هل الوعيُ الجمعيُّ هو بالضرورة لمصلحة أصحابِه والبشرية؟

د. أحمد سامر العش

تحدثنا في المقالة السابقة أنَّ لك عزيزي القارئ دوراً أخطرَ من دور النخب، وهو صناعةُ الوعيِّ الجمعيِّ الذي يوصل هؤلاء ويراقبُهم ويمنع انحرافهم…. وهذا دورٌ لا يمكن أن تصنعَه في صومعتك، أو من خلال سلوكِك الفردي فقط، بل بقدرتك على تكوين سلوكٍ جماعيٍّ منضبطٍ بقواعدَ متفقٍ عليها، وهذا يكون بغض النظر عن مقدار علمِك وتخصصِك، بل يحددُه إخلاصُك وإيمانُك بدورك في هذه الحياة. وضربنا مثلاً بحزب المحافظين البريطاني الذي يُعَدُّ أقدمَ وأعرقَ حزبٍ سياسي في العالم، ومشهورٌ عنه أنه يضحي بأفضل شخصياته، إذا تعرضتِ المصلحةُ الجمعية للحزب للخطر، وقد فعلها مع مارغريت تاتشر وتيريزا ماي. لذلك إذا خُيرْنا بين نخبٍ رائعةٍ ووعيٍ جمعيٍّ ناضج، فالميلُ يكون إلى الوعي الجمعيّ الذي فقدناه منذُ ارتضينا ألا يكونَ لنا دورٌ في حاضرنا ومستقبلنا، أي منذ الملك العضوض إلى يومنا هذا! لذلك إذا أردْتَ أن يكونَ لك عملٌ يستمر في ميزان حسناتك حتى بعد مماتك، فهو أن يكون لك دورٌ بحسب إمكاناتك في إرساء مفهوم الوعي الجمعي، وهذا يحتاج إلى قليلٍ من العلم وكثيرٍ من الإخلاص والأخلاق، أما صناعةُ وبناء الأنظمة الذي تقوم به النخب، فهو يحتاج إلى كثير من العلم ولو قلَّ الإخلاص.

لكن ما سوف نناقشُه هنا، هل الوعي الجمعيّ هو بالضرورة لمصلحة أصحابه والبشرية أم من الممكن أن يكون شريراً فاشياً، يعود بالويل والثبور على أصحابه والبشرية؟ لنأخذ مثالين حيين عن وعي جمعيّ، أولهما صنعته القوميةُ الدينية (الاثني عشرية الفارسية)، وثانيهما صنعته القيم الليبرالية الحديثة في الغرب الحديث.

لا شك أن الوعيَ الجمعي يعطي تماسكاً قوياً للجماعة، ويجعلُهم على المدى القصير موحدين أقوياء خلف قيمِهم الجمعية، ولكن إن كان الوعي الجمعي فاشياً فلا بد حتماً من فشله على المدى المتوسط أو البعيد! بينما تشير القومية إلى أن أمتي فريدةٌ، وأن لدي واجباتٍ معينةً تجاه أمتي، فإن الفاشية تعني أن أمتي متفوقةٌ وأدين بالتزامات خاصة تجاهها. فلا ينبغي لي- بغض النظر عن الظروف – أن أتحمل مصالح مجموعة أو فرد آخر فوق مصالح أمتي. حتى لو حاولت أمتي اضطهاد ملايين البشر الذين يعيشون في بلد بعيد لتحقيق مكاسب دنيوية سخيفة، لا ينبغي لي أن أتردد في دعم أمتي. وإلّا سأكون خائناً حقيراً. فإذا أمرتني أمتي بقتل الملايين من الناس، فيجب أن أقتل الملايين من الناس.

القومية الدينية (الاثني عشرية الفارسية) دخلت في مرحلة الفاشية، وإن اختلف المحللون في تاريخ دخولها -بين من يؤمن أنها أُسست على ذلك، أو من يظن أنها انحرفت في مرحلة ما بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية بفترة قصيرة-لكنها بلا شك هي في وضع فاشيٍّ لا يختلف عليه المحايدون. كذلك الأمر مع العالم الليبرالي الغربي الذي نجح لفترة طويلة في تسويق قفازاتِه البيضاء وعناوينِه البراقةِ عن حقوق الانسان، والعدالة والحرية، لكنه في عصر ثورة المعلومات انتقل مُجبَراً بمحور فلسفته من محور العقل إلى محاور التغييب والتخدير والتفاهة. كذلك مثل القومية الدينية (الاثني عشرية الفارسية)، لا يهمنا متى حدث هذا (بعضُ الباحثين يربطها بعصر النيوليبرالية والرأسمالية الجديدة وبعضُهم يظنها أُسست على هذا) لكنَّ السؤال المهم لماذا ومتى ينهار الوعي الجمعي الفاشي؟! ماذا يفعل الناس الذين يربطون جميع معتقداتِهم في رواية واحدة عندما ينهار هذا السرد؟ الألمان تعافَوا بوتيرة لا تصدق. وجدوا رواياتٍ أخرى عن العالم في مكان ما في أذهانهم بمجرد أن وضع هتلر رصاصة في رأسه، تبنَّى الناس في برلين وهامبورغ وميونيخ هوياتٍ جديدةً، وأصبح النازيون منبوذين حتى في حواضنهم السابقة! وهذا سيحدث يوماً ما في إيران عندما تنهار سردية الثيوقراطية الحاكمة! بالطبع سيكون هناك قوةٌ من الاتحاد تحت رواية الوعي الجمعي بشري المنبت. وهذا هو السبب في أن الفاشيين يسيطرون على مصالح أيِّ فرد منهم بالكامل، ويربطون كلَّ جوانب حياتِه بسردهم الخاص عن الحياة والبداية والنهاية، وهذا ما فعلته بيئة حزب الله في لبنان، وكذلك فعلته البيئة الرأسمالية بالإنسان الغربي وتحاول فعله منذ ثمانينات القرن الماضي مع الإنسان العالمي!

كلمة “الفاشية باللاتينية ” تعني “حزمة قضبان”. وهي واحدة من أكثر الأيديولوجيات الوحشية الفتاكة في العالم. التعريف “حزمة قضبان” يبدو كأنه رمزٌ معتدلٌ لوصف عميق. عصا واحدة ضعيفة للغاية وتكسرها بسهولة كما تعلم. ولكن إذا جمعت الكثير من العِصيِّ معاً، فستحصل على اللفافة ويكاد يكون من المستحيل كسرُ هذه القضبان. منظرو الفاشية ومنظرو المدرستين (الاثني عشرية الفارسية والليبرالية الغربية) ؛ يأمرون بعدم استثناء أي عصا حتى لا تتعرض سلامة الحزمة للخطر. لا يريدون أن يُفقِدوا أنفسهم هذا الشعورَ الجميل بالاتحاد! لذلك تجدهم يحرصون على أشياءَ قد تراها سخيفة لك، لكنها لهم تعني سلامة الحزمة وصلابة النموذج (مثل إصرارهم على تسمية الجامع بحسينية، تبديل مكة بكربلاء، أو تقديس الحرية على حساب مقدسات الآخرين مثل حرق المصاحف وإهانة الرسل…).

يعتقد الناس أنه عندما تنظر إلى المرآة الفاشية، لن ترى أيَّ شيء قبيح على الإطلاق. نظر الألمان في المرآة الفاشية في الثلاثينات من القرن الماضي ورأوا أجمل شيء بالعالم في ألمانيا. وينطبق الشيء نفسُه على الروس والإسرائيليين والشيعة الاثني عشرية والوهابية والقاعدة اليوم، إذا نظروا إلى المرآة الفاشية، فإنهم يرون بلادَهم أو جماعتهم على أنها أجملُ شيء في العالم. يرى منظرو الاثني عشرية الفارسية أنهم انتصروا على أعدائهم ويخططون هذه الأيام للاستيلاء على مكة والمدينة، لكنهم نسوا أنهم لن يكونوا أبرع من المنظومة الغربية التي على الرغم من أنها أبدعت في تسويق فاشيتها لجماعتها، وأمَّنت لهم حياةً مريحة هانئة (على عكس الاثني عشرية الفارسية التي خدرت جماعتها بالقصص والخرافات على حساب الحياة المريحة)، ومع ذلك عادت إلى هواجس التصادم والإفناء فيما بينها كما حدث في الحربين العالميتين؛ لأنها بالأساس بَنَتِ الوعيَ الجمعي وسعادةَ مريديها وتماسكهم على حساب سعادة الآخرين وشرزمتهم!

في النهاية الوعي الجمعي لا يجب أن يستند على أيديولوجيا وقومية بل على أخلاق وممارسة حقيقية باطنها كخارجها، وقد وجدت كثيراً من المستضعفين لا ينظرون إلى الأمر من هذه الزاوية بل من زاوية الحسد والإعجاب بالنماذج المنتصرة، وهم بذلك لا يختلفون عن النموذجين اللذين ذكرناهما، بل ربما يعملون الأسوأ إن تمكنوا، وهذا ما رأيناه مع القاعدة أو مع بعض منظرين أهل السنة الذين يتمنون لو يتمكنون يوماً من طرح عصمة الإمام ليستأثروا بسردهم الخاص على حساب الحق وما أنزل وأمر به الله جل في علاه! فالخطأُ هنا في منظومة التفكير، وعند لفظِ هذا الخلل في منظومة التفكير يصبح اختلاف المذاهب ليس سببا للتفرقة-كما هو الحال الآن بين سلفي واشعري وصوفي….- بل ارتقاءً في النموذج؛ لأن منبع الأخلاق والأهداف واضح جلي لا يختلف عليه اثنان” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ “(ال عمران-110).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى