عادت تركيا إلى واجهة السياسة الدولية مجدداً بعد موقفها الأخير الرافض لانضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي خلافاً لرغبة كل الدول الأعضاء في الحلف العسكري الأكبر على مستوى العالم، في الوقت الذي بلغ فيه الصراع بين موسكو والغرب مستويات غير مسبوقة منذراً بصدام نووي.
يمكن اعتبار طلب فنلندا والسويد عضوية حلف الشمال الأطلسي من أبرز نقاط التحوّل العالمية بعد الحرب الباردة لجهة هيكلة النظام الأمني العالمي الجديد. أثار قرار الدولتين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في مطلع تسعينات القرن الماضي جدلاً داخلياً في كلا البلدين اللذين اكتسبا شهرة عالمية من خلال حياديتهما السياسية والعسكرية.
لفنلندا حدود مشتركة مع روسيا بطول 1300 كلم، وقاومت جيوش ستالين السوفياتية عندما حاول ضم بعض أراضيها إلى اتّحاده. لذا فقد حرصت طوال العقود الماضية على عدم استفزاز جارتها اللدود بخطوة من قبيل الدخول في تكتل عسكري معاد لموسكو كالأطلسي، ما أدى إلى انتشار مصطلح “الفنلدة” في النهج السياسي للدلالة على التزام دولة ما الحياد وعدم تحدي جار أقوى في السياسة الخارجية، مع الحفاظ على السيادة الوطنية. أما السويد، التي كانت تاريخياً من أكثر الدول الأوروبية نفوذاً وخوضاً للحروب، فلم تشهد حرباً منذ أكثر من قرنين ملتزمة الحياد هي الأخرى، والذي يعتبر ثقافة سياسية شعبية وليس نهجاً رسمياً فقط.
على الرغم من توجيه أنقرة سهامها نحو الدولتين، والسويد أكثر من فنلندا، إلا أن شروطها للتراجع عن موقفها، ومسار الاتصالات الدبلوماسية التي نشطت غداة إعلانها الفيتو، يشيران سيراً غير قابل للشك إلى أن الهدف التركي يتجاوز الضغط على البلدين الإسكندينافيين للحصول على “تنازلات” أميركية.
يهدف الرئيس التركي عبر موقفه التصعيدي إلى ضرب أربعة عصافير بحجر واحد.
في الداخل: يعيد الفيتو التركي لأردوغان الصورة التي لطالما عمل على رسمها وترسيخها في ذهن المواطن التركي والفئات المتعاطفة مع الإسلام السياسي في المنطقة العربية والعالم، للزعيم و”القائد الكبير” القادر على تحدّي الشرق والغرب على حد سواء. أدت الضربات المتتالية، التي تلقّتها السياسة التركية في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى وضع أشبه بالعزلة السياسية من جهة، والتدهور المتواصل للاقتصاد التركي وما تبع ذلك من خطوات اضطرارية اتخذتها أنقرة للتطبيع مع بعض الدول الإقليمية، من جهة أخرى، التي أوصلت التصعيد معها قبل سنوات قليلة مضت إلى مستويات عدائية، إلى اهتزاز الصورة التي يمكن اعتبارها رأس المال السياسي الأهم لحزب العدالة والتنمية.
لكن عاد المواطن التركي اليوم ليرى زعيمه متحدّياً الرغبة الغربية الملحّة في انضمام الدولتين إلى التكتل الأورأطلسي، مطالباً بشروط تصنّف في شكلها وسياقها ضمن حماية الأمن القومي التركي، وبخاصة تلك المتعلّقة بتسليم شخصيات تتّهمها أنقرة بالإرهاب لجهة علاقتها أو حتى تعاطفها مع “حزب العمال الكردستاني” أو “الاتحاد الديموقراطي الكردي” و”وحدات حماية الشعب”، اللذين تعتبرهما أنقرة منظمتين إرهابيتين أيضاً، وهو ما يدغدغ مشاعر الكثير من الأتراك، بغض النظر عن موقفهم السياسي دعماً للسلطة الحالية أو معارضاً لها.
في المقابل، نجح أردوغان في تحييد المعارضة التركية وتجميد مواقفها، بخاصة في السياسية الخارجية. فعلى الرغم من استمرار ارتفاع حرارة المياه في البحر الأسود، الذي تمتلك تركيا أطول سواحله، لم يصدر من الأحزاب التركية المعارضة أي موقف واضح، سواء من الحرب الروسية – الأوكرانية وسبل حلّها والتخفيف من تبعاتها السياسية والاقتصادية على تركيا، أو بما يخص الحدث الأبرز في القرن الحالي والمتمثّل بطلب فنلندا والسويد الانضمام إلى الناتو رسمياً. تخشى المعارضة من استثمار أردوغان أي موقف لها في سياق الترويج لدعم المعارضة للإرهاب و”حزب العمال الكردستاني”، لذا فهي تبدو في موقف أشبه إلى الاستسلام.
