أزمات سياسية لا تتوقف، صراعات أهلية طائفية وعرقية، حروب بالوكالة، تهجير جماعي قسري وتشريد لأعداد تُقدَّر بعشرات الملايين من النازحين واللاجئين، بؤر انفصالية ومناطق تمرد تمتد على مساحات جغرافية شاسعة بحجم دول مثل بريطانيا كما جرى في شمال شرق سوريا وغرب العراق، حافلات ودراجات مفخخة، عمليات انتحارية وقتلى بالعشرات والمئات كل أسبوع وأحيانا في كل يوم، مظاهرات حاشدة وقنابل حارقة وإطارات مشتعلة تتصاعد أبخرتها السوداء لتغطي سماء بغداد وبيروت.
هكذا أصبح واقع المنطقة بعد مئة عام من الحرب العالمية الأولى التي أعقبتها المفاوضات والتسويات التي أدّت إلى معاهدة لوزان الثانية في عام 1923، التي أسهمت هي واتفاقية سايكس – بيكو بين فرنسا وبريطانيا العظمى في رسم الحدود السياسية للشرق الأوسط الحديث الذي نعرفه اليوم.
خلال اقترابنا من الذكرى المئة لمعاهدة لوزان الثانية التي نظّمت عملية تفكيك الإمبراطورية العثمانية، تتحلل اليوم تركيبة منطقة الشرق الأوسط وتعود مرة أخرى إلى أوضاع تشبه ما كانت عليه المنطقة قبل لوزان، إذ شهدت المنطقة عودة تركيا مجددا إلى أهم البلدان والمناطق التي انسحبت منها بعد توقيع تلك الاتفاقية، من خلال دفعها بقوات عسكرية في الميدان عبر عمليات عسكرية أو اتفاقيات نشر قوات، كما جرى في ليبيا مؤخرا بموجب الاتفاق مع حكومة الوفاق في طرابلس برئاسة فايز السراج، وقبل ذلك في سوريا من خلال عمليات “درع الفرات” في 2017 و”غصن الزيتون” في 2018 و”نبع السلام” في 2019، ثم العملية العسكرية الجارية حاليا في إدلب، وقبل ذلك بسنوات في العراق في منطقة بعشيقة شمال الموصل في عام 2015.
حيث تعكس تلك الصراعات والحروب الأهلية والإقليمية والانتفاضات والثورات، التي جلبت مختلف التدخلات التي شهدتها وتشهدها المنطقة، الهشاشة والتوتر البنائي الذي يعاني منه الشرق الأوسط، وتُعبِّر عن فراغ مزمن في القوة وغياب لهوية سياسية قوية ومتينة تحمي بنيته من التشظي. نبحث هنا في خلفيات تلك المعاهدة التي تقع في جذر معظم مشكلات الشرق الأوسط المعاصر، لعلنا نفهم خلفيات التدخل العسكري التركي في المنطقة من جديد في أكثر من بلد عربي، بعد انهيار الدولة العثمانية منذ نحو 95 عاما.
بعد رفض مصطفى كمال أتاتورك لمعاهدة سيفر، التي أبرمتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وفرضتها على تركيا، بعد أن أُعطت معظم القوميات غير التركية مثل الأكراد استقلالهم، خاض أتاتورك حربا طاحنة مع اليونان ودول الحلفاء، انتهت بتوقيع اتفاقية جديدة في فندق “بوريفاج بلاس” بمدينة لوزان في جنوب سويسرا، في يوم 24 يوليو/تموز عام 1923، بين كلٍّ من تركيا وبريطانيا وفرنسا.
أُطلق على تلك المعاهدة الجديدة معاهدة لوزان الثانية، تمييزا لها عن معاهدة لوزان الأولى “اتفاقية أوشي” التي أُبرمت بين إيطاليا والدولة العثمانية في 18 أكتوبر/تشرين الأول عام 1912. كانت معاهدة لوزان الثانية هي شهادة الوفاة الرسمية للدولة العثمانية على المستوى القانوني الدولي، وميلاد الجمهورية التركية المعاصرة في عام 1923، قبل حدث إعلان إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية الشهير في عام 1924.
تألّفت معاهدة لوزان من 143 مادة، تتعلق بتنظيم وضع تركيا الدولي الجديد، وترتيب علاقتها بدول الحلفاء المنتصرين في الحرب، ورسم الجغرافيا السياسية لتركيا الحديثة وتعيين حدودها مع اليونان وبلغاريا، وتنازل الدولة التركية النهائي عن ادعاء أي حقوق سياسية ومالية وأي حق سيادي في الشام والعراق ومصر والسودان وليبيا وقبرص، بجانب تنظيم استخدام المضايق البحرية التركية في وقت الحرب والسلم.
فلعبت معاهدة لوزان الدور التاريخي ذاته الذي لعبته معاهدة “وستفاليا” في عام 1648، التي كان من أبرز نتائجها القانونية والسياسية نشوء مفهوم الدولة القومية على قاعدة مفهوم (الأمة – الدولة)، حيث رسمت لوزان حدود ومعالم الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط بكامله خلال العقود التالية لتوقيع تلك المعاهدة. [1] في هذا السياق تُعَدُّ تركيا البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي ربح من تلك المعاهدة، بعد أن نجت من مصير التقسيم الذي أعدّته القوى الكبرى لها من خلال معاهدة سيفر، حيث ظلت تركيا هي الدولة الوحيدة المستقلة فعلا من بين الدول الأخرى في المنطقة التي سُمّيت مستقلة بينما كانت في الحقيقة محتلة. [2]
فحدّدت معاهدة لوزان مصير سكان المنطقة وفق مبدأين رئيسيين هما: تكريس الحدود السياسية الوطنية، ومبدأ الجنسية الذي ارتبط بـ “هوية” الدول الجديدة التي أنشأتها المعاهدة، أو نتجت منها، أو رسمت حدودها باعتبارها بديلا عن الجنسية العثمانية السابقة. في هذا السياق تم وضع لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني، وإزالة المملكة الهاشمية الحجازية التي رفضت التوقيع على المعاهدة من الوجود، بعد سماح البريطانيين لعبد العزيز آل سعود بضم ممتلكات الهاشميين إليه. [3]
البنية المستحيلة للشرق الأوسط: عالم عربي أم إسلامي؟
في كتابه المهم عن تشكُّل الخارطة السياسية للشرق الأوسط الحديث “سلام ما بعده سلام”، يقول المؤرخ والكاتب الأميركي ديفيد فرومكين إن الاحتلال البريطاني أدّى في كل مكان من العالم إلى تدمير البنى السياسية للمواطنين الأصليين واستبدال بها بنى جديدة على النمط الأوروبي بموجب قوانين أوروبية وفقا لمفاهيم أوروبية، سواء كنا نتحدث هنا عن الأميركيتين أو أستراليا أو نيوزلندا أو أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى التي لم تَعُد مقسمة على أُسس قبلية، بل قُسِّمت إلى دول كما هو الحال في أوروبا. إلا أن الرجل يتوقف عند بقعة واحدة من العالم ليتساءل إذا كان الاحتلال الأوروبي أحدث فيها ما أحدثه في أماكن أخرى من أثر عميق ودائم؟ [4]
يقول فرومكين إن الشرق الأوسط أصبح ما هو عليه الآن لأن الدول الأوروبية أخذت على عاتقها أن تُعيد تشكيله بعد تحطيم الحكم العثماني للشرق الأوسط الناطق بالعربية تحطيما لا خلاص منه، ولكي تأخذ أوروبا، أو بالأحرى بريطانيا وفرنسا، مكان النظام القديم، أوجدت بلدانا، وعيّنت حكاما، ورسمت حدودا، وأدخلت أنظمة سياسية من النوع الموجود في شتى بقاع العالم الاستعماري. [5] وبحسب فرومكين فإنه خلال الفترة بين عامي 1914-1922 وضعت المفاوضات والاتفاقيات وتسويات ما بعد الحرب نهاية للصراع حول مسألة الشرق الأوسط بين القوى الأوروبية، إلا أنها أسفرت عن ولادة مسألة شرق أوسطية في قلب الشرق الأوسط نفسه.
الأمر الذي ميّز “المسألة الشرقية” وفق ما اصطلح عليه الأوروبيون عشية انهيار الدولة العثمانية، أو المسألة الشرق الأوسطية كما نعرفها اليوم، أنها تختلف عن الخلافات التقليدية التي نجدها في الأماكن الأخرى من العالم، كالخلافات على الحكام والحدود، حيث ثمة مطالب تُطرح حتى يومنا هذا أكثر صلة بالجوهر، على نحو يناقش حق الوجود نفسه لدول قائمة على أرض الواقع، وقوميات ما زالت تبحث عن حق تقرير مصيرها، لذلك لا يزال الشرق الأوسط المنطقة الأكثر سخونة في العالم بسبب الحروب المتكررة من أجل البقاء والمصير الوطني. [6]
وراء كل المشكلات التي يعيشها الشرق الأوسط المعاصر كالمستقبل السياسي للأكراد أو المصير السياسي للفلسطينيين، يقبع سؤال لا يزال يبحث عن إجابة: هل يستطيع هذا النظام السياسي الحديث الذي نقلته أوروبا إلى المنطقة من تجربتها التاريخية بعد صلح وستفاليا البقاء في تربة الشرق الأوسط الغريبة عن أوروبا، والذي من صفاته تقسيم الأرض إلى دول علمانية تقوم على أساس المواطنة القومية، والذي يُمثِّل نقيضا للأُسس المختلفة التي قامت عليها الإمبراطورية العثمانية متعددة القوميات الممتدة في ثلاث قارات؟ [7]
يقول ديفيد فرومكين إن رجال الدولة الأوروبيين في زمن الحرب العالمية الأولى أدركوا وجود المشكلة وأهميتها، حيث لم يلبث أن شرع قادة الحلفاء في التخطيط لضم بلدان الشرق الأوسط إلى دولهم، حتى أدركوا أن سلطة الإسلام على المنطقة هي الخاصية الرئيسية للخريطة السياسية للشرق الأوسط، ولذلك سعوا إلى خلق ولاءات منافسة للوحدة الإسلامية، بيد أن فهم هؤلاء الساسة الأوروبيين للإسلام بحسب فرومكين كان ضئيلا، حيث ظلت هناك دوما خاصية معينة للمنطقة بعد تنحية مرجعيتها الدينية التاريخية ألا وهي غياب الإحساس بالشرعية، فلا يوجد إيمان واحد يشترك فيه جميع الفاعلين السياسيين، ولا ثمة قواعد واضحة للعبة السياسية.
والسبب الأساسي الذي أعطى الإسلام ميزته في هذا السياق كمحدد رئيسي ومشترك لهوية شعوب ومناطق متعددة، في نظر العديد من المختصين الغربيين في شؤون العالم الإسلامي، هو التأثير المفترض للدين على السلطة وعلى الأفراد، والعلاقة الجوهرية في الإسلام بين الدين والسياسة والإيمان والسلطة، على نحو ليس له ما يعادله خارج الإسلام كما يقول المستشرق الشهير برنارد لويس، حيث ظل لدى المسلمين وعي عميق ودائم بمفهوم الأمة، حتى وإن تعذّر تحققه سياسيا كما يذكر المستشرق الفرنسي المعروف كلود كاهن.
في هذا السياق، تعتقد إحدى أبرز الشخصيات في حقل الدراسات العربية والإسلامية، وهو المؤرخ والمستشرق الفرنسي أندريه ميكيل، أن الإسلام بكلمة واحدة غير قابل للتجزئة، ولا يمكن استبعاده بصفته رسالة دينية عن حياة المجتمعات الإسلامية، حيث لا وجود في نظر المسلم لمجالين منفصلين للزمني والروحي. فيعتقد ميكيل بدوره أن التأثيرات المادية والتاريخية تبدو أقل تأثيرا وعمقا في الإسلام مقارنة مما في مجتمعات أخرى، وأن الإسلام على المستوى الثقافي يوفر حصنا له قدرة هائلة على مواجهة التحرشات القادمة من الثقافة الأجنبية ومن تحولات البنى التحتية للمجتمع -أي تغير العلاقات الاقتصادية والاجتماعية-، وأنه في ظل أنظمة اجتماعية وأماكن وأزمنة مختلفة يُظهِر الإسلام قدرة كبيرة على أن يستحضر دائما مبادئ ثابتة تُحدِّد هويته وتُعرِّف به.
عود على بدء، لا تخص معاهدة لوزان التي جاءت كاتفاقية وستفاليا في القرن السابع عشر لتُعيد رسم الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، وتُعيد رسم حدود العلاقة بين الدين والمجال العام في تركيا ومن ثم في العالم العربي بحكم تأثير مؤسسة الخلافة التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة على الشرق الأوسط كله، بل هي في قلب الحروب والصراعات الراهنة في الشرق الأوسط، وهدف للتصدي لها عاما بعد عام على مدار عقود في شوارع القاهرة وريف حلب ودمشق وأزقة بيروت وعلى ضفاف دجلة والفرات ونهر الأردن، حيث لم يمتد بصر المسؤولين السياسيين الغربيين إلى بعيد ليروا سابقا المستقبل المفعم بالمشكلات للتسوية التي وضعوها.[11]
فعلى عكس ما قامت به دولة “وستفاليا” القومية العلمانية التي لم تَعُد تتحمل تعدُّد الهويات القومية لمواطنيها، في إعادة تنظيمها للسلطة والروابط الاجتماعية في أوروبا، على نحو قدّم حلا عمليا أخيرا لمعضلة الحروب الدينية المذهبية بين البروتستانت والكاثوليك التي كانت تُهدِّد مستقبل المجتمعات المسيحية، أدّت معاهدة لوزان في المقابل والتي فُرضت على أراضي الإمبراطورية العثمانية متعددة القوميات والمِلَل، والتي مثَّلت بنية سياسية أكثر استقرارا مقارنة بالمجتمعات الأوروبية التي جزّأتها الحروب، إلى خلق أزمات مزمنة في الشرعية للكيانات السياسية الجديدة، وإلى مذابح دموية وتهجير جماعي قسري للأقليات المسيحية في إطار من عمليات التبادل السكاني الواسع، وخلقت حالة من القلق الجماعي العام، وصراعا دائما على الهوية بين مكونات الشرق الأوسط متعدد المِلَل والإثنيات، الذي كان سابقا من الممكن للمرء أن يشعر على أرضه أنه في آنٍ واحد يهودي وعربي لأنه يتحدث العربية، أو مسيحي وعثماني معا، وأن يتكلم في الوقت نفسه العربية أو اليونانية أو التركية.
كانت النتيجة الرئيسية لاتفاقية لوزان هي انقسام الإمبراطورية العثمانية إلى قسمين رئيسيين تبعا للغة السائدة: المناطق التركية شمالا، والمناطق العربية في الجنوب. وعلى العكس مما جرى في تركيا التي تشكَّلت فيها حركة قومية قوية التفت حول مصطفى كمال أتاتورك، تم تقسيم المنطقة العربية الرخوة إلى دول ومشيخات ومناطق حكم ذاتي وفقا لمصالح بريطانيا وفرنسا ووكلائهما المحليين، وبهذه الطريقة اختفت من خارطة العالم “الإمبراطورية التي أعطت لمعظم الشرق الأوسط هيكله السياسي لما يقرب من أربعمئة عام” بحسب المؤرخة الأميركية ماري ويلسون.
في هذا السياق ولدت الجمهورية التركية في الأراضي المتبقية من الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب كدولة قومية مستندة إلى الأغلبية المسلمة الساحقة بعد التبادل السكاني وتهجير الأقليات غير المسلمة. لكن الهوية الخارجية للدولة التركية كدولة مسلمة تناقضت بشدة مع الهوية الداخلية الجديدة التي أراد مصطفى كمال أتاتورك أن يفرضها، عبر التخلي عن الهوية الإسلامية وعن مؤسسة الخلافة ودور الدين في الحياة العامة، وعبر التهرب من أعباء الصراع مع قوى النظام الاستعماري، الأمر الذي أدّى إلى انحلال الدولة العثمانية عام 1924 وطرد السلطان العثماني وعائلته من الأراضي التركية، وخلق وضعا دوليا جديدا في الشرق الأوسط، وفراغا للشرعية “يستحيل” خلاله قيام بديل طبيعي على أنقاض تلك الدولة بحسب تعبير أحمد داوود أوغلو في كتابه “العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية”.
فتواطأت -في هذا السياق- أكثر من مرة التعبيرات التي تدل على الاستحالة، بدءا من تعبير جورج قرم عن “البنية المستحيلة” للمنطقة جيوسياسيا، وصولا إلى تعبير أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا الأميركية وائل حلاق عن “الدولة المستحيلة”، الذي كان يعني به الأخير أن الدولة الإسلامية التاريخية التي كانت سائدة في المنطقة أصبحت مفهوما سياسيا مستحيل التحقق، نتيجة تنافرها مع طابع التحديث السياسي والقانوني والاجتماعي الراهن، المأزوم أخلاقيا، الذي لا يلبي أدنى معايير ذلك الحكم وتوقعاته، لذا صرنا هنا أمام مركب من الاستحالات التي لا فكاك منها على أكثر من مستوى، على نحو بات يطرح تحديات غير معقولة أمام كل محاولة أصيلة لتغيير الواقع السياسي الصعب والمعقد الذي خلقته معاهدة لوزان في المنطقة، من خلال تحولها إلى “وستفاليا ” جديدة في الشرق الأوسط.
الخاصرة الرخوة للعالم: فراغ القوة في الشرق الأوسط
بعد التوقيع على معاهدة لوزان الثانية تبنّت تركيا الجديدة إستراتيجية دفاعية مستندة إلى فكرة الأمن الحدودي للدولة القومية ذات المجال الجغرافي الضيق، وسعت لأن تكون جزءا من محور الغرب الصاعد وليست بديلة أو معارضة له. في هذا السياق اتجهت الجمهورية التركية للانضمام تحت مظلة أمنية جيوسياسية جديدة موجهة للتصدي لخطر الاتحاد السوفيتي ألا وهي حلف شمال الأطلسي، ومن ثم ابتعدت عن مجالها الحيوي التقليدي وفقدت تأثيرها التاريخي في محيطها الإسلامي الواسع لا سيما الناطق بالعربية، وصارت غريبة عن المحيط الجيوثقافي للمنطقة، ومن ثم خسرت ماليا وازداد التضخم في اقتصادها في نهاية عقد السبعينيات، جرّاء بُعدها وحرمانها من الاستفادة الاقتصادية المشتركة مع جوارها الغني بالثروة حديثا في العالم العربي.
وبعد الانشطار الذي جرى بين العالم التركي بمفهومه الواسع، الممتد من تركستان الصينية وشمال شبه القارة الهندية شرقا، مرورا بآسيا الوسطى وصولا للأناضول والبلقان والقوقاز، وبين العالم العربي، أصبح من الصعب اليوم وضع تعريف لمنطقة الشرق الأوسط يرسم حدوده الجغرافية، حيث اكتنف تعريف هوية هذا الإقليم الأنثروبولوجية والتاريخية والثقافية والسياسية ضبابية كثيفة لا يمكن أن تنقشع إلا بالرجوع تحديد إلى مفهوم “العالم الإسلامي” الذي يُفسِّر وحده فقط الروابط العضوية الحية بين أرجاء ذلك “الشرق الأدنى” بحسب الأدبيات الاستعمارية الأوروبية أو “الشرق الأوسط الكبير” بحسب التعريف الجيوسياسي الأميركي الرسمي في عهد إدارة بوش الابن.
حيث عمل ذلك الانفصال بين العالم التركي والعالم العربي على خلق أزمة في تعريف الهوية السياسية لعشرات الملايين من سكان تلك الرقعة الجغرافية الكبيرة من العالم، الذين حال تبني مفهوم الدولة القومية بينهم وبين التعبير عن تلك الهوية السياسية والثقافية المقموعة تاريخيا من قِبل الاستعمار ومن أكثر النظم السلطوية في المنطقة في الوقت الحاضر.
فيُمثِّل الإسلام هنا المفتاح لفهم حقيقة تلك المنطقة من العالم، التي تمتع دينها باستثنائية عالمية في تشكيل الاجتماع السياسي، على نحو تميز خلاله الدين بالغلبة على سائر العناصر المحددة للهوية، لذلك انفردت تلك المنطقة من العالم تاريخيا بارتباط جغرافيتها وحضارتها بالدين السائد فيها، الأمر الذي حدا بالمؤرخ الفرنسي الكبير فرنان برودويل في كتابه “قواعد الحضارات” إلى اعتماد مصطلح الإسلام والعالم الإسلامي، واتخاذ الدين مرجعا أساسيا لهوية مجتمعات هذه المنطقة، على خلاف تقسيمه الجغرافي والإثني لباقي المجتمعات والحضارات البشرية الأخرى. [16]
ولم تكن المعطيات الجغرافي وحسب في هذا السياق هي ما أملى المشاريع الجيوسياسية للقوى الكبرى حيال المنطقة، بل اعتقادها المتزايد بوجود نوع من التضامن الطبيعي الذي من شأنه أن يوحِّد كل الشعوب الإسلامية من الصين وإندونيسيا في الشرق الأقصى وصولا إلى غرب أفريقيا، لذلك يميل نافذو السياسة الدولية في هذا السياق إلى التفكير بـ “سياسات إسلامية” أكثر من التفكير بسياسات “عربية” أو “إيرانية” أو “تركية”، ولذلك سعى الاستعمار البريطاني والفرنسي إلى تطوير معرفته بالمنطقة ضمن إطار سياسات تهدف إلى “تدجين” الإسلام في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، أي قمعه وتحويله إلى دين وظيفته خدمة الدولة القومية أو الهوية القومية الضيقة.
وبعد انسحاب القوتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا من المنطقة، نشأت حالة من فراغ القوة التي أقلقت صُنّاع القرار السياسي والإستراتيجي في الولايات المتحدة الأميركية، نتيجة تخوّفهم من الاتحاد السوفيتي ومن تحوُّل المنطقة إلى مادة للأطماع الروسية التاريخية للوصول إلى المياه الدافئة، ولم يكن كافيا في نظر الأميركيين جهود بريطانيا في تدشين جامعة الدول العربية في منتصف أربعينيات القرن الماضي، ولذلك سعى الأميركيون في فترة الخمسينيات إلى إقحام البلاد العربية في أحلاف عسكرية مع قوى إقليمية موالية للغرب كما جرى خلال تدشين حلف بغداد الشهير عام 1955 الذي كان يتكوّن من كلٍّ من العراق وإيران وتركيا وباكستان بجانب بريطانيا.
كذلك حملت تلك الهواجس الأميركية دلالات عميقة على غياب هوية سياسية متينة البنيان في المنطقة. إلا أن هذا الحديث لا ينطبق بدقة على إيران وتركيا بسبب وضوح الهوية السياسية في كلا البلدين إلى حدٍّ كبير، وإنما ينطبق أكثر بكل تأكيد على العالم العربي الذي لا يتمتع رغم شراكة معظم بلدانه العميقة مع الغرب بالهيبة والاحترام نفسه الذي حدا بالغرب إلى الترحيب طوعا بتركيا كعضو أساسي في البنية العسكرية للحلف الأطلسي.
ويكفي عند المقارنة هنا بين تركيا والعالم العربي على المستويين السياسي والعسكري أن ننظر إلى مسألتين، أولاهما: اجتياز تركيا اختبار التقسيم بنجاح تاريخيا، بعد إفشال الأتراك معاهدة سيفر، على خلاف العالم العربي الذي تم تقسيمه إلى عدد كبير من الدول من خلال معاهدة سايكس – بيكو. أما الثانية فهي ما جرى في حرب الاستقلال التركية التي انتصر فيها مصطفى كمال والجيش التركي على تحالف الجيوش الفرنسية والإنجليزية واليونانية، في مقابل هزيمة جيوش أهم دول المشرق العربي مجتمعة أمام العصابات الصهيونية خلال حرب 1948، وأثناء حرب الأيام الستة عام 1967 التي هزمت فيها إسرائيل بشكل ساحق ثلاث دول عربية هي مصر وسوريا والأردن واحتلت جزءا كبيرا من أراضيها، أمام هذا العجز السياسي والعسكري الواضح ظلّت بنية المنطقة مفقودة تماما، ولم تستطع أن تُشكِّل دولها حتى اليوم مجتمعات متماسكة في حدودها الجغرافية وفي هوياتها السياسية المعترف بها والمحترمة بشكل ناجز وحقيقي.
ومنذ ذلك الانقطاع التاريخي بين تركيا والعالم العربي، تحوَّلت تركيا طيلة ذلك الوقت إلى عامل مفقود في معادلة استقرار الشرق الأوسط، لا سيما أنها لا تزال تُمثِّل امتدادا ديموغرافيا بالغ الأهمية للإسلام السُّني في العالم العربي في مقابل إيران التي تحوَّلت إلى التشيع منذ القرن الرابع عشر الميلادي إبان حكم الدولة الصفوية.
البحث عن دولة مركز: العالم الإسلامي كما يراه مؤلف كتاب “صدام الحضارات
يطرح عالم السياسة الأميركي صمويل هنتجنتون في كتابه الشهير “صدام الحضارات: إعادة بناء النظام العالمي” رؤية للمستقبل الجيوسياسي للعالم مفادها أن العامل الثقافي والحضاري سيلعب دورا كبيرا في شكل التكتلات الدولية الجديدة في القرن الحادي والعشرين.
تمتلك كل حضارة أو ثقافة أو ديانة كبرى في سياق أطروحة هنتجنتون دولة مركزية رئيسية، مثل الصين على مستوى الحضارة “الكونفشيوسية” الآسيوية الممتدة في تايوان والكوريتين وفيتنام، وروسيا على مستوى الحضارة “الأرثوذكسية” الممتدة في أوكرانيا وبيلاروسيا واليونان وبلغاريا وصربيا وقبرص، كما تمتلك الحضارة “المسيحية الغربية البروتستانتية-الكاثوليكية” الولايات المتحدة الأميركية، في المقابل يفتقد العالم الإسلامي إلى دولة مركز، الأمر الذي يتسبّب كما يقول هنتجنتون في عدم استقراره السياسي وكثرة الصراعات التي تميزه.
لذلك، يُرشِّح هنتجنتون 6 دول إسلامية للعب دور الدولة “المركز”، ألا وهي إندونيسيا بحكم كونها أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، ومصر بسبب عددها السكاني وموقعها المركزي في الشرق الأوسط ووجود الأزهر المؤسسة الأكبر للتعليم الديني في العالم الإسلامي فيها، ويطرح أيضا في هذا السياق أسماء كلٍّ من إيران وباكستان والسعودية وتركيا.
يستبعد هنتجنتون إندونيسيا بسبب موقعها الجغرافي في طرف العالم الإسلامي، ويستبعد مصر لأسباب اقتصادية، ويستبعد السعودية بسبب انخفاض عدد السكان، وإيران بسبب التنافر المذهبي، وباكستان بسبب الانقسامات الإثنية وعدم الاستقرار السياسي داخلها. ورغم استبعاده تركيا بسبب صرامة العلمانية الأتاتوركية، التي قد تمنعها من لعب هذا الدور في الوقت الذي نشر خلاله كتابه عام 1996، فإن هنتجنتون يتوقف طويلا عند تركيا مقارنة بتناوله العرضي لكل دولة من الدول السابقة، ويقول في هذا السياق إن تركيا لديها كلٌّ من التاريخ وعدد السكان والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي والتماسك الوطني والتقاليد العسكرية والكفاءة لكي تكون دولة مركز. [22]
ثم يسأل: “ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها عند نقطة ما؟”، في هذه الحالة ستستطيع تركيا أن تتخلى عن “دورها المحبط والمهين كمتسوّل يستجدي عضوية نادي الغرب”، وتستأنف دورها التاريخي الأكثر تأثيرا كمتحدث سياسي باسم الإسلام وكخصم للغرب. يطرح هنتجنتون شرطين رئيسيين حتى تستطيع تركيا أن تفعل ذلك، الأول هو أن تتخلى عن تراث أتاتورك على نحو أشمل مما تخلّت به روسيا عن ميراث لينين، والثاني هو أن تجد زعيما بحجم أتاتورك يجمع بين الدين والشرعية السياسية ليعيد بناء تركيا، وتحويلها من دولة ممزقة إلى دولة مركز.
العثمانية الجديدة: تركيا من “الكمالية” إلى البحث عن عمقها الإستراتيجي
بعد انقطاع طويل عن المنطقة نتيجة للسياسات الكمالية، عادت تركيا كفاعل إقليمي مهم في الشرق الأوسط بالتدريج منذ عهد رئيس الوزراء التركي توروغت أوزال في الفترة بين (1983- 1989)، ثم بشكل ملحوظ لاحقا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في بدايات هذا القرن. وفي سياق ما جرى بعد تولّي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم، يمكن أن نعزو التحول الذي حدث في تلك الفترة في السياسة الخارجية لتركيا إلى أربعة عوامل رئيسية، عاملان شكّلا محرك تلك السياسات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وعاملان آخران برزا مطلع العقد الثاني منه.
العامل الأول بلا منازع كان هو رؤية “العثمانية الجديدة” التي سيطرت على مخيلة صانع القرار في مجال السياسة الخارجية التركية في عهد العدالة والتنمية، التي تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط كـ “عمق إستراتيجي” وفق تعبير وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه. [23] العامل الثاني كان هو التحدي الكردي الذي ظل يُمثَّل تهديدا وجوديا لوحدة الجغرافيا السياسية لتركيا وفق القواعد الكمالية المؤسسة للجمهورية، رغم تعارض ذلك مع النزعة المتصالحة للعدالة والتنمية بشأن تعدُّد الهويات في تركيا، الأمر الذي اضطر الساسة الأتراك الحاليين إلى إقامة توازن حذر بين النزعات والغرائز الكمالية المكبوتة وبين العثمانية الجديدة. [24] أما العاملان الأخيران فكانا على التوالي هما: اندلاع ثورات الربيع العربي، واكتشافات احتياطات الغاز الهائلة في منطقة شرق حوض البحر المتوسط.
فمنذ عدة سنوات، خلال لقائه بالمخاتير (الحكام المحليين) الأتراك، تحدَّث أردوغان عن معاهدة لوزان الثانية في عام 1923 أنها تُمثِّل جرحا عميقا في الذاكرة التاريخية التركية، وأنها قلّصت جغرافيًّا من خريطة الدولة التركية وألزمتها بالتنازل عن 80% من مساحتها، وقال أردوغان حرفيا في هذا السياق:
لم تنسَ إذن تركيا حتى هذه اللحظة أن معاهدة لوزان كانت بمنزلة عقوبة عليها كطرف مهزوم في الحرب العالمية الأولى، على النحو ذاته الذي مثَّلته معاهدة فرساي التي فُرضت على ألمانيا بعد الحرب نفسها، وتسبّبت في تدمير اقتصادها، كما حذّر الاقتصادي البريطاني الشهير جورج كينز في كتابه “العواقب الاقتصادية للسلام”.
وتحت ضغط الصراع على غاز شرق المتوسط، والخلاف على الحدود البحرية بين تركيا وقبرص واليونان، وبعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين حكومة الوفاق الوطني الليبية وبين تركيا التي جرت مؤخرا والتي تصطدم مباشرة بمعاهدة لوزان، وبعد التدخلات التركية العسكرية في جوارها الإقليمي في سوريا والعراق وليبيا في السنوات الأخيرة، بات يُطرَح السؤال نفسه: هل تسير تركيا بخُطى عكسية مولية ظهرها إلى القيود التي فُرضت عليها من خلال معاهدة لوزان؟
وهو سؤال يَطرح بدوره سؤالا آخر هنا، ألا وهو: ما الثمن الذي ستدفعه تركيا والشرق الأوسط برمته إذا تخلّت تركيا عن تلك المعاهدة في ذكراها المئة في عام 2023، كما هو متداول منذ سنوات بين الكثيرين في الأوساط الإعلامية والشعبية في تركيا، منذ أن ندّد أردوغان علنا بالاتفاقية؟
علما بأن نقض ألمانيا لمعاهدة فرساي كان هو أبرز الأسباب التي أدّت إلى الحرب العالمية الثانية. فهل يكون هذا التخلي مقدمة لحرب إقليمية في الشرق الأوسط؟ حرب قد تتسع لتشمل القوى الكبرى التي يبحث بعضها في الوقت الحالي عن حصة في كعكة ثروات شرق المتوسط، ومن رقعة الشرق الأوسط أيضا الذي أدّى ويؤدي انسحاب الولايات المتحدة الأميركية التدريجي الجاري منه إلى خلق فراغ هائل في القوة يمكن أن يُغري الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية بمحاولة البحث عن موطئ قدم في هذه المنطقة.
المصدر: الجزيرة نت