لم تبدأ الحكاية السورية، أو حكاية السوريين، مع شقائهم وعذاباتهم والأهوال التي عاشوها، مع تقرير صحيفة “الغارديان” عن مجزرة حي “التضامن” الكائن ضمن منطقة مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين (قرب) دمشق، فذلك التقرير تحدث عن حادثة معيّنة، لكن أهميتها أنها كثّفت تاريخ سوريا السياسي، ولخّصت طريقة تعامل النظام السوري مع شعبه.
لا تمكن الإحاطة بتاريخ سوريا المحجوب، أو المسكوت عنه، من دون فهم آليات عمل النظام الذي حكم ذلك البلد منذ أكثر من نصف قرن، وحوله إلى مزرعة عائلية خاصة، والذي اختزل الدولة، أو همّشها، إلى سلطة، بأجهزتها الأمنية، المتمثلة بالوحدات العسكرية، وأجهزة المخابرات، المتعددة والمتشعبة، وكلها فوق القانون، فتلك هي مصدر الشرعية، والقوة، في حين أن الوزارات، ومجالس الشعب، مجرد ديكور، ولزوم الشكل، أو الصورة.
في كل ذلك، فقد بات تاريخ سوريا، هو تاريخ عائلة الأسد، فلا شيء قبل ذلك، أو من دونه، فتلك اسمها “سوريا الأسد”، ما يفسر أن يساريين وقومجيين ومقاومجيين لا يلحظون وجود السوريين كشعب، ولا ما يحصل لهم، فكل ما يريدونه هو الاستمرار في سماع ما يحبذون سماعه من نظام المقاومة والممانعة من خطابات ضد الإمبريالية والصهيونية، حتى لو ظل ذلك مجرد حبر على ورق، أو للاستهلاك والابتزاز والمزايدة، وحتى لو ظلت سوريا لا ترد على اعتداءات إسرائيل المستمرة منذ سنوات!
في الواقع فإن مجزرة حي “التضامن” مثلها مثل كثير من المجازر، لكن أهمية تسليط الضوء عليها أتت من القدرة على كشف صور مرتكبيها، واستنطاقهم، وهو كشف يضاهي صور “قيصر” (اسم حركي)، التي سربها عسكري سوري سابق، استطاع تصوير جثث المدنيين من ضحايا التعذيب والقتل على يد النظام، حتى انشقاقه (2013)، وبلغ عدد الصور المسربة 55 ألف صورة لـ 11 ألف ضحية (مطلع 2014). ففي حينه أثارت تلك الصور ضجة كبيرة، أيضاً، وأقرت المنظمات الدولية بصحتها، ما دعا الكونغرس الأميركي إلى إصدار قانون “قيصر” (2020) الذي حدد فيه عقوبات على النظام السوري وبعض الأشخاص فيه.
أيضاً، لا يمكن التعرف الى تاريخ سوريا، وقصة علاقة النظام بشعبه، والى الهول السوري الكبير، من دون التعرف الى تاريخ السجون والمعتقلات السورية، أي السجون الرسمية والسجون غير الرسمية (في أقبية أجهزة المخابرات)، التي تعد بالعشرات، وذلك في حكايات السوريين، وشهاداتهم عن السجن السوري، وخصائصه الفظيعة، ما تجلى في شهادات أو روايات من عاشوها، أو كتبوا عنها. ويأتي في ذلك على سبيل المثال: “القوقعة، يوميات متلصص” لمصطفى خليفة، و”ناج من المقصلة” لمحمد برو، و”الشراقة” لسعاد القطناني (التي أعدت أيضاً برنامج “يا حرية” الذي وثق في حلقاته التلفزيونية شهادات عشرات المعتقلين في السجون السورية في مبادرة هي الأولى من نوعها)، و”خمس دقائق وحسب! تسع سنوات في السجون السورية” لهبة الدباغ، و”أجنحة في الزنزانة” لمفيد نجم، و”ماذا وراء هذه الجدران” لراتب شعبو، و”الشرنقة” لحسيبة عبدالرحمن، و”عينك على السفينة” لميّ الحافظ، و”نيغاتيف” لروزا ياسين حسن، و”نفق الذل” لسميرة المسالمة، و”قهوة الجنرال” لغسان الجباعي، و”تقاطع نيران” لسمر يزبك، و”خيانات اللغة والصمت” لفرج بيرقدار، و”بالخلاص يا شباب، 16 عاماً في السجون السورية” لياسين الحاج صالح، و”كمن يشهد موته” لمحمد ديبو.
الملاحظة هنا أن معظم تلك الكتب أو الشهادات، كتبت عن السجون في مرحلة ما قبل الثورة السورية (فترة الثمانينات والتسعينات)، أي أنها لأفراد جرى حرمانهم من حريتهم، والتفنن في تعذيبهم، وإذلالهم، لمجرد رأي، وكجزء من نهج اعتمده النظام لتدجين مجتمع السوريين وتخويفه وإخضاعه. وهو ما لفت إليه برهان غليون، في تقديمه لشهادة محمد برو (ناج من الجحيم)، بقوله: “لا يشبه معتقل الغولاغ في الحقبة السوفياتية، ولا غوانتانامو الأميركي، ولا سجن أبو غريب في العراق، إذ كانت وظيفة تلك المعتقلات إخراج المعتقلين من عالم السياسية والمجتمع وكسر معنوياتهم وتركهم يهلكون فيها، أما معسكرات الاعتقال السورية، وأشهرها معتقل تدمر، فلا تدخل في أي من تلك التصنيفات، فهي أشبه بمعسكرات الاعتقال النازية، التي لم تصمم لحجز المعارضين وتحييدهم، ولكنها أقيمت لإبادة جماعات قومية أو دينية”.
ورغم أن غليون يعتبر أنه “لا ينبغي لهذا التشابه أن يغيّب… الفوارق الأساسية الأخرى التي تجعل من معسكر الاعتقال الأسدي نموذجاً فريداً من نوعه… فبينما تكاد الوظيفة الرئيسة لهذه الأخيرة (للمعتقلات النازية) تقتصر على التنظيم العقلاني بل الميكانيكي لهذه الإبادة الجسدية بعيداً من أي مشاعر أو عواطف أو اعتبارات أخرى، سوى القضاء على أكبر عدد من غير المتجانسين بأسهل وسيلة وفي أقصر ما يمكن من الوقت، يركز العمل في المعتقلات الأسدية على الإبادة النفسية أو الروحية لغير المتجانسين فرداً فرداً، بإطلاق كل ما تختزنه النفس الحيوانية لدى الجلادين من منابع الحقد واللؤم والنذالة والانتقام”.
ويفسر غليون ذلك بقوله: “ليس الموت هو ما يبحث عنه الجلاد هنا، وإنما استحالة الحياة، أو جعل الحياة مستحيلة من دون أن يكون الموت ممكناً، إنه العذاب… لا حاجة هنا الى غرف غاز تقضي على المدانين بالجملة، ولا الى محارق تخلي أماكنهم لوجبة أخرى. يتصرف الجلاد هنا وكأن الضحية عدوه الشخصي ويصر على أن يظهر في وجه خصمه كوحش مفترس لا تربطه أي صلة بالإنسانية… هكذا لا يتوقّف العذاب أبداً… لا يوجد جواب شافٍ على هذا السقوط في العدمية السياسية والأخلاقية”.
وكما قدمنا فإن تلك المجزرة هي جزء من صورة كبيرة، أو من مجاز كثيرة، شهدتها قرى سوريا وبلداتها ومدنها، ربما بدأت بداية في التريمسة والقبير والحولة حيث استخدمت ميليشيات النظام الأسلحة البيضاء (صيف 2012)، وامتدت إلى بانياس والرستن، ثم إلى دمشق وما حولها ودوما والزبداني والقابون وبرزة والمعضمية وداريا، وحمص وحلب ودرعا.
المهم أن كشف تلك المجزرة فتح ذاكرة السوريين مجدداً على كل تلك الآلام والفظائع التي عاشوها خلال السنوات الماضية، وربما أن هذا سيتكرر عند الكشف عن كل مجزرة أخرى، لا سيما مع بقاء مأساة السوريين على حالها، بغياب أي أفق لتغيير سياسي، يأتي بنوع من عدالة انتقالية مرتجاة.
المصدر: النهار العربي