لم تنفصل كل سياسات الهجرة وتحديثاتها في تركيا بشأن الوجود السوري عن الاستحقاقات المحلية والدولية، وهذا أمر يفهمه السوري في تركيا جيدا وبات قادرا على توقع مجرباته بشكل دقيق. السوري الذي منع الآن من إجازات العيد التي تعني لعشرات الآلاف فرصة وحيدة لقضاء حاجيات ملحة، ليست بالضرورة ترفاً وسياحة.
وفي هذا التقرير نستعرض حكاية اللجوء السوري وتعامل الحكومة والمعارضة معه، والأسباب التي ذكرها 22 شخصا التقاهم موقع تلفزيون سوريا للحديث عن أسبابهم لقضاء إجازات العيد، سنذكرها لاحقاً في نهاية التقرير.
سياسة الأبواب الموصدة وانعكاسات الديناميكيات المحلية على السوريين
كانت تسمية سياسة “الأبواب المفتوحة” في تركيا أمام السوريين مطبقة حرفياً منذ بداية الثورة السورية وحتى الربع الأول من العام 2015، عندما بدأت تغلق تدريجيا أمام السوريين من حملة جواز السفر الذين كان بوسعهم دخول تركيا متى أرادوا والعودة إلى سوريا التي بات شمالها كاملاً تحت سيطرة المعارضة.
الإغلاق جاء حينئذ قبل ثلاثة أشهر من انطلاق الانتخابات البرلمانية التي شهدت استقطاباً حاداً جداً، ففي حين كان حزب العدالة والتنمية ينادي بالرفاه والاقتصاد الفولاذي وحلم 2023، ظهرت أولى أصوات المعارضة الرافضة للوجود السوري الذي سجل حينئذ مليونين و500 ألف سوري في تركيا الخاضعين للحماية المؤقتة.
قالت الحكومة إنها أغلقت المعابر بسبب سيطرة تنظيم الدولة على جزء من الأراضي شمالي سوريا، وخوفاً من انفلات أمني وتسلل أعداء البلاد عبر المعابر وتنفيذ هجمات في طوابير الناخبين.
انتهى زمن الباب المفتوح، وأتذكر حينئذ مرة أنني دخلت من معبر باب الهوى رغم أنني لا أحمل جواز سفر سورياً، فتح لي الشرطي التركي البوابة وقال “تفضل”. كانت كلفة الحصول على جواز السفر حينئذ لا تتجاوز الـ 10 آلاف ليرة سورية، أما الآن فتبلغ 3 ملايين وربع المليون ليرة سورية. كان كل شيء سهلاً جداً.
جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية صادمة للعدالة والتنمية الذي فشل في الحصول على أغلبية مطلقة في البرلمان (الثلثين)، ما يعني عدم إمكانية تطبيق شعار “تركيا الجديدة” وتغيير الدستور ونظام الحكم. وهو سبق أن فاز منذ 2002 في 9 استحقاقات انتخابية وشكَّل بمفرده أربع حكومات في ثلاث فترات برلمانية. وكذلك ولأول مرة يدخل حزب الشعوب الديمقراطية الكردي البرلمان بحصوله على 12%.
الأعوام الـ 13 الذهبية للعدالة والتنمية كانت بين 2002 و 2015، حيث تضاعف إجمالي الناتج المحلي للبلاد ثلاث مرات، ثم تباطأت العجلة الاقتصادية مطلع 2015، وتراجع أداء الليرة وازداد التضخم وارتفعت أسعار المواد الغذائية.
بدا أن إغلاق المعابر وإنهاء سياسة “الباب المفتوح” لم تعد بالفائدة على العدالة والتنمية، فلا كسب الانتخابات ولا تحسن الاقتصاد والليرة والتضخم، ولا سكتت المعارضة في حديثها عن سياسات الحكومة التركية في اللجوء السوري.
أبقت تركيا على سياسة الإغلاق وعززتها في آذار من العام 2016 باتفاق مع الاتحاد الأوروبي بإبقاء طالبي اللجوء لديها مقابل الحصول على 6 مليارات تدعم السوريين والأتراك على حد سواء، وكذلك تخفيف شروط منح تأشيرات الدخول للأتراك، وتوسيع الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي.
وما إن بدأت أوروبا بضخ الأموال إلى تركيا حتى أطلقت تركيا عمليتها الأولى داخل الأراضي السوري “درع الفرات” في آب 2016 ضد تنظيم الدولة، بعد أن فشلت في تطبيق منطقة آمنة أو منطقة حظر طيران. وبعدها بـ 4 أشهر انتهت معركة حلب الكبرى بسيطرة النظام عليها وتهجير عشرات الآلاف منها.
حتى نهاية 2017 بلغ عدد السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة 3 ملايين ونصف المليون، يعني زيادة مليون سوري خلال عامين. هؤلاء دخلوا بطرق غير شرعية عبر الحدود البرية بين تركيا وسوريا، وكانت تركيا بالنسبة لجزء كبير من هؤلاء مجرد محطة للوصول إلى أوروبا، لكن اتفاق 2016 حال دون وصولهم وبقوا في تركيا.
مع فقدان المعارضة سيطرتها على الجيوب في وسط وجنوبي وشرقي سوريا عام 2018 وتهجير النظام وقسد وتنظيم الدولة لمئات آلاف السوريين، وزيادة وتيرة القصف الكثيف على كامل شمالي سوريا، استمرت حركة السوريين نحو تركيا عبر خطوط التهريب الخطيرة التي راح فيها مئات الأشخاص برصاص حرس الحدود التركي، وتعرض الآلاف للضرب المبرح قبل إعادتهم إلى سوريا.
وفي العام 2018 ظهر لأول مرة تصريح الحكومة بشأن صرف 40 مليار دولار أميركي على السوريين، وأن الاتحاد الأوروبي لم يفِ بوعوده، ولم تقدم الحكومة لا حينئذ ولا حتى الآن فواتير الـ 40 مليار وأين صرفت، علماً أن السوريين لا يتلقون مساعدة تذكر، والقسم القليل جدا الذي يتلقى دعما بمئات الليرات التركية فقط، يحصل عليها من الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأوروبي يدفع تكاليف تعليم وعلاج السوريين وغيرها من الخدمات.
لكن تكرار أردوغان الحديث عن الـ 40 مليار في العام 2019، ثبت “التهمة” على حزبه، ولم تفلح كل جهود الإعلام في توضيح حقيقة ما صرف على السوريين لتهدئة الشعب التركي الذي يشاهد عملته تفقد قيمتها مع مرور كل عام ويزداد التضخم وترتفع الأسعار. وعلى الصعيد الخارجي راحت المعارضة تحرّض على العدالة والتنمية ليغير سياسته الخارجية التي شابهتا توترات كبيرة مع مختلف اللاعبين الدوليين والإقليميين، وتعرض تركيا لعقوبات أميركية نتيجة خلافات متتالية.
ويبلغ عدد السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة في تركيا الآن 3 ملايين و761 ألفاً. ما يعني زيادة قدرها نحو مليون من العام 2016، ومليوناً وربع منذ العام 2015 عندما أغلقت المعابر البرية.
وترجح الإحصائيات وجود نحو 5 ملايين سوري بين خاضعين للإقامة المؤقتة وأولئك الحاصلين على الإقامة السياحية أو إقامة العمل، حيث وصل إلى تركيا كثير من السوريين الذين كانوا في دول الخليج والدول العربية، بعد أن حصلوا على الفيزا التركية ومن ثم الإقامة التي يجددونها كل عام، وبالتالي تجديد جوازات سفرهم.
إجازات العيد
كان عيد الفطر عام 2014 أول الأعياد التي دخل فيها السوريون لقضاء إجازة لأيام معدودة في سوريا والعودة إلى تركيا، واستمرت العملية حتى عام 2020 حيث تسببت جائحة كورونا بإغلاق المعابر، وما إن عادت إجازات العيد وانتهت الجائحة، حتى وصل زج السوريين إلى ذروته في خطاب المعارضة التي نفضت كفيها من أي وعود كبيرة سوى طرد السوريين أو في خطاب أخف وطأة: “تشجيعهم على العودة الطوعية”.
وفي العام 2021 خسرت الليرة التركية نحو 50% من قيمتها ووصلت لسعر قياسي أمام الدولار وصل إلى عتبة الـ 20 ليرة لينخفض بعد إجراءات حكومية مكثفة إلى 14.5 لتستقر على هذا السعر منذ نهاية العام 2021.
عملية الإجازات إلى سوريا دخلت في ولاية غازي عنتاب الجنوبية مرحلة أكثر تطوراً فبات مسموحا للمقيمين في الولاية التقديم على إذن للدخول إلى سوريا لقضاء إجازة لأيام معدودة، وعاش السوريون على أمل أن تنتشر هذه المنحة في كل الولايات، لكن ذلك لم يحصل.
قبل أيام فتحت معابر باب السلامة وجرابلس والراعي الباب للتسجيل كما كل عام على إجازات العيد، فاحتدم النقاش مجددا بين الحكومة والمعارضة بشأن السوريين، وظهرت الترندات على السوشال ميديا مجددا بعد هدوء استمر أشهراً عدة.
وما إن دخلت المجموعة الأولى من السوريين لقضاء إجازة العيد حتى خرج وزير الداخلية التركي سليمان صويلو بإعلان إنهاء الإجازات، مستجيباً لدعوات المعارضة ودعوة الحزب الحليف الحركة القومية MHP الذي أصدر دراسة بشأن الوجود السوري وآليات التعامل معه. وجاء في أحد بنودها إيقاف إجازات العيد للسوريين لأن ذلك يعني للشعب التركي أن سوريا بلد آمن ولا داعي لبقاء السوريين في تركيا.
وسبق ذلك حملة لوزارة الداخلية للتفتيش على منازل السوريين والتأكد من عناوين السكن، حيث لا تسمح تركيا لحملة بطاقة الحماية المؤقتة في العيش إلا في ولايته التي استخرج فيها بطاقته، ونتج عن ذلك تجميد عشرت الآلاف من البطاقات.
فسّر السوريون تصريح صويلو بأنه بداية التعامل الجديد مع السوريين قبل معركة الانتخابات الرئاسية، وتسبب ذلك بقلق كبير في أوساطهم، وراح يفكر كثيرون في الهجرة إلى أوروبا أو العودة إلى سوريا، حيث من المحتمل أن يعثر العائد على منزل يؤويه، في حين سيكون ذلك مستحيلا في حال حدثت حملة طرد جماعي.
وجمّد كثير من التجار والصناعيين الذين افتتحوا في تركيا آلاف الشركات أعمالهم، لحين توضّح الصورة.
وراح آخرون يسعون جهدهم لفتح شركات أو التسجيل في جامعات لتعزيز حظوظهم في الحصول على الجنسية التركية.
لماذا يريد السوريون إجازات العيد؟
رجل أربعيني دخل تركيا عام 2017 للحصول على عمل في معمل يمتلكه تاجر سوري، مقابل 4000 ليرة تركية، فيعيش بظروف سيئة بنصف المبلغ ويرسل النصف الثاني لعائلته وأبويه وعائلة أخيه الذي قتل في إحدى المعارك مع قوات النظام. العائلة تعيش جميعها في خيمتين.
لا يوجد لديه فرصة لرؤية أبنائه إلا في إجازة العيد، ولا يستطيع قضاء إجازة العيد أكثر من مرة في العام لأنه لا يستطيع الحصول على إجازة من صاحب العمل إلا أياماً قليلة.
شاب في الـ 19 من العمر دخل تركيا بطريقة غير مشروعة عام 2019 للعمل وإعالة عائلته. وأصيب والده بسرطان الرئة وأخبره الأطباء أن حالته حرجة جدا، ورغم محاولاته الحثيثة لحجز موعد إجازة العيد، وحصوله على موعد بشق الأنفس، توفي والده قبل 5 أيام من موعد دخوله فدخل إلى سوريا لحضور الجنازة وزيارة قبره والتخفيف عن والدته وإخوته الأطفال.
شاب في الـ 28 من العمر مهجر من ريف دمشق، دخل إلى تركيا عام 2018 لإكمال تعليمه الجامعي وإعالة نفسه من خلال العمل الحر. تعيش عائلته في مخيم للمهجرين.
شاب في الـ 30 من العمر من ريف إدلب، يعمل في الزراعة، حاول كثيرا الحصول على عروس في تركيا لكن المهر المطلوب كان يفوق قدراته بكثير.
عرضت عليه والدته الزواج من إحدى قريباته، وأن يسعى لإدخالها إلى تركيا عبر خطوط التهريب.
تزوج الشاب في إجازة العيد وفشل في إدخال زوجته، وعاد إلى تركيا.
فرصته الوحيدة للعيش مع زوجته ستكون في إجازة العيد القادمة.
رجل خمسيني نزح من ريف حماة في العام 2013 مع احتدام المعارك هناك، فقد اثنين من أبنائه، أحدهما كان مقاتلا في صفوف المعارضة والآخر بقصف لقوات النظام.
دفن الشابان في ريف إدلب الجنوبي، ولذلك كان يدخل كل عام ليزور قبريهما. بعد العام 2019 سيطرت قوات النظام على القرية التي دفن فيها الشابان والتي كانت تبعد 2 كليومتر عن قاعدة للجيش التركي.
الآن لا حاجة للأب للذهاب إلى سوريا. فقد كل شيء.
رجل في الـ 44 من العمر خسر كل ما يملك من مال في تجارات خاسرة في تركيا، ولم يعد بإمكانه متابعة عمله، إلا في حال باع منزله وقطعة أرض يملكها.
ذهب إلى ريف حلب وباع الأرض بثمن بخس وعاد إلى تركيا للمحاولة مجدداً
شابة في الـ 22 من العمر، تدرس في الجامعة، وكانت تخطط للذهاب إلى سوريا مع شقيقها الذي يعمل في ولاية أخرى.
تعرضت والدتهما لأزمة قلبية حادة ولم يقبل معبر باب الهوى إحالتها إلى تركيا لتلقي العلاج. لم يستطع الشاب الحصول على إجازة وهدده رب عمله التركي بفصله في حال تغيب عن العمل.
دخلت الشابة وحدها ولم يرَ أخوها والدته وأهله منذ 5 أعوام.
صاحب معمل بلاستيك، يعمل لديه أكثر من 40 موظفاً نصفهم تقريباً من الأتراك. يرغب في الذهاب إلى سوريا لرؤية الواقع الصناعي بأم عينيه، ولديه رغبة بنقل معمله إلى الشمال السوري بعد أن سمع بافتتاح تركيا والمجالس المحلية في المنطقة مدناً صناعية مجهزة بكل ما يلزم.
تاجر مواد غذائية أربعيني يملك شركة في تركيا وفرعاً في الداخل السوري ويصدر شهرياً ما يزيد على 50 ألف دولار. يزور سوريا لاستطلاع السوق ومقابلة زملائه التجار لتحسين عمله، وزيادة تصدير المواد الغذائية المنتجة تركياً.
شاب ثلاثيني يعمل في قطاع العقارات ويجلب زبائن عربا يرغبون في الحصول على الجنسية التركية من خلال تملك شقق سكنية. يذهب في كل إجازة عيد لزيارة أهله وهم يعيشون في حال جيدة.
رجل أربعيني لجأ إلى تركيا منذ العام 2016 ورزق في تركيا بولدين. ذهب مرتين إلى سوريا لقضاء إجازة العيد ليُفرح والديه الكبيرين في العمر برؤيته هو وأطفاله وزوجته.
أما بقية من قابلهم موقع تلفزيون سوريا فلا يوجد لديهم حاجة طارئة كما ذكر سابقاً، وعبّروا جميعهم عن أهمية فرصة إجازة العيد بالنسبة لهم لرؤية أهلهم وأصدقائهم وقضاء الأعياد مع الأقارب والأصحاب بدل أن يكونوا وحيدين في منزلهم في تركيا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا