في لحظة ما يفكر بعض متابعي الوضع السوري، أن المجاعة تبدو كأنها قدر السوريين اليوم. وما يدفع إلى تفكير كهذا، أنه يتوافق مع تردي الأوضاع المعيشية إلى درجة العجز عن توفير الطعام لجزء كبير من السوريين داخل سوريا وفي بلدان انتشارهم حولها رغم الاختلافات والتباينات القائمة بين المناطق والبلدان المشار إليها، وتتشارك في ظاهرة المجاعة، أو أنها تسير بخطى سريعة على الطريق، ما يدفع إلى تخمين المقدمة حول جوع السوريين فيها.
يتوزع السوريون داخل سوريا على ثلاث مناطق تحكمها سلطات الأمر الواقع، أولها المنطقة الخاضعة لنظام الأسد والنفوذ الإيراني – الروسي، والثانية منطقة النفوذ التركي الواقعة في شمال غربي البلاد، والتي تتشارك فيها السيطرة هيئة تحرير الشام وتشكيلات مسلحة حليفة لتركيا، والثالثة منطقة شرق الفرات المحكومة من مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) المسيطر عليها من جانب حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وميليشياته تحت الرعاية الأميركية.
ورغم الاختلافات بين تركيب السلطة في كل واحدة من المناطق، والاختلاف في خصائص كل واحدة منها وواقع سكانها، فإن المجاعة في تلك المناطق أصبحت أمراً واقعاً، عبر تزايد عدد السكان غير القادرين على تأمين الاحتياجات الأساسية من طعام وشراب خصوصاً للفئات الأضعف في المجتمع من النساء والأطفال، الأمر الذي ينذر بكارثة، تفوق كل ما سبق أن واجهه السوريون من كوارث الحرب وتداعياتها.
وإذا كان لنا أن نتوقف عند الأسباب، فإن فيها أسباباً عامة وأخرى خاصة، والأهم في الأولى يعود إلى الارتفاعات الطارئة على الأسعار العالمية، ولا سيما أسعار المواد الغذائية بعد كارثة «كورونا»، وبعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، إضافة إلى تدهور الاستجابة الدولية وتراجعها في توفير المساعدات الغذائية للسوريين الذين إن خفت حدة الحرب ومعاركها، فما زالت أجواء الحرب وآثارها قائمة، واحتمالات تجدد فصول منها حاضرة، ما يمنع من استعادة الحياة وفي قسمها الإنتاجي والتحويلي إلى طبيعتها.
وتدهور الاستجابة الدولية ليس ناتج تراجع حجم المساعدات فقط، وإنما نتيجة الابتزاز والضغط الروسي الذي يرسم مسارات محددة للمساعدات، كما أن بين الأسباب استيلاء سلطات الأمر الواقع على جزء من المساعدات والتصرف بها وفق مصالحها وبطانتها بالبيع أو النهب أو تخصيصها لفئة محددة، وهو ما يقع في دائرة فساد سلطات الأمر الواقع في المناطق الثلاث، وتلاعبها بالمساعدات على حساب حاجة من تزعم أنهم أنصارها، ولا بد من الإشارة إلى أن الأسباب السابقة، لا يقتصر حضورها وتأثيرها على الداخل السوري، إنما هي حاضرة بمحتواها وتأثيرها على مسار تدهور أحوال السوريين وسوء أوضاعهم في بلدان الجوار، سواء وصلوا حد الجوع، كما هو الوضع في لبنان، أو يسيرون إليها بسرعة كبيرة حسب الحال في تركيا والأردن.
أما في الأسباب الخاصة، فإن الأهم فيها تعطل مشاركة السوريين ودورهم في مواجهة المجاعة. ففي بقاء أجواء الحرب واحتمال تجدد المعارك، يتجنب القادرون على مباشرة مشاريع للإنتاج الغذائي والحيواني، والراغبون في الذهاب إلى مشاريعهم، لا تتوفر لهم متممات الإنتاج من الطاقة والمواد الأولية، وثمة نقص في الخبرات الفنية نتيجة ما تعرضت له قوة العمل من قتل واعتقال وتهجير، ويضاف إلى ما سبق، وقائع أفرزتها ظروف الصراع السوري بينها أن عموم السكان بمن فيهم الفلاحون، يعزفون عن الأعمال الزراعية في واقع الإحباط وافتقاد الأمن وغياب الحلول التي يمكن أن تأخذهم إلى حياة طبيعية، أو بسبب تعوُّدهم على نظام المساعدات والسلال الغذائية، وانخراطهم في صفوف ميليشيات مسلحة لتأمين مصدر ثابت للدخل وسند للحماية الذاتية، وقد صارت جميعها ظواهر منتشرة في كل المناطق السورية.
إن بعضاً من أسباب المجاعة في الداخل السوري، تتكرر في جملة أسباب المجاعة في أوساط السوريين اللاجئين في البلدان المجاورة مثل الارتفاع العالمي في أسعار السلع والمواد الغذائية، وما يتم الاستيلاء عليه من المساعدات في الدول المضيفة، وسوء سبل وصول المساعدات إلى مستحقيها وما يلحقها ويحيط بها من عمليات فساد، وكله يضاف إلى سبب جوهري، يتعلق بطبيعة إقامة السوريين وحقوقهم، حيث الإقامة مقيدة لغالبية السوريين، ويجري منعهم من العمل، أو يتم تحديد مجالات معينة لعملهم، ويعطون أجوراً محدودة، ويعملون ساعات أطول، ولا يحصلون على الحماية القانونية، والتأمين الصحي.
وإذا كان الواقع قد جعل التعقيدات تحيط بالمجاعة، فإن الواقع يجعل التعقيدات تحيط بالحلول الممكنة أيضاً سواء نظرنا للقضية بعموميتها أو نظرنا إليها، ونحن ندقق في كل واحدة من ساحات حضورها على حدة في المناطق السورية وبلدان الجوار. إن العاجل والسريع في معالجة المجاعة يتطلب سعياً في زيادة حجم المساعدات الدولية، وبذل كل الجهود لدى المانحين للوفاء بالتزاماتهم، ثم الضغط على المنظمات العاملة في ميدان الإغاثة لتخفيف ميزانيات التشغيل، والتي تستهلك نسبة كبيرة من الموارد، وإيجاد آليات ضبط من أجل وصول المساعدات إلى مستحقيها من دون أن تعرضها لنهب السلطات وفساد المسؤولين فيها، وهذه السياسات والإجراءات من شأنها التخفيف من حدة المجاعة، وإذا اتخذت خطوات من أجل تغيير ظروف وطرق عيش السوريين في الداخل ودول الجوار، كما في تشجيعهم على العمل، وتوفير بيئة آمنة تحمي حياتهم ونشاطاتهم، فإن المجاعة يمكن أن تنحسر إلى حدود دنيا، لكن القضاء عليها لن يتم إلا بإيجاد حل سياسي شامل في سوريا، يتم بموجبه بناء نظام جديد يوفر السلام والعدالة والمساواة لكل السوريين يطبع حياتهم ويعيد بناء سوريا، التي لا شك أنها يمكن أن توفر حياة كريمة ليس للعدد الحالي من السوريين، بل ضعفهم وربما أكثر.
المصدر: الشرق الأوسط