وردٌ الخريف

 عبد الحفيظ الحافظ

الوردُ لا يُجنى من القُطْرُب والخمرُ لا يُعصرُ من الأشواك – جبران قصة قصيرة

عندما خاطبت الطالبةُ الجامعيةُ القاصَ صاحبَ المكتبة باسمه على أجنحةٍ مبللةٍ بالشوق الأنثوي، ردَّ بصوتٍ دافئٍ : – ماذا تطلبين اليومَ يا ابنتي ؟. أمعنت الفتاةُ النظرَ في وجهِه وسألتْه بدلالٍ : – مَنْ يختارُ لكَ ثيابكَ يا سيدي ؟. فأنتَ تبدو بها في ريعان الشباب ، وهي تعبِّرُ عن ذوقٍ مُرْهَف . – عن أي شبابٍ تتحدثين يا آنسة ؟. لقد تخطيتُ السبعين منذ أشهرٍ ، ولمْ تعدْ الثيابُ تصلحُ ما أفسدُه الدهرُ ، ولا العطار . أخرجت الفتاةُ بعضاً من الكتبِ من الرفوف ، وقلَّبتْ أوراقَها بحنانٍ ، وأطلقتْ نوارسَ لحظِها، لتطوفَ في سماءِ عيني القاص ، ثم انقضَّت عليه بالأسئلة : – ألستَ القائلَ في إحدى قصصِكَ : العينُ مغرفةُ الكلام ؟. فلمَ لا تجيبُ عن أسئلةِ عينيّ ، وتصمُّ أذنيكَ ولا تسمعُ وجيبَ قلبي . لاذ الأديبُ بالصمت ، فاشترت الفتاةُ بعض الكتب ، واختارتْ مجموعةً قصصيةً جديدة له ، وذهبت محذرةً: انتظرني أيها القاص ، لن أغيبَ طويلاً . – هدأتْ روحُ الكاتب ، واطمأنتْ نفسُه بعدَ خروجِ الفتاة ، وتلاشى صدى خطواتِها ، لكن طيفَها المتشحَ بعطرِها أقامَ ساعاتٍ بين الكتب. وصلتِ الأديبَ بعدَ أيامٍ رسالةُ الفتاةِ الأولى على صفحةِ هاتفِه النقال: جلستُ مع ابنة عمي على شاطئ البحر في مدينتي ، وقرأنا ما كتبتَ ” طرطوس ابنةُ الجبلِ التي عشقت البحر ، فارتمت في أحضانه ” دعني يا صديقي أحبُكَ وأرتمي في أحضانكَ .. لقد علمتني كيف أتأملُ البحرَ بعيني عاشق ، شاعر يمسكُ بهما موجةً ، يلاحقُها حتى تضربَ وجنتي صخرةٍ ، وتتلاشى زبداً ثلجياً ، غصتُ معكَ ببصري في قاعِ الشاطئ ، فشاهدتُ لأول مرةٍ ما أخفتْه الصخورُ من أجزاءَ عاريةٍ من جسدِها البديع . أشواقُ فتاةِ المكتبة.. مرَّتِ الأيام ، وكادَ الأديبُ أن ينسى تلك الفتاة ، وفجأةً أطلتْ من البابِ ، يتقدمُها عطرُها حاملةً بيدٍ وردةً حمراء وبالأخرى المجموعةَ القصصيةَ الأخيرة ، وقد وضعتْ قصاصاتٍ ورقيةً بين ضفائرِها . ألقتْ تحيةَ الصباح ، وقدمتْ بأدبٍ جم الوردةَ هامسةً : – ضعْها في حضنِ كأسٍ حنونٍ ، ولا تدعْها تذبل ، فالقدرُ لا يغفرُ وأدَ الورود ؟. أدركَ الحياءُ وجَه الأديب ، فدعاها للجلوس ، وحضَّر فنجانين من القهوة ، وكان يداري ارتباكَه في حضرةِ حفيدة حواءَ ، محدثاً نفسه : – يا إلهي ارحمني ونجني من هذه الأنثى ، من أي كوكبٍ هبطت إنانا وأنا في خريف العمر؟. إن هذه الوردةَ في عمرِ حفيدتي ، وفي البيتِ تقيمُ عشتارُ التي أحب ، وهي تلهو الآن مع أحفادنِا تنتظرُ عودتي بشوق .. قطعتْ عليه الفتاةُ حبلَ أسئلتِه البكماء : – لاشك أنكَ أحببتَ بصدقٍ في حياتكَ ، بل