناردينو أمرا باعتقاله ومصادرة ممتلكاته , وسجن لبضعة أيام , وسمع في السجن أنه قد تم إحضار شاهدين وأن المعلومات سترسل إلى محاكم التفتيش في غرناطة , ثم أطلق سراحه وصادروا ممتلكاته , وبالتالي فهو يعتقد أن ذلك سبب إحضاره الآن .

الورقة الثالثة : تتضمن الورقة الثالثة أن إحضاره للمحاكمة تم بسبب معلومات ضده عن أشياء قام بها وقالها , وشاهد الآخرين يقولونها ويفعلونها في إهانة لإيماننا الكاثوليكي المقدس , لذلك تم تحذيره بقول الحقيقة وإفراغ ضميره , حتى يمكن الإنتهاء من قضيته بسرعة ورحمة .

أجاب المتهم أن ليس لديه مايقوله سوى ما قاله سابقا , فأمر بعدم مغادرة مكان إقامته في بلدته وأن يأتي وقت الجلسات , ويحتفظ بالسر ( يقصد مايجري  أثناء محاكمته ) .

الورقة الرابعة : تتحدث الورقة عن تحقيق تم إجراؤه حول المتهم , وأن الأدلة التي تم تجميعها سوف تبقى سرية في الوقت الحاضر , وسوف ترسل إلى رئيس دير غرناطة .

الورقة الخامسة : تتضمن تقرير أحد المحققين ويدعى ” دييغو رومبيرتو ” المرخص الكنسي في ملاقة يقول فيه إن المتهم برنالدينو أبديلاسين والد دييغو يقول إن ابنه دييغو ولد على الحالة التي عمده عليها الكاهن حينما طلب منه خلع ملابسه ليتم استقباله بالحوض للتعميد , وأقسم المتهم بالسيدة المباركة أنه يقول الحقيقة .

ثم يتابع المحقق المرخص دييغو رومبيرتو أنه يطلب عقد جلسة يتم فيها استدعاء الشهود الذين سيعرضهم المتهم وأخذ اليمين منهم قبل الإدلاء بشهاداتهم , وأن يتم تدقيق أقوال المتهم ثم يتم التوقيع على ذلك المحضر من قبل الجميع وأن يغلق ويختم ويرسل إليه ثانية .

الورقة السادسة : تتضمن أقوال الشهود ومنهم لويس فرنانديز كاليرو أحد سكان البلدة وبعد أدائه القسم قال إنه يعرف المتهم وابنه دييغو وأنهم عندما ذهبوا لتعميده في الكنيسة وتم جلبه هو ليكون عرابا له , وعندما جردوه من ثيابه ليتم تعميده بالحوض ورأوا عضوه الذكري يكاد أن يكون تقريبا وكأنه مختون , وأن الذين كانوا هناك نظروا اليه بعناية لمعرفة ما إذاكان مختونا باليد , وانهم لم يجدوا أي علامة تدل على القطع , بحيث ظهر للجميع أنه كان نقصانا طبيعيا , لأنه لوكان مختونا باليد لكان قد عرف .

سئل الشاهد عمن كان حاضرا أثناء التعميد , وهل عمده رجل دين ؟ فقال إن هيرناندو توماس وفرانسيسكو لوبيز كانا حاضرين وأن غارسيا فرانسيسكو روسادو خريج ماربيا كان وقتها في تولوكس .

وتقدم فرانسيسكو روسادو المرخص من ماربيا بشهادته فقال إنه يعرف المتهم وابنه المذكور دييغو وأنه في الوقت الذي ولد فيه دييغو كان في نفس البلدة أي تولوكس وأن المتهم اتصل به في وقتها لرؤية ابنه الذي ولد بنقص طبيعي في القلفة وأن فرانسيسكو روسادو رآه بصحة جيدة لأنه لوتم قطعه باليد لما استطاع التوقيع على شهادة ميلاده وهذه هي الحقيقة لأجل القسم الذي أقسم عليه , ووقع على ذلك .