ويرى الصحافي التركي أرغون باباهان، في تصريح إلى “النهار العربي”، أن “حقيقة عدم تجاوز المعارضة التركية خطاب الدولة في ما يخص السياسة الخارجية ودعمها كل خطوة من خطوات حزب العدالة والتنمية، تقلل من مصداقية هذه الأحزاب بالنسبة إلى الغرب. فالأحزاب ليست لديها سياسة خارجية، الدولة فقط لديها ذلك”.
ويؤكد باباهان أن “صورة الرجل القوي في الخارج تزيد من دعم أردوغان (في الداخل)”.
وعلى الحدود: يأمل أردوغان من خلال اللعب بورقة الفيتو، الحصول على ضوء أخضر أميركي – أوروبي لاستكمال مشروع التغيير الديموغرافي الذي يطمح إليه في الشمال السوري، والدخول في معترك الدعاية الانتخابية للاستحقاق المصيري العام القادم، وفي جعبته مفاتيح حل أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، التي باتت تتفاقم تفاقماً متسارعاً، بالتزامن مع مؤشرات استطلاعات الرأي التي تؤكد تراجع شعبيته مقابل تقدّمها لدى معارضيه على حساب معارضتهم سياساته الخاصة باللاجئين.
على الجبهة الروسية: يرسل أردوغان إشارة إلى موسكو مفادها قيامه بكل ما يمكن من أجل عرقلة الخطوة المزعجة لروسيا، التي تصنّفها كخطر على أمنها القومي. عند النظر إلى أنقرة من نافذة الكرملين، تظهر تركيا اليوم على أنها العضو الوحيد المغرّد خارج السرب الأطلسي، وبالتالي أي تنازل تركي لاحق عن الفيتو يمكن اعتباره خطوة اضطرارية بعد مقاومة طويلة ومكلفة لأنقرة، لتقضي على أي ذريعة روسية للقيام برد فعل سلبي تجاهها على خلفية هذا التنازل المفروض بالقوة الدبلوماسية والاقتصادية الغربية.
أما غربياً: وهنا بيت القصيد، فلا شك بأن فيتو أردوغان وإن كان موجّهاً إلى فنلندا والسويد، إلا أن الرغبة الأميركية الكبيرة في تحقيق هذا الانضمام، والتأييد الأطلسي التام لها، يشيران بوضوح إلى استهدافه واشنطن مقابل العديد من المطالب، بخاصة أن مطالب تركيا من السويد خاصة تبدو غير قابلة للتحقيق بموجب القانون الدولي والمنطق السياسي والدبلوماسي على حد سواء، لا سيما تلك المتعلّقة بالمطالبة بتسليم برلمانية سويدية من أصل إيراني – كردي بتهمة دعم “حزب العمال الكردستاني”.
يؤكد الصحافي التركي أرغون باباهان لـ”النهار العربي” أن “تركيا تتفاوض حالياً مع الغرب وواشنطن وليس مع السويد وفنلندا. فقد أدى احتلالها سوريا وموقفها من الكرد إلى تعرّضها للعديد من العقوبات الخاصة بحظر الأسلحة. تسعى أنقرة إلى رفع (الغرب) وفي مقدّمته الولايات المتحدة هذا الحظر الذي يعرقل مشاريع مهمة مثل تصنيع الطائرات من دون طيار والدبابات، والموافقة على صفقة طائرات اف-16. ومع ذلك، لا يبدو من السهل تحقيق ذلك، بخاصة رغبة أنقرة بالعودة إلى البرنامج المشترك لإنتاج طائرات اف-35”.
ويضيف باباهان: “أيضاً، الاقتصاد على وشك الإفلاس. اللاجئون هم السلاح الوحيد الذي تمتلكه (السلطة) حالياً، ويمكنها التنازل عن الفيتو حتى مقابل سلّة اقتصادية”.
ويعتقد باباهان أن “الولايات المتحدة ستحلّ مشكلة الفيتو التركي بمبدأ “العصا والجزرة”، يمكن أن تقوم بالتفاوض بشأن أي موضوع، بما في ذلك قضية هالك بنك، لكن الناتو لن يقبل باستبعاد دولتين مهمّتين، مثل السويد وفنلندا”.
في مقاربة مماثلة، يروي باباهان أنه “أثناء الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حاول حزب العدالة والتنمية، الذي كان في السلطة في حينه، استثمار هذه الفرصة اقتصادياً بالتفاوض على فتح الأراضي التركية للجنود الأميركيين، مقابل الحصول على دعم اقتصادي على أرضية أن تركيا تضررت اقتصادياً من حرب الخليج السابقة. أرسلت أنقرة وزير خارجيتها ياشار ياكيش ووزير الاقتصاد علي باباجان إلى واشنطن، طالبة من وزير الخارجية الأميركي حينها كولن باول تعويضاً بقيمة 85 مليار دولار مقابل دعم أنقرة للحرب الأميركية، وهو ما رفضته واشنطن آنذاك”.
فهل تنجح أنقرة اليوم في ما فشلت في تحقيقه في الماضي القريب؟
المصدر: النهار العربي