أقسم أنكَ خضْتَ في بحورِ العشقِ المجنون ، تحملُ على كتفيكَ حزنكَ الدفين ، هذا ما يحسه قارئُ قصصِكَ .. – مهلاً يا ابنتي ، باركتُ بالأمس لحفيدتي خِطبتَها ، وأنا أتمنى لكِ خطبةً وحباً مع مَنْ في عمركِ . – لمَ تهربُ يا سيدي من أسئلتي ، لمَ تعكرُ صفوُ فرحتي وحنيني إليكَ بتذكيري بفارقِ السنِ فيما بيننا، فأنا أحلمُ بكَ باليقظةِ وفي الحلم ، فوجهُك الملائكيُّ لا يفارق صفحاتِ كتبي ، وأنا أنثى لا تفوتني مشاعرُك المكبوتةُ نحوي ، فهمسَ فؤادي : – أما أنا فقد اختلطتْ عليّ صورتُكِ في الحلم ، مرةَ أراكِ إنانا الربةَ الطاهرةَ الباكية ، ومرةً أراكِ الحيةَ التي تقيمُ في أصلِ شجرةِ الحياةِ ، ومرات تتحولين إلى ليليث أو طائر الزو ..فمن أنتِ يا فتاةَ المكتبة – ماذا وجدتِ في هذه المجموعة القصصية ؟. تنهدت بعمق .. – وجدتُ الحبَ الصافي ، الذي تخفيه الآن عني ، رأيتُ العلاقةَ الإنسانيةِ بأجملِ صورِها وأقبحِها ، شاهدْتُ آدم و حواء عاريين ، وكلٌ منهما يبحث عن نصفه الآخر ؟. وهذه مشيئةُ الرب ، لا تسألني عن السياسة ؟. فهي التي هشَّمتْ جماليةَ قصصِكَ ، و كشَّمتْ سردَ حكاياتِكَ ، ثم بحثتْ بين سطورِ القصص ، وسألتْ كشرطي قبضَ على متهم : – ما قصةُ النهدِ في قصصِكَ وفي حياتِكَ ؟. فلا تخلو قصةٌ منه حتى خُيلَ إلي أنك تعيشُ حالةَ جوعٍ مزمنٍ للنهدِ وللأنثى ، لقد سكرتُ بخمر قصصِكَ المعتق ، وهي الشهادةُ أن روحاَ عاشقةَ تسكنكَ حتى هذا اليوم ، ألمْ تكتبْ على لسان ” دانتي ” : ” يومَ يسمحُ الإنسانُ للحبِ الحقيقي بأن يتجلى ، سوف تتزعزعُ الأشياءُ المقوْلبةُ ، ونمسي في فوضى الريبة بكل ما نعتقدُه يقيناً أو حقيقةً ” . دعنا يا سيدي نسمحُ لحبنا أن يتجلى ليزعزعَ الأشياءَ المقوْلبة في حياتنا ، لنمسي في فوضى الريبةِ بكل ما نعتقد يقيناً أو حقيقة .. قاطعها القاص : – أتمنى لكِ يا ابنتي السعادة ، وأن تجدي شاباً يليقُ بحبِكِ .. – لكنني أحببتكَ أنت ..كتبتَ في قصصك : أنا لا أخون صاحبي ، وأنا لا أطلبُ منكَ أن تخونَ صاحبَك، بل أن تحبَ مَنْ يحبُكَ ، لمَ لا تترجمُ قصصَ الحب بين آدم وحواء هذه المكتبةِ إلى حبٍ حقيقي لا حباَ على الورق.. – يا سيدتي تذكري فارقَ السنِ فيما بيننا ، فحملت الفتاةُ حقيبتَها ، وانطلقت .. في أديم الليل وهو بجانب زوجته وصلتْه رسالتُها الثانية : من حرِ أشواقي أكتبُ إليكَ : – عشتُ معكَ في المنفردة ، ولم أحاولْ الهربَ من كابوسِ السجنِ والمنفردةِ والقهر ، وخشيتُ على روحِكَ من العفن ، ولتبقى معكَ روحي متوثبةً تنشدُ الحياةَ والسعادةَ والحرية ، ولأقاومَ ذلَ انكسارِكَ ، دعني أشدَّ بتمردي وعنفواني أزركَ ، وأضمدُ جراحَكَ مع ” بهيرة ” ، وهذا بعضُ الدين في رقبتي ، ولن أغارَ منها ، لتخرجَ إلى الحياةِ لتدون من الذاكرة قصة حبنا ، كما كان ردُكَ لجميلِ بهيرة .. حنيني يدفعني لزيارتك قريباً .. مرت الأيامُ بطيئةُ الخطى ، أخذَ القاصُّ ينتظرُ فيها فتاةَ المكتبة ، فكان يحسبُ أن كلَّ صوتِ حذاءٍ يقتربُ من المكتبة هو صدى لخطواتِها ، فيهبُّ واقفاً متلهفاً أن تعبرَ من فتحةِ الباب ، حتى اعتقدَ أنها ذهبت ولن تعود. في صباحِ يومٍ نَديّ دخلت الفتاة ، تحملُ كعادتِها وردةً بيدٍ وبالأخرى المجموعةَ القصصية ، فملأت المكتبةَ بأريجِ عطرِها ، فرفعَ القاصُ عينيه عن أوراقِه ، وألقى بالقلمِ فوقَها ، ووقفَ راقصَ القلبِ محتضناً لأول مرةٍ يدها بحرارةٍ بين يديه . جلستْ تنتظرُ فنجانَ قهوتِها ، فلفتت الأوراقُ نظرَها ، فأخذتْ تقرأها ” وردٌ الخريف ” : قصة قصيرة : خاطبت الطالبة الجامعية القاص صاحب المكتبة باسمه على أجنحةٍ مبللةٍ بالشوق الأنثوي ، ردَّ بصوتٍ دافئ ، فتوقفت عن القراءة ، وشطبت ما قرأتْ ، ثم كتبتْ بقلمه : خاطبت الأنثى الأديب.. كانت عينا القاصِ لا تغادران وجهِها ، وعندما تسللتا إلى سهلِ صدرِها ، وجدَتا جَيبَ قميصِها قدْ أطلقَ العنانَ لهلالي نهديها ، فحدثَ نفسه : – في الملحمة السومرية ، دجَّنتْ منذُ سبعةِ ألف عامٍ غانيةُ المعبد أنكيدو المتوحشَ رفيقَ جلجامش ، فهل تدجنني هذه الأنثى وأنا في هذا العمر ؟. أم أسمعُ مع جلجامش بكاءَ إنانا الطاهرةَ فأسألها : – اخبريني لمَ يذرفُ هذا الجمالُ مثلَ هذه الدموع ؟. وعندَ سماعي كلماتِ إنانا المكتبةِ أسحقُ الحيةَ الإلهَ الشيطان عندَ أصلِ الشجرة ، وفي قمتِها سيهربُ طائر الزو مع فراخه نحو الجبالِ ، وستنقضُ ُليليثُ بيتَها وتهربُ إلى الصحاري ، وربما ستمنحني إنانا حقَ صناعةِ الآلتين الموسيقيتين بكو ومكو .. فأطفأتْ القهوةُ شعلةَ الغاز بين يديه …التفت إليها مخاطباً : – يا الله كم أنتِ جميلةٌ وشهيةٌ يا فتاتي .. – أراكَ اليومَ تخونُ صاحبكَ كما خنتَ حبَنا ، وقد حولتَه إلى قصةِ حبٍ على الورق ، كم اشتهيتُكَ أيها الأديب ، لكنك رفضتَ أشواقي ، وأطفأتْ برودتُكَ تنور عواطفي ، فاذهبْ أنت وعقلانيتَك إلى أوراقكَ الصفراء .. البارحةُ تقدمَ زميلي في الجامعةِ وطلبَ يدي من أهلي ، وها أنتَ تأتي اليومَ لتقول لي : – كم أنتِ جميلةٌ وشهيةٌ يا فتاتي . وضعت الوردةَ البرتقاليةَ في الكأسِ بعد أن حررتِ الوردةَ الحمراءَ الذابلة . شربا فنجاني القهوة بصمت . قُطْرُب : الجاهل والسفيه والخفيف واللص . بهيرة : شخصية في قصة بهيرة في المجموعة القصصية العيد . ملحمة جلجامش : من”عبادة إيزيس وأوزيزيس في مكة الجاهلية ” دراسة زكريا محمد . إنانا : الربة السومرية . ليليث : العذراء الصارخة دوماً، والتي يدخل صوتها الفرح في كل قلب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى