قراءة في رواية: أرواح صخرات العسل

أحمد العربي

ممدوح عزام روائي سوري مخضرم ومتميز، منذ روايته قصر المطر قبل عقدين تقريبا، أصبح حضوره الروائي في الأدب السوري كبيراً.

أرواح صخرات العسل، رواية عزام الاحدث، يعود فيها الى ذات المكان الذي يعبر عن خصوصية التكوين الأول لابطاله، بلدات وقرى مجاورة لمدينة السويداء. مغطيا عقود من الزمن لهؤلاء الأشخاص الذين وضعهم تحت مجهر متابعته، حتى نهاية انجاز روايته في ٢٠١٧م. وصنع من حياتهم الخاصة وما ينعكس عليها من الوضع العام روايته هذه. طريقة سرد الرواية تعتمد على الخطف خلفا حيث وصل للراوي خبر وفاة عابد ثالث الاصدقاء الثلاثة مع خالد وحامد. عابد الذي تنبأ يوما بوفاته واصدقائه تباعا ومبكرا.

سيروي نائل قريب عابد الأحداث وكذلك صديقهم الغير مقرب احمد لدي مصادري للراوي الذي سيدون الحكاية. تبدأ الأحداث من طفولة لاطفال ثلاثة في بلدة المنارة من ريف السويداء، حيث يلتم شملهم من طفولتهم وايام المدرسة الابتدائية، تتوطد العلاقة بينهم، حيث أصبحوا مثار اعجاب وتعجب من يحيط بهم، يلتقون من صغرهم في منطقة مجاورة للمنارة اسمها صخرات العسل، يعيشون طفولة شقية في ريف مضبوط الإيقاع والتفاعلات، الروابط الاجتماعية محددة سلفا، الكل تقريبا مستوري الحال، البعض يعمل بالزراعة والبعض يعمل في البلدات المجاورة او السويداء بأعمال البناء وغيرها من الاعمال التي تحتاج الجهد والمشقة. في المدرسة الابتدائية سيواجهون قساوة المدير الذي سينسون اسمه ويسمونه بلقب البربيش نسبة إلى بربيش بلاستيكي يضرب به التلاميذ على طول الخط. عاش الأطفال مع غيرهم من التلاميذ مطالبتهم بأن ينضبطون بالطلائع وشعاراتها الغير مفهومة التي يطالبون بترديدها، كذلك الهندام الذي يعاقب أي مخالف له باقسى العقوبات من بربيش المدير. لذلك كان موقفهم النفسي من الطلائع عدواني، لقد أحسوا ذلك قيدا على حريتهم. في الاعدادية يواجهون وضعا جديدا، لقد تم دعوتهم والزامهم بالانتساب الى الشبيبة، كان زميلهم أبو طرة الذي يكرهونه لسوئه وانتهازية تسكنه، هو من دعاهم للالتحاق بالشبيبة، مغريا لهم بمستقبل سيكون أفضل لهم مع الشبيبة وحزب البعث لاحقا في الثانوية، حيث دعاهم المدير للانتساب له لأنه سيؤمن لهم العمل والقوة، انه انتساب للسلطة، وفي الحالتين رفض الاصدقاء الثلاثة هذا الانتساب، لكونه جاء عن طريق ابو طرة و المدير البربيش مع عدائهم وكرههم لهم. كان خالد احد الاصدقاء الثلاثة قد أحب هيفاء ابنة بلده والتي هي معه في المدرسة والصف، وظهر ذلك من تجوالها معه وتفاعلهما دائما مع بعضهم، مما دعا أبو طرة ممثل الشبيبة لأن يقرر محاكمتهم واياها على التسيب الأخلاقي، مما دفع الاصدقاء الثلاثة لخوض معركة لحماية صديقهم خالد وانقاذ سمعة حبيبته هيفاء، ونجحوا بذلك عن طريق تهديد ابو طرة بالضرب جاء من اخ احد الاصدقاء الثلاثة. كان عند حامد حبيبة ايضا اسمها هند، لم يستطع أن يتواصل معها لانه اخطأ البداية وكشف أمرها لاهلها، صارت مهددة في مجتمع مغلق ممنوع به الحب، وهو وقع في أكثر من كمين لاقرباء هند لضربه وتأديبه، ولولا اصدقائه ودفاعهم الجسدي عنه لما نجا من تلك الاعتداءات. الاصدقاء الثلاثة لم يتابعوا دراستهم بعد الثانوية وانتقلوا للعمل ليؤمنوا لهم سبل العيش، كانوا متضامنين في كل امور المعيشة، أحدهم كان والده يعمل في ليبيا ويحول المال له ولامه، وكان يصرف على اصدقائه دون حساب، وعندما امتنع الأب عن ارسال المال، صار الاصدقاء يعينونه، الاخر تدعمه أخته وهكذا يدبرون شؤون حياتهم، الثلاثة ذهبوا الى الجيش في وقت واحد تقريبا، وعندما انتهت مدة عسكريتهم عادوا لسابق صحبتهم وتواصلهم الدائم، بدؤوا بالعمل تارة في بلدتهم المنارة أو البلدات المجاورة، او السويداء، كانت فرص العمل عند الدولة ضئيلة جدا، كان البربيش الذي انهى خدمته كمدير مدرسة وأصبح المسؤول الحزبي في البلدة، يعد كل من ينتسب لحزب البعث بفرصة عمل ودعم من السلطة، الاصدقاء الثلاثة بقوا على موقفهم من عدم الانتساب للحزب. وعندما حاول بعض الأهل التوسط لديه ليوظف أبناءهم كان يؤمن لهم عملا مؤقتا لمدة ثلاثة أشهر غير قابلة للتمديد. عندما بدأت أحداث الثورة على النظام في سورية، وبدأ يصل صدى هتافات قرى درعا المجاورة للمنارة الى أسماع أهل المنارة والاصدقاء الثلاثة، كانوا متفاجئين مما يحصل وماذا يعني ان هؤلاء يطالبون بالحرية، كان الموضوع لا يعني اهل المنارة والاصدقاء الثلاثة، خاصة أن التظاهر سيصاحب بعد حين بإطلاق رصاص من السلطة على المتظاهرين وسقوط قتلى وجرحى. بدأ أبو طرة والبربيش بتشكيل مجموعات مسلحة لدعم النظام، كانوا يسلمون الشباب السلاح ويعطونهم معاش ويدعونهم لقتال المتظاهرين. لم يلتحق الاصدقاء الثلاثة بالميليشيات التي شكلها أبو طرة والبربيش، واكفى أحدهم باستلام سلاح من البربيش لحماية نفسه ان احتاج. الأوضاع تطورت في سورية بعد ذلك، الثوار شكلوا مجموعات مسلحة سميت الجيش الحر، النظام صعّد من استعمال العنف، يضرب البلدات والمدن ويدمرها، ينزح الكثير من الناس ويصلون هاربين بحياتهم الى المنارة والبلدات المجاورة حتى السويداء. لم يغير ذلك من واقع الاصدقاء الثلاثة فقد استمروا يبحثون عن عمل ويعيشون حياتهم متضامنين. لكن ما يحصل في سورية لم يتركهم على حالهم، فقد طُلب خالد للاحتياط كان رأي اصدقائه ان عليه عدم الذهاب الى الجيش لانه سيخوض معركة ليست معركته، وقد يموت، لكنه رفض واصر على الذهاب لأنه لا يريد أن يبدو جبانا عندما يستدعيه الوطن للقيام بواجبه. وبالفعل التحق خالد بالجيش وسرعان ما جاء خبر مقتله في مواجهات مع الجيش الحر. صدم اصدقاؤه واحسوا بكارثة فقدانهم صديقهم. كما أن والد حامد كان قد خُطف في أثناء انتقاله للعمل بين المنارة والسويداء، خُطف لطلب الفدية، ولأنهم لم يكونوا يستطيعون أن يدفعوا المبلغ الكبير من المال، جاءهم رأس والد حامد في سحارة موز الى البيت، جنّ حامد مما حصل لوالده وقرر الذهاب للبحث عن جثة والده، ذهب وغاب كثيرا، اكتشف أن هناك بلدات كاملة قد أزيلت وان هناك الكثير من الموتى، المفقودين الهوية، وان هناك الكثير ممن كانوا بلا رأس او يد او رجل، وان بعض القبور تحتوي على أشلاء آدمية، عاد حامد وقد أدرك أن مأساته بغياب جسد والده صغيرة قياسا بما عاشه ويعيشه كثير من السوريين. عاد إلى بلدته وصحبة صديقه عابد وتجرع المآسي التي يعيشها من غياب خالد وما حصل لوالد حامد وما تعيشه البلاد المجاورة وكثير من أهل المنارة، حيث قائمة القتلى زادت لشباب اغلبهم كان في صف النظام والبعض مع الثوار. لم تنتهي محنة الصديقين حامد وعابد عند هذا الحد، فقد جاء استدعاء حامد الى الاحتياط، رفض ان يلتحق بالجيش، رفض ان يكون مصيره الموت كصديقه خالد، قرر صديقه عابد حمايته، لكن النربيش والأمن جاءوا واطلقوا النار على عابد ونقل للمستشفى وسيق حامد الى الجيش، لم يغب كثيرا عاد حامد مقتولا من جراء معركة مع النصرة. عاش عابد اوقاتا قاسية جدا بمقتل صديقيه، فكر بالانتقام من ابو طرة والبربيش لكنه لم يستطع، كان يرفض القتل والقتال. انقطع عن العالم، داوم على التواجد في صخرات العسل، يتذكر أصدقاءه الراحلين قبله. وبعد حوالي الشهر، وجد عابد ميتا في صخرات العسل، لم يستطع فراق اصدقائه، لذلك رحلت روحه اليهم.

هنا تنتهي الرواية.

في تحليلها نقول:

اننا امام أسلوب سرد مركب فالراوي يتكلم هو أحيانا، وتارة على لسان قريب أحد الأصدقاء الذي يخبره عن الأحداث، او صديقهم الغير مقرب المسمى “لي مصادري”، كل ذلك يجعل تتبع الحدث الروائي متعب قليلا، هذا اضافة لكثرة الاسماء وتنوع الأحداث ومسارها.

للرواية خصوصية المكان ريف السويداء، وخصوصية اهل السويداء “ضمنا الدروز” سواء بالعادات والتقاليد وخصوصية التدين وسريته على الغير في أغلب الأحيان. يصحب ذلك ضوابط صارمة في العلاقة بين الرجل والمراة والتربية الاجتماعية والعائلية. كل ذلك يجعل السويداء وريفها وتجمعات الدروز في أي مكان آخر له خصوصيته ومجتمعه المغلق على نفسه وعلى أعرافه.

تظهر الرواية أن مجتمع السويداء وريفها لا يخترقه إلا حضور السلطة السياسية للبلد. حزب البعث وشبيبة الثورة، حيث يلتحق بعض أهلها بالشبيبة والحزب، ويصبحون لسان حال النظام، يتحركوا وفق أوامره، وتحقيقا لمصالحهم الخاصة ولو على حساب أهلهم وناسهم، وهذا غالبا ما يجعلهم منبوذين من مجتمعهم، ولا يلتحق بهم إلا الانتهازيين مثلهم. نستخلص أن حضور السلطة السياسية السورية في مجتمع السويداء وريفها كان سلبيا على كل المستويات.

تظهر الرواية أن واقع الثورة السورية كان بالنسبة الى ريف السويداء والسويداء – في الرواية طبعا- حدث عابر وغير مهم ولم يعبر عن حاجة او مبررات داخل هذا الحيز. بحيث توقفوا جميعا امام عدم إدراك مضمون الحرية التي طالب بها الثوار. والتي حاول البعض أن يتصرف وكأن الحرية هي التصرف غير المسؤول والعبثي العشوائي. هنا تبدو الرواية منحازة لعزلة السويداء وريفها على حساب شروط موضوعية وأسباب تطال سورية كلها بما فيها السويداء وريفها، انه ظلم النظام واستبداده وقمعه وغياب العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية وحقوق الإنسان، لقد جعل النظام الدولة مزرعته والشعب عبيده وذلك عبر عقود طويلة. هل غاب ذلك عن ذهن الروائي ام اراد ان يبرر حيادية السويداء وريفها في مسار الثورة وكأنها لا تعرف ما يحصل في سورية أو ليست تعيش ذات الظلم والاستبداد.  لا يقترب الكاتب ابدا لمشاركة شباب السويداء وريفها بحراك الثورة السورية خاصة بدايتها السلمية، وهذا إنكار للواقع، صحيح ان السويداء وريفها انحازت للنأي بالنفس وتركت البلاد تسير في صراع الثوار والنظام لتتخذ موقفها التالي. هل هي عقلانية ؟!. أم انتهازية مقنعة؟!. كما ان الراوي لم يبرز موقفا جماعيا من اهل السويداء وريفها، انهم عندما احتدم الصراع بين الثوار والنظام ودخل المرحلة العسكرية، فقد امتنع اغلب اهل السويداء وريفها عن ارسال اولادهم للجيش او الاحتياط، ضمن خلفية ان معارك النظام والثوار ليست معركتهم. وان النظام ضمن سياسة تحييد مكونات الشعب السوري من دروز ومسيحيين وأكراد، قد صمت عن امتناعهم عن الالتحاق بالجيش و خوضهم معاركه مع بقية الشعب السوري من السنة، وأصبح صلب قواته من الطائفة العلوية و حزب الله والمرتزقة الطائفين من ايران والعراق وافغانستان، هذا غير الجيش الإيراني ذاته. كان لعدم التحاق أبناء الدروز بالجيش تبعياته التي تبعها صراع مع النظام حينما اصبحت الغلبة له في السنوات الأخيرة فواجه أهل السويداء وريفها بالقوة العارية واستعاد شبابهم للجيش، ووجه عليهم مجموعات داعش التي كان قد رباها واوجدها في سورية، وانطلقت من منطقة اللجاة الى ريف السويداء تنذرهم بعودتهم ليكونوا تحت سطوة النظام واوامره، عبيدا مرة اخرى ككل الشعب السوري الذي تبقى تحت سيطرة النظام، بعد هرب ولجأ الكثير هذا غير القتلى والجرحى والمصابين.

.اخيرا. هل صحيح أن مجتمع السويداء وريفها منعزل وذو خصوصية تجعله منعزلا عن بقية سورية وما حصل فيها ؟. الجواب بالطبع لا إن السويداء وريفها ككل سورية ضحية استبداد النظام ووحشيته، لكنها ان انحازت اليوم للنأي بالنفس فقد ساعدت مع أسباب اخرى على عودة سيطرة النظام مجددا، واستمرار عبودية كل الشعب السوري له، وجعلتنا ننتظر مجددا وقتا آخر نثور به نطالب بالحرية والعدالة والكرامة الانسانية والديمقراطية والحياة الافضل، كلنا أبناء سورية بكل تنوعنا وتعددنا كمواطنين أحرار متساوين، وننتصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى