وضعت الولايات المتحدة الأميركية، “أبو محمد الجولاني” زعيم هيئة تحرير الشام، على قائمة الاستهداف، وخصصت جائزة مالية قدرها 10 ملايين دولار، لمن يدلي بمعلومات حول وجوده.
ويعتبر كثير من ناشطي الثورة السورية والجماعات الجهادية التي قضى عليها الجولاني أن الادعاءات الأميركية هذه ليست حقيقية، وأنها مجرد ذر للرماد في العيون، بناء على يقينهم بأن واشنطن لا يخفى عليها مكان وجود الجولاني ورصد حركاته، بل راح أصحاب هذه الفرضية إلى حد وجود تعاون بين تحرير الشام والاستخبارات الأميركية، إن لم يكن بشكل مباشر فعبر وسيط، يمكن أن يكون تركياً، في حين يعتبر آخرون أن الولايات المتحدة ليس لها مصلحة بإزاحة الجولاني من الساحة السورية.
ويحاول هؤلاء تعزيز صحة فرضيتهم بمجموعة الاستهدافات التي نفذتها الـ CIA ضد زعماء تنظيمات جهادية وقادة عسكريين فيها في شمال غربي سوريا، إلى جانب استهداف زعيمي تنظيم الدولة على التوالي أبو بكر البغدادي وعبد الله قرداش.
في الواقع كل الخطوات التي قام بها الجولاني ساهمت في منع استهدافه منذ البداية، وليس فقط ما قام به أخيراً من تغيير لباسه وشكله، وتليين خطابه، فهذه تكملة لجميع سلوك الرجل الذي منع عنه الاستهداف، وما قام به الجولاني أخيراً هو يأتي في الإطار نفسه، ويقوي من رصيده دولياً ومحلياً، وأن أهم أهداف ظهوره المتكرر أخيراً، القول بأنه “زعيم وطني إسلامي” للمنطقة جميعاً وليس فقط لهيئته.
وبعد مجموعة السلوكيات الجديدة والمختلفة التي راقبتها الولايات المتحدة بدقة، لم يعد الجولاني ضمن قائمة الاستهداف، بل قدم نفسه كخيار وحيد عملي لإحداث تغيير في بنية الجهاديين.
من تنظيم القاعدة إلى “الجهادية الوطنية”
وحاول الجولاني في انشقاقه عن تنظيم الدولة أن يبرز بأن من الأسباب الأساسية لذلك، هي عدم قناعته ورفضه لتبني فكر التنظيم في محاربة أميركا، وأن هناك اختلافاً مع التنظيم في تحديد هوية العدو، الأمر الذي فُهم في دوائر واشنطن بأن هناك اختلافاً حقيقياً بين فكر الجولاني وقادة تنظيم الدولة، فوضع الجولاني أول خطواته في إرضاء المجتمع الدولي، وفي طريق التمهيد لسلطته.
وبعد تركه لتنظيم الدولة وتبعيته للقاعدة، قام الجولاني بإعطاء مكانة للسوريين المنضوين تحت راية القاعدة، على عكس تنظيم الدولة والقاعدة فكلاهما يولي أهمية للعنصر الأجنبي، ويقدمه على المقاتلين المحليين بالرغم من تبعيتهم للتنظيم نفسه.
فعندما تبع الجولاني للقاعدة مباشرة، حرص على أن يظهر نفسه بأنه لا يتبنى الرؤية التي يؤمن بها تنظيم القاعدة، من عالمية الجهاد ومعاداة الغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، وهذا بات جلياً عندما لم يمرر الجولاني في الإصدارات الجهادية التي كانت تبثها “جبهة النصرة” حينئذ، أي دعايات تدعو إلى معاداة الغرب والتحريض على ضرب المصالح الأميركية في المنطقة.
كان حديث الجولاني الجديد بأن جغرافية صراعه ليست الساحة الدولية، بل مقتصرة على خريطة سوريا، هو تأكيد على الانفصال عن الفكرة التي بُني عليها تنظيم القاعدة بالجهاد خارج الحدود.
اختلف الجولاني مع كتيبة خراسان التي تمثل القاعدة وأوفدها الظواهري لتصحيح مسار الجولاني، فقرب كثيراً من السوريين، بدلاً من المقاتلين الأجانب. من هؤلاء السوريين عبد الرحيم عطون الشرعي العام في “النصرة”، وأبو سعيد رأس الحصن وأبو عائشة العطار ويوسف الهجر وغيرهم.
واستخدم الجولاني بعض قادة القاعدة بعد انشقاقه عن تنظيم الدولة من أجل شرعنته جهادياً أمام التنظيم ودعايته، لكنه بقي هو المتحكم في قرارات “النصرة”، وشكّل ما يمكن تسميته حينئذ بـ “الجهادية الوطنية”، وهذه طمأنت الغرب وأغضبت القاعدة والتيار التقليدي الجهادي، وتلك تعتبر خطوة إضافية في طريق تهذيب الجماعات الجهادية وتأطيرها، وأظهر أنه الوحيد القادر على هذا التغيير المريح للولايات المتحدة.
واجهت زعيم تحرير الشام عدة تحديات، كانت تشكل عائقاً يحول دون تثبيت قدمه كصاحب مشروع وأن لديه طموحاً في الوصول إلى السلطة، والتفرد بها.
أول هذه التحديات كان خطر تنظيم الدولة عليه من الناحية الفكرية والعسكرية، وحتى تلك التي تتعلق بتهديد حياته، والتحدي الآخر هو الثمرة التي كان ينتظرها تنظيم القاعدة من الجولاني، إلا أن الجولاني حرم التنظيم منها وخيب أمله.
فيما يتعلق بتنظيم الدولة، تمكن الجولاني منذ البداية من مراوغته، حيث كسب ثقة البغدادي الذي جعله يتزعم فرع التنظيم بسوريا، ثم بدأ الجولاني يخطط لمشروعه الخاص بدهاء، مستغلاً الظروف التي تتعلق بمجريات تحالفات فصائل الثورة السورية،
فتقرّب الجولاني من قادة الفصائل، مثل عبد القادر الصالح وقادة حركة أحرار الشام وزعيم حركة فجر الشام وغيرهم، فانشق عن تنظيم الدولة ولجأ إلى القاعدة، واحتمى بعباءتها للتغطية الشرعية، فبايع مباشرة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري الذي يمثل الشرعية الجهادية والمستأمن على تركة بن لادن، كما أن جل منظري التيار الجهادي التقليديين، اصطفوا مع الجولاني، وبذلك تخلص من دعاوى تنظيم الدولة، بأنه يتبع شرعيا له وفي عنقه بيعة لزعيمه.
شارك الجولاني في القتال ضد تنظيم الدولة بداية العام 2014 في الشمال السوري ولو بشكل محدود، لكنه أبدى وضوحاً بتصنيف التنظيم كأحد أبرز أعدائه، واستفاد من معركة الفصائل العسكرية التي جرفت التنظيم من ريف حماة إلى ريف حلب الشرقي.
والتحدي الآخر الذي واجه الجولاني، هو انفكاكه عن القاعدة، فبعد أن استخدم “القاعدة” لشرعنة نفسه أمام داعش، جاء الوقت ليتخلص من القاعدة نفسها، التي لن يقبلها العالم ولا المجتمع السوري المحلي، واستثمر هذا الانفكاك لتقديم نفسه على أنه “قائد وطني يؤمن بمبادئ الثورة السورية”.
فاستطاع قص أجنحة التيار الجهادي التابع للقاعدة في صفوف “تحرير الشام” وعمل على تقريب كثير من الشخصيات التي يُعرف عنها بأنها تتبع مصالحها، ولا تؤمن بالفكر الجهادي، وأضعف الرموز المؤسسة لجبهة النصرة، فالشخصيات الجديدة تدور حيث تدور مصالحها، وهي أكثر ولاء وطاعة للأوامر، بعكس الشخصيات التي أسست جبهة النصرة فهي تحمل إرثاً فكرياً عميقاً، وقسطاً من المنة عليه.
كان التحدي الأصعب أمام الجولاني في هذه المرحلة أن يحدث نوعاً من التوازن بين التيار الجهادي في هيئة تحرير الشام الذي يراقب بحمق عملية الانعطاف عن المعهود، وبين الاستمرار على المنهج الجديد اللّين.
وكان الحل بحربه ضد فصائل الجيش الحر وحركة أحرار الشام، فتمكن من هزيمتها وإخراجها من منطقة إدلب تباعاً، مستغلاً ضعف تلك الفصائل وفقدانها لأي مشروع، وسبق هذه المعارك حملة دعائية واسعة وممنهجة بتعكير صورة الفصائل المنطبعة في أذهان السوريين بأنها مجموعات مسلحة مشتتة تفتقر إلى الخبرة وتتبع للغرب وتضم كثيراً من المفسدين.
التدخل التركي في إدلب
كان دخول القوات التركية إلى إدلب وفقاً لاتفاق خفض التصعيد نقطة التحول الرئيسية في استراتيجيات الهيئة، فحاول في البداية منع مرور الأرتال التركية من نقطة كفرلوسين الحدودية، ثم باشرت مجموعاته في مرافقة الأرتال داخل إدلب. وقبل ساعات من انتهاء الوقت المحدد لخروج “التنظيمات الإرهابية” من المنطقة المنزوعة السلاح وفق اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا، منتصف تشرين الأول عام 2018، أصدرت هيئة تحرير الشام بياناً بموافقتها ضمنياً على بنود الاتفاق.
تمكن الجولاني من بناء علاقة مع المسؤولين الأتراك قائمة على تبادل المصالح، مع الحفاظ على هامش معين للندية، مطمئناً من أنه الفصيل الوحيد المسيطر على المنطقة وأنه الفصيل الوحيد القادر على ضبط الحدود، ومقايضة روسيا، وبسط الأمن وحماية المنطقة من أي هجوم روسي عليها.
وتحدث مناهضون لهيئة تحرير الشام مراراً عن علاقة متينة بين الجولاني والاستخبارات التركية، وصلت إلى حد تسليم مقاتلين من الجنسية التركية كانوا منضمين إلى تنظيم الدولة وغيرها من الفصائل الجهادية، بحسب زعمهم.
فكرة صمام الأمان الوحيد
وأكمل الجولاني محاولات إقناع المجتمع الدولي بإمكانية التعايش مع مشروعه دولياً، وأهمية وجوده في إدلب.
ومن الخطوات التي طمأنت المجتمع الدولي، هي نجاح الجولاني بمحاربة خلايا تنظيم الدولة في إدلب، فهو أكثر خبرة من الفصائل بمحاربته للتنظيمات، كونه يفهمها بنيوياً وفكرياً.
وشنت هيئة تحرير الشام منذ منتصف العام 2018 حملة استمرت 3 أعوام، تكللت بالقضاء شبه الكامل على جميع الخلايا النشطة في المنطقة.
وتركزت الجهود الأمنية في هذا السياق في محاولات القبض على المجموعات المجهولة التي كانت تستهدف الدوريات التركية والروسية في إدلب.
ولم يتوقف الجولاني عند هذا الحد، فراح يضيق على الشخصيات الجهادية من مختلف الجنسيات، وسجن بعضهم.
ماذا لو قتل الجولاني؟
عدم استهداف الجولاني حتى الآن أو أي من قيادات هيئة تحرير الشام يعني وجود قناعة حالياً بأنه صمام الأمان الوحيد للمنطقة، وهذا ما راح يتداوله مناهضو هيئة تحرير الشام بأنه عمالة لأميركا وتنفيذ لأوامرها، في حين أن هناك فرضية أكثر عقلانية وأخف شعبوية في الأوساط السورية بأن ما قام به الجولاني ليس عمالة وإنما مناورات تخدم مصالحه وطموحاته على الصعيدين الشخصي والفصائلي.
فلو سمح الجولاني لتنامي تنطيم الدولة، سيتمكن الأخير من القضاء عليه، لكونه ألدّ عدو له وبينهما ثأر جهادي، وكذلك إذا سمح لجماعات القاعدة بالوجود في إدلب ستقوم على تعريته شرعياً والثأر منه، لما تعتبره خداعاً لها وتضييعاً لثمرة “جهادها معه”، وكذلك إذا أعطى الفصائل نفوذاً في إدلب، سيجعلها تقاسمه النفوذ وتستمر في استجلاب الدعم الدولي من مال وسلاح واستقطاب أعداد أكبر من المقاتلين.
الآن رسم الجولاني إدلب بدقة بما يلبي طموحاته ويحميه من إدراجه في قوائم الاستهداف، بناء على أن مقتله سيتسبب بانهيار هيئة تحرير الشام أو إضعافها ومن ثم نهضة جديدة للجماعات الجهادية الناقمة على تحرير الشام وعلى الفصائل معاً، وأنه ستعود خلايا تنظيم الدولة أكثر قوة حاملة ثأراً ضد الجميع.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا