فجرُ كلِّ شيءٍ: تاريخٌ جديدٌ للبشرية

د. أحمد سامر العُش

كتاب” فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية- The Dawn of Everything: A New History of Humanity ” بقلم الكاتب المبدع ديفيد جريبر David Graeber (الذي سبق وتحدثنا عنه في مقالة: هل تسرقُ أوقاتُنا حتى لا نفكر) وديفيد وينجرو David Wengrow يطرحُ سؤالًا مُهمًّا: هل عدمُ المساواةِ هو ثمنُ الحضارة؟

يحاولُ كلٌّ من جريبر عالمِ الأنثروبولوجيا ووينغرو عالمِ الآثارِ تفكيكَ الطريقةِ التي عملت بها المجتمعاتُ المبكرة. التاريخُ مهمٌ لكل من العالمين الغربي والشرقي. فبينما نحن نناقشُ التماثيلَ والعبوديةَ ونناقشُ دورَ الإمبراطوريات في صناعة التاريخ، اعتدنا على السجال المستمر على الماضي. ولكنْ هناك فرعٌ واحدٌ من التاريخ – بحسب رأي الكاتبين- ظلَّ حتى الآن خارجَ الصراع: وهو قصةُ ماضينا المبكر، “فجر” الإنسانية.

بالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا ديفيد جريبر وعالم الآثار ديفيد وينغرو، فإنَّ هذا الإجماعَ يمثلُ مشكلةً بحد ذاته. حيثُ يجادلون في هذا الكتابِ الأيقوني والمتحرر، بإنَّ الكثيرَ مما نعتقدُ أننا نعرفُه عن هذه الحقبة البعيدة من التاريخ هو في الواقع أسطورة – فهي في الواقع تكافئُ الأسطورةَ الأصلَ التي تتحدثُ عن سيدنا آدمَ وأمِّنا حواءَ وجنةِ عدن. تبدو قصةُ صعودِ الحضارة -بحسب رأي الكاتبين- ومعها صعودُ الدولة في جوهرها مثلَ جميعِ الأساطير القديمة، حيثُ تتمتعُ تلك السرديةُ بقوةٍ هائلة، ويمنعُنا انتشارُها الواسعُ ومرونتُها عبر كلِّ الثقافات والأديان من التفكير بوضوح في أزماتنا الحالية.

جريبر و وينغرو يجادلان بأنّ هذه الأسطورةَ يمكنُ العثورُ عليها على أرفف كلِّ مكتبة في الشوارع الرئيسية وفي المطارات، حتى في الكتب الأكثرِ مبيعًا مثل كتابِ الإنسانِ العاقل ليوفال Yuval Noah Harari’s   ,Sapiens وكتابِ العالمِ حتى أمس لجارد دايموند  Jared Diamond’s The World  ,و كتابِ أصلِ الترتيب السياسي لفرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama’s The Origins of Political Order. . تشتركُ كلُّ هذه الكتبِ في افتراض مشتركٍ واحدٍ وهو: “عندما تصبحُ المجتمعاتُ أكبرَ وأكثرَ تعقيدًا وثراءً و “متحضرة”، فإنها تصبح حتمًا أقلَّ مساواة”.

 يقالُ إنّ البشرَ الأوائلَ عاشوا مثل (foragers) الباحثين عن الطعام في صحراء كالاهاري الإفريقية في فرق صغيرة متنقلة كانت متساويةً وديمقراطية. لكن هذا الجحيمَ البدائي (تختلفُ الآراءُ حول هذه التسميةِ) اختفى مع الاستيطان والزراعة ، الأمرُ الذي تطلّبَ إدارةَ العمل والأرض. وتطلّب ظهورُ المدنِ المبكرة، وفي النهاية الدول، وتطلّب كذلك تسلسلًا هرميًٍا أكثرَ حدةً وصرامة، ومعه بالطبع أتت كافةُ المتطلبات الحضارية الكاملة (بحسب مفهومنا لها) – مثل القادةِ والإداريين وتقسيمِ العملِ والطبقات الاجتماعية. الخ. الدرسُ إذن واضحٌ هنا بحسب هذه الرواية: “لا بد من مقايضة المساواةِ بين البشر والحرية من أجل التقدم”.

هنا يأتي إبداع الكاتبين في نقد هذه الرواية، حيث يرى جريبر ووينغرو أصولَ هذه الروايةِ “المتدرجة” كفكرة مستحدثة ظهرت مع عصرِ التنوير، ويُظهران أنها كانت جذابةً باستمرار لأنه يمكنُ استخدامُها من قبل الراديكاليين والليبراليين على حدٍّ سواء. بالنسبة لليبراليين الأوائلِ مثل آدم سميثAdam Smith، كانت هذه قصةً إيجابيةً بحيثُ يمكنُ نشرُها لتبرير زيادةِ عدمِ المساواة التي جلبتها التجارةُ وهيكلُ الدولة الحديثة. لكنّ الاختلافَ في تلك السردية، الذي طرحه الفيلسوف جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، وثبت أنه مفيدٌ لليسار: هو أن الإنسان في الأصل كان حرًا، ولكن مع مجيءِ الزراعةِ والملكية وما إلى ذلك، انتهى به الحالُ مكبلًا بالسلاسل. وقد دمج فريدريك إنجلز Friedrich Engels خرافةَ روسو “الوحشية النبيلة-noble savage” مع الأفكارِ التطورية الداروينية، لإنتاج سردٍ ماركسي أكثر تفاؤلاً للتقدم التاريخي للبشرية: حيث الشيوعيةُ البدائية حلت محلَها الملكيةُ الخاصةُ والدول، ثم أتت الشيوعيةُ البروليتاريةُ الحديثة.

هذه السرديةُ – بشكليها الليبرالي والأكثر راديكالية – هي التي يسعى جريبر ووينغرو إلى تفكيكها في كتابهما باستخدام البحوثِ الأنثروبولوجية والأثرية الحديثة. حيث تظهرُ الحفرياتُ في ولاية لويزيانا، على سبيل المثال، أنه في حوالي 1600 قبل الميلاد، بنى الأمريكيون الأصليون أعمالًا إنشائيةً عملاقةً للتجمعات الجماهيرية، وجذبت الناسَ من مئات الأميال حولها – وهو دليلٌ يحطم فكرةَ أنّ جميعَ الباحثين عن الطعام يعيشون حياة بسيطة ومنعزلة.

وفي الوقت نفسِه، فإن ما يسمى بـ “الثورة الزراعية” – صفقة فاوست (الألماني الذي سلم روحَه للشيطان مقابلَ المعرفةِ المطلقة) في العصر الحجري الحديثِ عندما استبدلت البشريةُ بساطة المساواةَ بالثروة والمكانة الاجتماعيةِ والتسلسلِ الهرمي وهيكل الدولة- ببساطة لم تحدثْ بحسب رأي الكاتبين. حيث كان التحول من البحث عن الطعام إلى الزراعة بطيئًا ومتقطعًا؛ فالكثيرُ مما كان يُعتقدُ أنه زراعةٌ كان في الواقع بستنةً صغيرة الحجم، ومتوافقٌ تمامًا مع الهياكل الاجتماعية المسطحة. وبالمثل، فإن ظهورَ المدن لم يستلزمِ الملوكَ والكهنة والبيروقراطيين كما تصور الأسطورةُ السردية التي يحاول الكاتبان تفكيكها. حيث ظهر أن مستوطناتِ وادي السند مثل Harappa  – حربا 2600 قبل الميلاد(c2600BC)-لا تظهرُ فيها أيُّ علاماتٍ على القصور أو المعابد وبدلًا من ذلك تشير الحفرياتُ هناك إلى قوة مشتتة وليست مركزيةً. في حين أن Graeber وWengrow منفتحان بشأن الأدلةِ المحدودةِ للغاية والخلافاتِ حول تفسيرها، فإنهما يبنيان قضيةً وسرديةً مقنعة تستحقُ التأملَ والتفكير.

مع ماسبق، فإن الكتابَ ينتقدُ بازدراء أسطورةً أخرى متداولة بكثرة: وهي افتراضُ أن “الهمجي- الإنسان الاولي” كان غبيًا ونبيلًا على حد سواء.

ففي عصر يعبدُ آلهة التكنولوجيا في وادي السيليكون بكاليفورنيا ، من المغري الاعتقاد بأننا الآن أرجح عقلًا من أسلافنا البعيدين. لكنّ الحقيقةَ تقولُ إن المبشرين اليسوعيين Jesuit missionaries في القرن السابع عشر كانوا غاضبين لاكتشاف المرونةِ الفكرية لشعب الونداتWendat- (شعب هيرون) أحدِ الشعوبِ الأصيلة في أمريكا الشمالية تجاه التطور والتعلم السريع؛ ففي الواقع، أثبت شعبُ هيرون بأنهم أكثرُ بلاغةً من المواطنين والتجار الفرنسيين الأكثر ذكاءً  في ذاك الزمان. يُعزى هذا التطورُ إلى مجالس الونداتِ الديمقراطية، التي عُقدت كل يوم تقريبًا في القرى، وكانت تخوض وتبحث في جميع الأمور تقريبًا وتطورُ من قدرتهم على الكلام والحوار. يقترح جريبر ووينغرو أن هذه المهاراتِ والعادات جعلت ما يسمى بالشعوب البدائية حقًا أكثر تطورًا مما نحن عليه الآن -حيث كانوا منخرطين في الأعمال اليومية لتنظيم مجتمعاتهم بدلًا من التغريد عن ذلك كحالنا هذه الأيامَ مع تويتر وفيسبوك.

كان جريبر، حتى وفاته العام الماضي عن عمر يناهز 59 عامًا، من بين أشهر الثائرين الفوضويين( اللاسلطوي anarchist )في العالم وزعيم فكري لحركة “احتلوا وول ستريت” (التي تحتفل الآن بالذكرى العاشرة لتأسيسها). يتبع كتاب ” فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية- The Dawn of Everything: A New History of Humanity ” بالتأكيد تقليدًا طويلاً من الأنثروبولوجيا المناهضة للدولة الحديثة. حيث من الأمثلة المبكرة على ذلك كتاب “المعونة المتبادلةMutual Aid- ”  (1902)    الموضوع من قبل الجغرافي الأناركي الأمير كروبوتكين Kropotkin، والذي قدم بديلًا للتاريخ التطوري الذي كان رائجًا في عصره ، ودافع عن الشعوب “المتوحشة” ضد الأحكام القاسية للإمبرياليين والماركسيين على حدٍ سواء. وكذلك يقدم لنا مارشال ساهلينز Marshall Sahlins في مقالته التي صدرت عام 1972 بعنوان:” مجتمع الأثرياء الأصلي The Original Affluent Society   ” مثالاً آخر، حيث يتساءل عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي مارشال ساهلينز Marshall Sahlins عمّا إذا كان الباحثون عن الطعام في صحراء كالاهاري الإفريقيةِ في يوم عملهم الذي يستغرق ساعتين إلى أربع ساعات ، كانوا في الواقع أسوأ بكثير من العامل الذي يعمل في المكتب أو المصنع من التاسعة إلى الخامسة.

  أن Graeberجريبر ووينغرو Wengrow لا يرجحان “عصرًا ذهبيًا” معينًا؛ ولا يتم حثنا -في الكتاب-على تبني أسلوبِ حياة العصر الحجري القديم. لكنهم يؤكدون على التنوع الهائلِ والتهجين والامتزاج في المجتمعات البشرية المبكرة – الهرمية منها وغيرِ الهرمية، المتساويةِ في بعض النواحي وليس في أخرى. في الواقع، تناوبت شعوبٌ مثل الشيروكي أو الإنويت (الاسكيمو) بين الاستبدادِ والديمقراطية بحسب الفصول الطبيعية والمواسم. ومع ذلك، يوضح الكاتبان تعاطفَهم بشكل واضح مع تحطيم الأساطير وتحدي السرديات التقليدية: فهم معجبون بالتجريب والخيال والمرح، فضلًا عن إتقان فنِّ عدم الحكم، بحسب مصطلح المؤرخ جيمس سي سكوتJames C Scott.

قراءةُ كتاب فجرِ كلِّ شيءٍ مبهجة، لكن من غير الواضح مدى فاعليتها في تقديم قضية اللاسلطوية (الفوضوية) بشكل مقنع للقارئ. سيتم دفعُ القراءِ المتشككين إلى التساؤل: إذا كانت الدولُ في شكلها الحالي غيرِ ضرورية حقًّا، فلماذا أصبحت مهيمنةً في جميع أنحاءِ العالم؟ لمعالجة هذا الأمرِ، كان يتعينُ على جريبر ووينغرو تقديمُ وصفٍ أكملَ بكثير عن سبب ظهورِ الدول الحديثة، وكيف كان من الممكن تجنبُها وكيف يمكن أن نعيشَ دونها. هذا ما حاول كروبوتكين Kropotkin فعلَه في كتابه “المعونة المتبادلة”Mutual Aid,، وتبدو مثلُ هذه الأسئلةِ ملحةً بشكل خاص عندما يقود التعقيدُ والترابط الهائلُ للتحديات العالمية الحاليةِ (من أمثال كورونا، العملات الرقمية، التغير المناخي… الخ) الكثيرين إلى استنتاج أننا بحاجة إلى المزيد من قدرة الدولة ، وليس أقل  وخاصة في بلادنا العربية والإسلامية التي تعجُّ بالفوضى بسبب غيابِ الدولة القوية العادلة والسلطة المركزية لهيكليات الدول الحديثة!

ومع ذلك، فإنّ خرقَ الأسطورةِ هو مُهمةٌ حاسمةٌ وجريئة في حد ذاتها. بينما نبحث عن طرق جديدةٍ ومستدامة لتنظيم عالمنا العربي والإسلامي بشكل خاص والإنساني بشكل عام ، نحتاجُ إلى فهم النطاقِ الكامل للطرق التي فكر بها أسلافُنا وعاشوا بها. ويجب علينا بالتأكيد أن نتساءلَ عن النسخ والروايات التقليدية لتاريخنا التي قبلناها، والتي لم يتمَّ فحصُها، لفترة طويلة جدًا.

كتاب” فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية- The Dawn of Everything: A New History of Humanity ” ربّما يفتحُ لنا رغبةً حقيقيةً في إعادة قراءةِ تاريخِنا في كافة بلادِ العربِ والإسلام وكيف تطور مفهوم التحرر والحرية والمساواة؟ وهل زاد أم نقصَ مع التاريخ السياسي في مناطقنا بعد المدِّ الإسلامي؟ وهل القواعدُ القرآنية المُنزلة في المساواة وهرميةُ العلاقاتِ الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا عندما تحولت من القبلية إلى مفهوم الدولةِ المسلمة طُبقت أم بقيت استثناءات؟ وهل يمكن كسرُ الأساطيرِ حول: كيف، ولماذا، وأين، ومَن طبقها والتزم بها؟ وهل يمكن إعادةُ إنتاجِها بقوالب حديثة إبداعية؟ وهل دمج الدراسات الأنثروبولوجية مع التاريخ يمكن أن يفتحَ لنا بابًا جديدًا يكون لنا عونًا لإعادة دورنا الحضاري؟ قد يكونُ حرقُ المراحلِ والتفكيرُ في مفهوم ما بعد الدولةِ الحديثة يجعلُنا نعود إلى الصف الأولِ وخاصة أننا نمتلكُ تجربةً عميقةً من التاريخ السياسي والمعرفي وبتلك الطريقة التي أسميتها “سيناريو الدرونز التركي – في أبحاثي السابقة” نستطيعُ أن يكونَ لنا كلمةٌ في المستقبل بين الأمم، عندها يتحقق معنا الاستخلاف الذي كُلفْنا به نحن حملةَ الرسالة الكونية.

ونحن هنا لا ندعو إلى حبس مشاعرِكم وأحاسيسِكم تجاهَ الأشياءِ بغض النظر عن ماهيتها، لا وكلا، ولكنّنا ندعو أنفسنا وأياكم إلى ضرورة الاحتكامِ إلى الصورة الواقعية والحقيقة لتلك الأشياء.

إن  إخراجَ الأساطيرِ من عقولنا وتنظيفَ أذهاننا من الوساوس والظنون و”الخربشات” التي تُنكّدُ علينا وتشوّشُ تفكيرَنا هي ما ندعو له ودعا إليه جريبر ووينغرو، فلا يجب أن نكونَ أسرى للدوامات الشاغلةِ للعقول والبعيدة عن الواقع، بل يجب علينا كسرُ الحواجز حتى يصيرَ الصعبُ سهلًا يسيرًا لا مثيل له من القبول، فالحياةُ ربّما تكون بسيطةً وجميلةً أكثرَ مما نتخيلُ، يجب  علينا أن نتمتعَ بجمال تفاصيلِها قبل أن نغادرَها إلى دار الآخرة، أمامنا أيامٌ وشهورٌ وسنوات وربما عقودٌ طويلةٌ من الأمل والعيشِ الجميلِ مع أحبائِنا، فلا يجب أن نحرمَ أنفسَنا  من جمال الدنيا وفساحةِ المستقبل، فالقرار في أيادينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى