السوريون والموت دون ضجيج

مالك داغستاني

مضى أكثر من شهرين على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، والأخبار الآتية من هناك تؤكد أنّ أمد الحرب قد يكون طويلاً. في الحروب الطويلة يخسر الجميع. مما هو محزن، أن السوريين، رغم البعد الجغرافي نسبياً، قد يكونون إحدى الجهات الخاسرة، ولعلهم سيحلّون كشعبٍ في المرتبة الثانية، بعد الشعب الأوكراني مباشرةً. هل أبدو، على عكس كثيرين، متشائماً؟ ربما، وكنت أتمنى لو أن هناك أية إشارات تجعل الحال غير ذلك. إضعاف روسيا قد يؤثر في معادلات الأرض هنا. لكنه لن يقدم للسوريين أية خطوة نحو تحقيق حلمهم.

من يحقق ذلك هم السوريون أنفسهم، وهو ما لم يفعلوه كمعارضة، تتنطع لتمثيل السوريين، خلال عقد كامل. بل ومن المخزي، أن صراعهم البيني، اشتدّ خلال الأشهر الأخيرة، في أثناء الحرب الأوكرانية، التي اعتقد البعض أنها قد تحرك الملف السوري المُجمَّد. كل ذلك يحدث حولنا، بينما يتبارى فريقا الائتلاف السوري في إصدار البيانات في محاولة لكسب شرعية شعبية، فطنوا لأهميتها حديثاً، رغم أنهم لم يمتلكوها يوماً.

مشكلة السوريين لم تكن في الوجود الروسي. كانت قبله، وستبقى بعده، في حين لو ذهبنا إلى أقصى النتائج المحتملة، وانتهى هذا الوجود على الجغرافيا السورية، وهو أمر مستبعد. السوريون لم يوفقوا بتصدير أي جسم كمعارضة وثورة، ليكون بديلاً مقبولاً دولياً للأسد. هل المشكلة أعقد من ذلك؟ نعم، مثلكم جميعاً، أعلم ذلك جيداً. ولكن هذه كانت وستبقى واحدة من أهمها.

حين قدّمت تركيا نفسها كوسيط دوليّ بين الروس والأوكرانيين، كانت تسعى لسلامٍ، بديلهُ حتماً حربٌ هي طرفٌ فيها، لو امتدت وتوسعت. هذه الحتمية تفرضها حقائق كثيرة أهمها عضويتها في الناتو، وموقعها الجغرافي، والملفات الإقليمية المرشحة للمساومة بين الروس والأميركيين. استضافت مدينة أنطاليا لقاءً جمع بين وزير الخارجية الروسي ونظيره الأوكراني. تبع ذلك لقاء أوسع بين وفدين من البلدين. كان الأتراك حريصين على تحقيق أي تقارب بين المفاوضين الروس والأوكرانيين، وبدا واضحاً للجميع أنّ الرّوس يفاوضون في سبيل كسب الوقت فقط، لذا كان لا بد للدول من استخدام ملفات أخرى للضغط على بوتين ونظامه.

تردد اسم سوريا في نشرات الأخبار والتحليلات، مرتبطاً بأخبار أوكرانيا. لم يحدث ذلك بهدف إيجاد حل لمأساة ما زال العالم يتابعها ببرود منذ سنوات، وإنما بدا الأمر وكأنه ورقة ضغطٍ محتملة. هنا تماماً كان على السوريين أن يتوجسوا من مخاطر جديدة قد تزيد من تعقيد الصراع الدولي على أرضهم. اعتاد السوريون وألِفوا أن لعبة مصالح الفرقاء، غالباً لم تأخذ مصالحهم بعين الاعتبار، ليس كشعب ثار على نظام الأسد وحسب، بل حتى لم تأخذ مصالح الأسد نفسه. وهذا ما أصبح مفهوماً على طول الخط في الحالة السورية.

نهاية آذار/مارس الماضي، ذكرت وكالة رويترز للأنباء، أنّ مسؤولين من تركيا وإسرائيل يبحثون، مشروعاً لمدّ خطوط أنابيب، تحت مياه البحر المتوسط، لنقل الغاز الإسرائيلي من حقل “ليڤياثان” إلى موانئ تركيا الجنوبية، ليتدفق بعدها نحو أوروبا، بديلاً عن إمدادات الطاقة الروسية. رغم أن الفكرة تعود لسنوات مضت، إلا أن محللين سياسيين قرؤوا إعادة إحيائها اليوم، على أنه إشارة تدل على تبدّل قادم في خريطة التحالفات. بعد بضعة أيام فقط، أكدت الأخبار القادمة من الولايات المتحدة وجاهة تلك القراءة. نشرت وكالة رويترز للأنباء بتاريخ 6 نيسان/إبريل الحالي رسالةَ توصية من وزارة الخارجية الأميركية، إلى الكونغرس جاء فيها: “إن إدارة الرئيس بايدن تعتقد أن بيع طائرات F16 المحتمل لتركيا، يتماشى مع مصالح الأمن القومي الأميركي، ويخدم وحدة حلف شمال الأطلسي وخططه على المدى الطويل”. كانت الحكومة التركية قد طالبت بشراء تلك الطائرات منذ عدة أشهر، حتى أن الصفقة كانت من بين الملفات التي بحثها الرئيسان الأميركي والتركي في محادثات روما التي جمعت بينهما. حينذاك كان القرار، حسب بايدن، يحتاج إلى دعم الكونغرس.

بعض الأطراف المتصارعة في أوكرانيا، موجودة على التراب السوري، لذا بدأ السوريون يتلمسون أنهم أصبحوا جزءاً من المعركة، بل ربما تصبح بلادهم مسرحاً لصراعٍ مباشر قد تسببه التبدلات الطارئة في خريطة التحالفات.  في السادس عشر من نيسان/إبريل، استقبل الرئيس التركي أردوغان، رئيس وزراء إقليم كردستان العراق مسرور بارازاني. مما ورد في بيان صادر عن حكومة إقليم كردستان عن نتائج الزيارة حديثٌ عن “توسيع آفاق التعاون من أجل أمن المنطقة واستقرارها”. بعدها بيومين فقط أعلن الجيش التركي عن البدء بعملية “قفل المخلب” ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، ووجه ضرباته للحزب في الزاب وباسيان في جبال قنديل.

قبل بدء العملية التركية بيوم واحد، أي في 17 نيسان الحالي، وصل إلى تركيا وفد أميركي برئاسة السيناتور ريتشارد شيلبي. حول أسباب الزيارة، أجرت قناة “خبر تورك” لقاءً مع القائد العام السابق لقوات الجيش الأميركي في أوروبا “بن هودجز”. مما قاله الجنرال المتقاعد: “أعلم أن هذه الكلمات قد تفاجئ الأتراك، لكن يجب أن نعترف بخطئنا. دعمنا حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب بالأسلحة بهدف التصدي لداعش.. هذا الأمر كلفنا ضرراً كبيراً في علاقتنا الاستراتيجية مع تركيا، وهي الأهم بالنسبة لنا. التزاماتنا القانونية لا يصح أن تكون إلا مع تركيا، شريكنا في حلف الناتو منذ عام 1952 وحتى الآن”.

لم يتأخّر ردُّ حزب العمال الكردستاني على استهداف  الأتراك لكوادره في شمال العراق، فبعد يومين فقط بدأت قوات سوريا الديمقراطية تصعيداً واضحاً، فقصفت اعزاز والراعي وجرابلس الواقعة شمال محافظة حلب السورية، لتردّ المسيّرات التركية فوراً بضرب مقار قسد في تل تمر والقامشلي وكوباني.

بعد توقفٍ غير معهود، بدأ الطيران الروسي، منذ 20 نيسان الحالي، ينفّذُ غارات، على شمال وشمال غرب سوريا، وفي تصعيد جديد له دلالات، نفذ الطيران الروسي غارات بالصواريخ على مدن دارة عزة وترمانين غربي محافظة حلب، وعلى محيط مدينة عفرين. آخر الأخبار كان تصريح وزير الخارجية التركي، جاويش أوغلو، السبت 23 نيسان الحالي: “لقد أغلقنا مجالنا الجوي أمام الطائرات الروسية العسكرية والمدنية التي تحمل جنوداً ومعدات عسكرية متجهة إلى سوريا”. أكد أوغلو أنه كان تباحث مع نظيره الروسي حول القرار. خط الحياد المُضني الذي تتبعه تركيا، واضح في كل خطوة، وسوف يستمر إلى حين وضوح ورسوخ العلاقات التركية مع الغرب وعودتها إلى سابق عهدها، وهو ما لن يحدث إلا بعد زمن، فيما لو حدث.

لن يحلق طيران  بوتين بعد اليوم فوق تركيا؟ حسناً، ولكن ماذا عن سوريا؟ لا يبدو أن هناك مصلحة لأحد في حرمان بوتين من هذه الأجواء، حتى الآن على الأقل. هنا بإمكان مجرم الحرب، حسب بايدن، أن يقتلَ ما شاء من السوريين، دون خوف من أي تبعات حتى على الصعيد الاقتصادي، فقتل السوريين لا يحتاج طيرانا حديثاً جداً، ولا سلاحاً دقيقاً مكلفاً. يستطيع الطيران الروسي أن يرمي عليهم أي شيء يريده، بما في ذلك، البراميل المتفجرة، لو أراد استعارة بعضها من نظام الأسد، على سبيل الاقتصاد. أنكر الآخرون على السوريين أية ميزة خلال السنوات الأخيرة، باستثاء واحدة، لا يستطيعُ حتى الجاحدون إنكارها، وهي أنهم لا يسببون أي ضجيج دولي أو إعلامي حين يموتون.

خوف بعض السوريين مما يجري الآن، ليس نوعاً من جنون الارتياب. كل ما في الأمر أن سنواتٍ عشر من الخذلان والصمت الدولي، دربتهم على قراءة السياسة دون حسن ظن مسبق، بأي طرف كان، حليفاً  أم عدواً. وأنّ ذكر وطنهم سوريا ربطاً مع الحرب الأوكرانية، لا يعني عودة قضيتهم للنور، بل، على الأرجح، تغير لمصالح وتحالفات الآخرين على أرضهم. الكلُّ تعنيه سوريا، لكن ليس بالضرورة السوريين.

اليوم ليس أمام السوريين، الذين لا يمتلكون أي تمثيل حقيقي سياسي أو عسكري، إلا الانتظار مجدداً. أوكرانيا قد لا تكون الحلقة الأخيرة، من المسلسل الروسي، كما أوحت للبعض أحلامهم، أو دفعهم إليها إيمانهم بأن عدالةً ما يجب أن تتدخل. لا عدالة بدون فعل سوري حقيقي، ينزع عنهم ميزتهم الفريدة، الموت دون ضجيج.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى