يشتهرُ البروفيسور سيرجي سافيليف Sergey Saveliev (رئيسُ مختبر تطوِّر الجهاز العصبي التابع لأكاديميَّة العلوم الروسية) بأبحاثه في مجال الأمراض الجنينية للجهاز العصبي. ولقد كان سافيليف أوَّلَ شخصٍ في العالم يُصوِّر جنينًا بشريًّا يبلغ من العمر 11 يومًا فقط. ويُؤَطِّرُ سيرجي سافيليف نظرياتِ أصلِ الجهازِ العصبيِّ البشري، وكذلك تطورها الحديث. ويطور المبادئ الأساسية للتطور التكيُّفي للسلوك والجهاز العصبي.
في كتابه مورفولوجيا الوعي تحدث سافيليف عن ماهية الوعي الأحادي والثنائي والثلاثي؟ وما الفرق بينها؟ وما هي ميِّزات كلٍّ منها؟
برأي سافيليف فإنَّ الوعي الأحادي يرتبط بالدماغ الحوفي limbic brain للإنسان وهو عبارة عن المنظومة الهرمونيَّةِ الغريزيَّةِ التي توجد عند كافَّة الثديات الحيَّة. والجهاز الحوفي تحركه الهرمونات، وهو يشكِّلُ عشر حجم الدماغ، ودوافعُه تتلخصُ بالاسترزاق والتكاثر والهيمنة، فهو مثلُ الحبِّ حيثُ السيادة فيه للهرمونات والغريزة. أمَّا الوعيُ الثنائيُّ بالنسبة لسافيليف، فتطورُه الخبرة والتعلم والتجارب، وهو ما يكون لدى أغلب البشر، ويتميَّزُ البشر عن باقي الكائنات في هذا المستوى، مع العلم أنَّ باقي الكائناتِ تمتلكُ وتطورُ هذا الوعيَ لكن بدرجات أقلَّ. يتحكم بالوعي الثنائي القشرة الدماغية لكن تبقى تحركه الدوافع ذاتها الخاصة بالاسترزاق والتكاثر والهيمنة، ويمكن اعطاء مثل عليه بقدرة القرد على استخدام العصا للحصول على الطعام المخبأ أو الغراب بإلقاءه الحجارة في الإناء ليصل الماء الذي فيه إلى فَاه،وبشطارة الإنسان في التكيف مع ظروف القهر والاستبداد وتحقيق نجاحات في ظروف صعبة أو مستحيلة!
أمَّا الوعيُ الثلاثيُّ الذي يندر عند البشرِ فحسب أبحاث سافيليف يأتي بالتحرُّر من الغرائز والهرمونات التي تحركها دوافعُ الاسترزاق، والتكاثرُ، والهيمنةُ، وأصحابُ هذا الوعي يعملون بتجرد عن هذه الغرائز، ولمصلحة الجميع، وينشرون العلم والخير بغضِّ النظرِ عن دوافع الهيمنة والتكاثر والاسترزاق.
وهنا الشاهدُ في حديثنا، فالوعي الثلاثي تفسيرٌ علميٌّ لحديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّه لنفسه، وعندها يصبح منبعُ الهدايةِ الرسولُ الأكرمُ أحبُّ إلى المؤمن من نفسه. يبدو هذا المنطلقُ العلميُّ بدايةَ تفسيرٍ لقلِّة من يعبرون هذا الحاجزَ ليرتقوا بوعيهم لبناء الخيرِ للبشرية بسلوكهم وليس بكلامهم .برأي سافيليف، إنَّ من يمتلكُ الوعيَ الثلاثيَّ يتمتَّعُ بأعلى مستوى من التجريد، وهو لا يرفض الغرائز الرئيسة، لكن يكون عنده القدرةُ على التحكُّم بها، ويضرب سافيليف مثلًا على هؤلاء بغريغوري بيرلمان ( Perelman Grigori) الذي رفض جائزةَ مليون دولار وميداليةَ فليدز في الرياضيات لحلِّه حدسيَّة بوانكاريه (Poincaré conjecture) التي حيَّرت العلماَء لمئة عام أو أوليفر كرومويل ( Oliver Cromwell 25 April 1599 – 3 September 1658) ، وهؤلاء الذين يمتلكون الوعي الثلاثي لا شرطَ أنْ يتمتعوا بمستوى ذكاءٍ عالٍ، أو محاكمةً عقليَّةً نادرة أومهارةً براغماتيَّةً حياتيَّةً رفيعةً وسيرة طويلة من الإنجازات؛ فهؤلاء ليس دافعُهم النجاحَ والشهرةَ، وإلا لظلَّوا في مستوى الوعيِ الثنائيِّ، مهما بلغ نجاحُهم وشهرتُهم ،لكن دافعهم المحرك صناعة الخير والنجاح للبشرية جمعاء ومن خلالها العبور إلى جنات الخلود التي أُخرجوا منها. تحت فئة الوعي الثنائي يندرج كثيرٌ من رجال المال والسياسة الذين تمتلئ بهم أحاديثُ الميديا، ويشكِّلون أيقوناتٍ لكافَّة الأجيال الحاليَّة! أما أصحاب الوعي الثلاثي فليس لهم مكان في زمن التفاهة والانحطاط الأخلاقي، بل أنهم يُوصفون بالجنون والانفصام عن الواقع!
وهنا أتذكَّرُ أمرين من صفات الناجحين في امتحان الحياة، في قوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (83 القصص)، وقوله تعالى في سورة الشعراء: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89). وهنا نُدركُ أنَّ مفهومَنا للنجاح ليس كما عشنا زمنًا طويلًا في جعله مرتبطًا بالنصر في معركة الاسترزاق والتكاثر والهيمنة، بل يجب أن يكون مرتبطًا بمفهوم لم ندركْه بعدُ، ومثالُه كيف ضحّى صهيب الرومي بكل ما يملك في سبيل دينه وهو سعيد راضي. وعندما بلغ خبرُ صهيب -رضي الله عنه-النبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم-بعد أن لحق به بالمدينة المنورة، قال له ـ صلوات الله وسلامه عليه: (ربح البيع أبا يحيى).
لكن يبدو أنَّ الوعيَ الثلاثيَّ قد بلغ في زمن الأنبياء المجتمعَ بأكمله أوعلى الأقل شريحة واسعة منه، فقد أخذت زوجة أبي طلحةَ الأنصاري التمرَ من أيدي أبنائها، عندما أخبرها أبو طلحة أنَّه وهب البستان الذي يحبه (البَيْرُحَاءُ) لله، فلم تجادلْه أو تسألْه لِمَ فعل هذا؟حيث روى البخاري لَمَّا نزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، قامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلى رسول اللَّه ﷺ فقالَ يا رسولَ اللَّه إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْكَ ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وَإِنَّ أَحَبَّ مَالي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، وإِنَّهَا صَدقَةٌ للَّهِ تَعَالَى أَرْجُو بِرَّهَا وذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ تعالى، فَضَعْها يا رسولَ اللَّهِ حيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ.
الوعيُ الثلاثيُّ مفتاح الجنَّة ولا شكَّ، ولا نريد أن نصنعَ مجتمعًا يمتلك بأكمله الوعي الثلاثي؛ فهذا لم يتحققْ حتى في زمن الأنبياء، بل حتى أصحابه لم يعيشوه في كامل لحظات حياتهم، بل الوعي الثنائيُّ والأحاديُّ كان هو الغالب وسيظل الغالب السائد إلى يوم يبعثون، لكنَّ جوهرَ الفكرة وضعُ المفهوم في سياقه الصحيح، فالميزانُ هنا أنَّ جوهرَ النجاح لا أنْ تصنع مجدَك الشخصيَّ بالوصول إلى أعلى مراتب الوعي الثنائيِّ، كأن تمتلك أرقى الشهاداتِ العلميَّةِ، وتحصدُ أرفع الجوائز الفرديَّة، وتمتلكُ أجملَ القصور، وأنجحَ الأعمال، أو أنْ تخترعَ أكثرَ الأفكارِ عبقريَّةً، فكلُّ هذا لا يصل لمرتبة تصرُّفِ زوجة أبي طلحة الأنصاري، وقد جرَّت أطفالَها خارج أجملِ بستانٍ في المدينة، وألقت من أيديهم التمرات، فقط استجابةً لقولِ زوجها: إنَّه وهب البستان لله ليصلَ وعائلته إلى درجة البرِّ .
عجيبٌ كم ينقصُنا إعادةُ هذا المفهوم إلى كافَّة جوانب حياتنا، وعندها لن نراهنُ على شخصٍ أو دولةٍ أو حزبٍ أو فئةٍ أو نجاحٍ هنا وهناك. ولكن على منظومة تفكيرٍ؛ لأنَّ كلَّ ماسبق زائلٌ، وهنا نستذكر قول الصديق :” ألا مَنْ كان يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت” .ربما ما ينقص سيرجي سافيليف في نظريته هو عدم ذكره للفطرة السليمة في الدماغ الحوفي limbic brain لأنَّ اللهَ كما أودع الغرائز وربطها بالهرمونات وجعل الاسترزاقَ والتكاثرَ والهيمنةَ محركاتِ الحياة، فإنَّه خلق كذلك الإنسانَ ومعه فطرتُه السليمة التي بنى عليها ميزان الحياة ، فالبشرُ يدركون بالفطرة مفاهيمَ الحقِّ والباطل والعدل وكلِّ صفةٍ مشتقةٍ من صفات الخالق، ومن دونها تصبح معركةُ الترقي إلى الوعي الثلاثي شبهَ مستحيلة، وخاسرة أمام محركات الاسترزاق والتكاثر والهيمنة، مضافًا إليها وسوسة شياطين الأنس والجن التي تُبقيك أسير نطاق الوعي الأحادي والثنائي . الشيطان فهم هذه المعادلةَ جيدا، فسلاحُه الأولُ في معركته الأبدية هو تغييرُ الميزان، وليس نصرَ الباطل على الحق (فهو يدرك حجم إمكاناته) ، وبطريقته تلك تصبحُ منظومةُ التفكير لدى البشرعاجزة عن الوصول إلى التجرُّد وحبِّ الخير للآخرين، وتبقى منظومةُ التفكير والنفوس البشرية أسيرةَ الوعي الثنائي، ويصبح من يملك الوعي الثلاثي في مجتمعه طوبائيًّا حالمًا وبالتعبير اللطيف سابقٌ لعصره أو غيرُ عملي بعيدٌ عن الواقع! قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (الأعراف-16). إذا فهمنا هذه الفكرة، نكون عندها أدركنا متى يربح بيعنا ومتى تصبح بضاعتُنا ذاتَ وزنٍ في ميزان الآخرة .