الورقة السابعة : تتضمن شهادة شاهد آخر اسمه بالتاسار دي سيبولفيدا كشاهد مسيحي قديم وأحد سكان البلدة فكرر إفادة مشابهة , وقال بأنه يعرف المتهم وابنه دييغو وأنه كان حاضرا في الكنيسة عندما جاؤوا لتعميد الطفل وأنه رأى كيف ظهر عضو دييغو وكأنه مختون , وأن الحاضرين قد شاهدوا أنه لم يكن مختونا يدويا ولا وجود لعلامة قطع عليه , وأن هذه هي الحقيقة ومايعرفه لأجل القسم الذي أقسمه ووقع على ذلك .

ثم تقدم المتهم بشهادة مماثلة لبياتريس غارسيا زوجة جاره , فذكرت شهادة مشابهة لماسبق وأضافت أن والده ووالدته كانا في حالة حزن وأنهما اتصلا بالكاهن روسادو وأطلعاه على الطفل , وذلك هي الحقيقة لأجل القسم ولم توقع لأنها لاتعرف الكتابة .

ثم تقدم المتهم بشاهدة أخرى هي سيدة عجوز محترمة فكانت شهادتها كما سبق ممن سبقها .

الورقة الثامنة : تتضمن الورقة أنه أمام اللجنة المختصة مثل المذكور بيرناردينو ابيلاسين وقدم الشهود المذكورين وقد قمت أنا بارتولومي دي دويناس بعد أن أقسمت اليمين بكتابة كل ماقاله الشهود …..وأن دييغو ابن بيرناردينو لم يكن لديه آثار قطع , وأنه بدا للمحقق برناردو أنه مختون وأن البقايا أزيلت وتم شفاؤه لأنه كان صغيرا جدا .

للأسف فإن الملف لم يتضمن حكما صريحا بتبرئة المتهم بيرناردينو من جريمة ختن ابنه , والعبارة الأخيرة تبعث على الحيرة فهي تتضمن أن المحقق برناردو وجد أن الطفل دييغو مختون وأن آثار العملية أزيلت لأنه كان صغيرا جدا , بينما جميع الشهود بما فيهم الكاهن الذي كان في البلدة قد شهدوا أن عضو دييغو كان تنقصه قطعة جلد بالولادة .

وهكذا سنبقى نفكر في نوع الحكم الذي أصدرته المحكمة الموقرة جدا حول الجريمة المشتبه بأن بيرناردينو قد ارتكبها عن سابق إصرار وترصد .

يبدو من محاضر المحاكمتين أن مصادرة الممتلكات لاتحتاج لقرار المحكمة , ويتم إجراؤها بمجرد توجيه التهمة والابلاغ عن المتهم وكذلك السجن , كما أن التعذيب أثناء السجن إجراء معتاد جدا ويتم لمجرد الشك في أن المتهم يخفي شيئا أثناء الاستجواب أو أنه لم يعترف بالتهمة الموجهة اليه وأنكرها ولا يحتاج قرار التعذيب لأي ضوابط أو إجراءات مسبقة سوى مايراه المحقق , كما أنه كان يجري لأتفه سبب كما هو واضح من ملف ماريا لادويدا .

******************************************************************

هوامش البحث

(1) العصر الحجري الحديث : 

( Neolithic Period)

تميز باستخدام الانسان الأدوات الحجرية والفخاروتربية الحيوانات والزراعة والتجمعات المحدودة بين 9000-4500 قبل الميلاد .

(2) كتاب تاريخ الحضارة الفينيقية – الكنعانية , تأليف جان بازيل , ترجمة ربا الخش – ص 78

( 3) الحضارة الفينيقية ج. كونتنو ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي شعيرة

(4) المدن الفينيقية للدكتور محمد أبو المحاسن عصفور الأستاذ بجامعة بيروت العربية – ص 109

( 5) تاريخ الحضارة الفينيقية – جان بازيل – ص 111-112

(6) تاريخ مسلمي اسبانيا – دوزي – ص 37

(7) بحث في تاريخ نشر العقيدة الاسلامية – سير أرنولد توماس – ص 157

 (8) تاريخ إسبانيا الإسلامية من الفتح الى سقوط الخلافة القرطبية – ليفي بروفانس – ص 44

(9) كالسابق – ص – 74

(10) تاريخ مسلمي أسبانيا – دوزي – ص 37

(11) كالسابق – ص 48

(12) بحث في تاريخ نشر العقيدة الاسلامية – سير أرنولد توماس – ص 169

(13) كالسابق – ص 161

(14) كتاب المجتمع الأندلسي في العصر الأموي – حسين دويدار – ص 43

(15) كتاب الدين والدم – إبادة شعب الأندلس – ماثيو كار

(16) كتاب ” اسبانيا – تاريخ فريد ” – ستانلي بين

(17) جمعت المعلومات عن غزو شارلمان من:

 محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الجزء الأول، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة

الطبعة: الرابعة، 1417هـ / 1997م.

– شريف عبد العزيز: معركة باب الشزري، موقع ملتقى الخطباء.

– كتاب صقر قريش – علي الأدهم.

(18) ” كتاب تاريخ إسبانيا العصر الوسيط – جوزيف ف . او كالاغان – ص202  “

   A History of MEDIEVAL SPAIN      Joseph F. O’Callaghan

 ( الصيليبية في الطرف ) ( دراسات في الصليبية والشرق اللاتيني ) Crusading on the Edge(19) من كتاب

تحرير د. آلان ف . موريه – الجزء الرابع – ص 268

(20) : حروب الاسترداد والحروب الصليبية في إسبانيا القرون الوسطى – جوزيف كالاغان-ص26

(21) البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب – ابن عذارى – الجزء الرابع

 (22) الصليبية في الطرف ( الأفكار والممارسات الصليبية في ايبريا واقليم البلطيق 1100-1500 م) – حررت من قبل توربين نيلسن وابن فونيسبيرج شميت – ص  101

 Crusading on the Edge

Ideas and Practice of Crusading

in Iberia and the Baltic Region, 1100–1500

(23) كالسابق – ص 102 .

(24) ) التاريخ السياسي للإمبراطورية الموحدية، تأليف: أمبروسيو هويثي ميراندا، ترجمة: د. عبد الواحد أكمير، منشورات الزمن – الطبعة الأولى 2004

(25)  تاريخ اسبانيا العصر الوسيط – جوزيف كالاغان – ص 247

(26) الدين والدم – إبادة شعب الأندلس – ماثيوكار

(27) الخارطة من كتاب : حروب الاسترداد والحروب الصليبية في إسبانيا القرون الوسطى – جوزيف كالاغان

(28) كما سبق ص 21 -22

(29) أوربة في قمة العصور الوسطى – ديفيد كاناداين – الفصل الأول – العالم المسيحي في بداية القرن الحادي عشر .

 (30) كتاب قصة الأندلس – ستانلي بول – ص 83

(31)  كالاغان – تاريخ إسبانيا في العصر الوسيط – ص 282

(32) كتاب الدين والدم – إبادة شعب الأندلس – ماثيو كار

(33) كتاب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذارى – ص 355

( 34) كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب – أحمد المقري

(35) حضارة العرب في الأندلس – ليفي بروفنسال – ص 84

(36) كالسابق – ص 95

(37) المورسكيون ومحاكم التفتيش في الأندلس – د. عبد الله حمادي – ص27

(38) من الأرشيف التاريخي الوطني بلد الوليد – ص 26 – منقول من الكتاب السابق

(39)   من كتاب ” ملفات محاكم التفتيش ” الذي يحوي 23 ملفا تم الحصول عليها وتحقيقها من قبل الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي ونشرت سنة 2020 ( منشورات القاسمي – الشارقة ) وأكتفي بهذا البحث بسرد الوقائع الهامة لمحاكمتين مع الدلالات .

مراجع البحث :

* الحضارة الفينيقية – تأليف ج . كونتنو – ترجمة د. محمد عبد الهادي شعيرة

* المدن الفينيقية – د. محمد أبو المحاسن عصفور

* تاريخ الحضارة الفينيقية – جان بازل

THE PHOENICIANS IN SPAIN * الفينيقيون في اسبانيا

مراجعة أركولوجية بين القرن الثامن والسادس ق.م

مارلين ر.  بيرلنغ

 A Collection of Articles Translated from Spanish , Translated and edited by : Marilyn R. Bierling

* الفينيقيون والغرب – السياسات – المستوطنات – التجارة – ماريوجينيا أوب

THE PHOENICIANS

AND THE WEST     Politics, colonies and trade                     MARIAEUGENIA AUBE

* رومنة وسط أسبانيا – ليونارد كورشن

THE ROMANIZATION

OF CENTRAL SPAIN

Complexity, diversity and change in a

provincial hinterland

Leonard A. Curchin

     The Middle Ages Series   – Ruth Mazo Karras*سلسلة العصورالوسطى روث مازوكرس

BRITANNICA*الموسوعة البريطانية  بريتانيكا

 * القوط في القرن الرابع الميلادي  – بيتر هيثر و جون ماثيوس .

The Goths in the fourth century-  PETER HEATHER and JOHN MATTHEWS

Visigothic Spain- 409–711   Roger Collins م- روجركولينز   أسبانيا القوطية  بين 409-711*

تاريخ اسبانيا العصور الوسطى – جوزيف سي إف .اوكلاغهان . *

A history of medieval Spain – Joseph CF. O’Callaçjhan

           SPAIN – A HISTORY- MELVEENA MCKENDRICK *اسبانيا – تاريخ – ميلفينا مكيندريك

* رومنة وسط اسبانيا – ليونارد أ. كوركبن

THE ROMANAIZATION OF CENTRAL SPAIN – LEONARD A. CURCBIN

 ” الاسترداد ” والحملة الصليبية في اسبانيا العصور الوسطى *

Reconquest and Crusade  in Medieval Spain   – Joseph F. O’Callaghan

قصة العرب في اسبانيا – ستانلي بول .*

* تاريخ مسلمي اسبانيا – رينهارت  دوزي .

* بحث في تاريخ نشر العقيدة الاسلامية – توماس أرنولد .

 * تاريخ اسبانيا الإسلامية من الفتح وحتى سقوط الخلافة الأموية – ليفي بروفنسال .

 الدين والدم – إبادة شعب الأندلس – ماثيو كار *

* اسبانيا – تاريخ فريد– ستانلي بين

 التببشير والتفتيش من خلال المدجنين ( المتحولين نحو المسيحية ) والمورسكيين في إسبانيا 1250-1550*

MISSION AND INQUISITION AMONG   CONVERSOS AND MORISCOS IN SPAIN,

1250-1550

JOHN EDWARDS                                                                                                            جون ادواردز

* ” الاسترداد ” والاستيطان في القرنين الثاني عشر والثالث عشر -: خايمي فيسينز فيفس

  • Reconquest and Resettlement in the 12th and 13th Centuries

By : Jaime Vicens Vives

* حضارة العرب في الأندلس – ليفي بروفنسال

* فتح الأندلس – ابن قوطية

* أخبار مجموعة – تحقيق ابراهيم الأبياري

* المجتمع الأندلسي في العصر الأموي – حسين دودار

* القضاء في الأندلس من عصر الامارة إلى نهاية عصر الخلافة – د. شكري يوسف

* المقتبس في أخبار بلد الأندلس – ابن حيان الأندلسي

* قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط – راغب السرجاوي

* فجر الأندلس – د. حسين مؤنس

* نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب – أحمد المقري

* المورسكيون ومحاكم التفتيش في الأندلس – د. عبد الله الحمادي

* محاكم التفتيش – د. رمسيس عوض

 * كتاب ” ملفات محاكم التفتيش ” يحوي 23 ملفا تم الحصول عليها وتحقيقها من قبل الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي .

* تاريخ الشعوب الاسلامية – كارل بروكلمان

* الروض المعطار في خبر الأقطار – محمد بن عبد الله الحميري

*البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب – ابن عذارى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى