في اتصال مع صديق لي يعيش في الغرب، حدَّثني عن حالة غريبة أصابت نسبةً كبيرةً من الأوروبيين يمكنُ أنْ نُسميَها التصالحَ الكاذبَ مع ما حولك! ومعنى هذه الحالة باختصار؛ أنَّك لكي تعيش في مجتمعاتك متكيفًا راضيًا، لابدَّ من أن تعيشَ حالةً من التصالح مع ما حولك، سواءً مما ألفْتَ أو تنتظرُ رأيّ من حولك فيما لم تألفْه!
هذه الحالةُ من التصالح الكاذب تتصادمُ في أحيان كثيرة مع الحقيقة، لكنَّها في الوقت نفسِه تجلب لصاحبها سكونًا وراحةً عقليةً، ويمكن وصفُها بحالة الوهم المريحِ الجماعيِّ وليس الفرديَّ الذي سبق وبحثنا فيه سابقًا!
لكن هل حالةُ التصالحِ الكاذب تلك، لا نجدُها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ وإذا وُجدت ففي أي شريحةٍ مجتمعيةٍ تكون أكثرَ انتشارًا؟ وهل لهذه الظاهرة أوقاتٌ تزيدُ من حدِّتها أو تنقصُها؟
يبدو أنَّ الإجابةَ عن هذه الأسئلةِ تحتاج إلى بحثٍ علميٍّ رصينٍ، يستند إلى إحصائيات ودراسات مُعمقة، لكن ما سنستعرضه هنا هو انطباعي الشخصي من خلال تجربتي المتواضعة في هذه الحياة، التي قد تختلف من فرد لآخرَ.
الأمنُ والأمانُ وزمنُ السلم سواء في الغرب الليبرالي الحرِّ أو في المجتمعات التي تعيش في ظل الاستبداد، هي تربة خصبة لازدهار التصالحِ الكاذب وتجذُّرُه في المجتمعات! أمَّا زمن الكوارث والأزمات والحروب فهو تربةٌ خصبةٌ لتكسير هذه القوالبِ المريحةِ حتى لأكثر الشعوب تعاسةً على وجه الأرض.
الوهمُ المريحُ الجماعيُّ حالةٌ فاسدةٌ عفنةٌ خطورتُها أكبرُ من الوهم المريح الفردي، لأنَّها تُلبّسُ أثوابًا ومسمياتٍ خطيرةً: مثلَ الدينِ، أو العرف، أو التقاليد، أو حتى الأساطير والخرافات…
في زمن الثوراتِ والحروب والكوارث الطبيعية يفقِدُ الإنسانُ حالةَ التوازنِ العقلي والنفسي تلك، فتظهر أسئلةٌ تدفعُها الحاجة للبقاء والنجاة، وتصبحُ معها الإجاباتُ التقليديةُ التي لطالما كانت جوابًا شافيًا غير نافعة!
الخطورةُ في هذه الظاهرةِ انتشارُها في الفئات المثقفةِ المتعلمةِ أكثر من الفئات الأقل تعليمًا واطلاعًا!!!
في ثورات الربيع العربي التي عاشرنا دينامياتها وجدنا أكثرَ المدافعين عن حالة التصالحِ الكاذبِ كانت الشرائحُ الأكثرُ تعليمًا، والأعلى ذكاءً، ولا أبالغ بالقول الأكثرُ تعلقًا بالدين! ولا أجد لهذا تفسيرًا إلَّا صعوبةَ اعترافِ هؤلاء لأنفسهم أولاً ولمن حولهم ولاتباعَهم، بأنَّهم كانوا خاطئين، حتى بعد أن َأُحِيطَ بِثَمَرِهِم فَأَصْبَحَوا يُقَلِّبُون أَكُفٌّهم عَلَىٰ مَا أَنفَقَوا فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا. نعم ومع الاسف! المتصدرون للمؤسسات التي تُعنى في الشأن العام من سياسيةٍ، واجتماعيةٍ، وثقافيةٍ، وإنسانيةٍ، لا يجرؤن على تجاوز حالةِ التصالحِ الكاذبِ ؛ لأنَّهم ببساطة أحدُ مروجيه في السابق، والحقائقُ التي ظهرت بعد طول دفنٍ، كشف تغيُّرُ الأحوالِ الترابَ عنها، وأماط اللثام عن المقنعين بشعارات التغيير والثورة ! نعم ، التصالحُ الكاذبُ أفضلُ من كشف العورات في الدنيا لا شك في ذلك، لكنَّ السؤالَ هل سيمنع هذا التصالحُ الكاذبُ كشفَ العوراتِ في الآخرة؟!
حقيقتان تهدمان أيَّ تصالحٍ كاذبٍ حتى لو كان وراءه أعظمُ الفلاسفةِ وأكبرُ العلماء، وهما الموت والحساب، فإذا أسقطْتَ هاتين الحقيقتين القهريتين من حساباتك، فإنَّ التصالحَ الكاذبَ هو جنةُ الحياةِ الدنيا ونعيمُها!!!! فهنيئًا لأصحاب الدنيا بتصالحهم الكاذب، أو عفوًا بوهمهم المريح الجماعي!!!