يُنتظر استكمال تغيير النظام السياسي الذي ينشده الرئيس التونسي بانتخابات تُجرى في نهاية هذا العام. لكن هذه الرغبة في التغيير التي تم تصوّرها وفرضها من الأعلى، والتي لا تحدّ البتة من سلطة الرئيس الكلية، تتعارض والخطاب الرسمي الذي يدّعي بأنه ينصاع لإرادة الشعب.
انتهت المرحلة الأولى من الرزنامة السياسية لقَيس سعيّد، وعرفت الاستشارة الشعبية عبر الإنترنت، نجاحا متواضعا جدا: بالكاد أزيد من 500 ألف مشارك. ومع ذلك، وعلى الرغم من الأسئلة المُغرضة التي طُرحت، يؤكد الرئيس على أنه يعتمد عليها لتحديد المراحل القادمة من التغيير السياسي الذي يريد تأسيسه.
أظهر قيس سعيّد، منذ توليه رئاسة الجمهورية، عزمه على فرض رؤيته للنظام الدستوري والسياسي، على الرغم من وجود خصوم سياسيين سعوا لتهميشه. وقد اغتنم حالة التدهور الحاد للوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس ليعلن حالة الاستثناء في 25 يوليو/تموز 2021، باسم الإرادة الشعبية والشرعية العليا للثورة التونسية التي يدعي تجسيدها. ومنذ ذلك الحين وهو يعمل -مدعيا أنه يعرف ويريد كما “الشعب يريد”، وفقاً لما ينص شعار حملته الانتخابية لعام 2019- على تفكيك ممنهج للمؤسسات الديمقراطية التمثيلية التي أقامها دستور 2014.
صحيح أن قيس سعيّد لم يُخفِ أبدًا أن ممارسة الشعب للسلطة تعني بالنسبة له التخلص من النظام البرلماني، ومن “النخب الفاسدة”، وأيضا من الهيئات الوسيطة (خاصة الأحزاب السياسية) التي تختطف الإرادة الشعبية. وبهذا المعنى، يُعدُّ رئيس الجمهورية زعيما شُعبويا يسعى “كخادم وصوت للشعب” إلى إزالة النزاعات في المجال السياسي الوطني ببناء وحدة أسطورية للشعب التونسي عبر “إقصاء أعدائه”1.
أما الآن وقد أصبحت يده طليقة، بدأ الرئيس في تطبيق بعض عناصر برنامجه السياسي المتمثل في “البناء القاعدي” الذي يُفترض أنه يمنح الشعبَ أدوات إرادته. غير أن هذا المشروع السياسي لا يخلو من التناقضات، أو بالأحرى يعود إلى ما يسميه الفيلسوف برتراند میهوست بـ “سياسة التناقض اللفظي”. بالفعل، يدعي مشروعه منح السلطة للشعب في حين أنه يؤسس نظامًا سياسيًا رئاسيًا يركّز السلطة بين يدي رئيس جمهورية منتخَب بالاقتراع العام.
سياسة أفقية.. عمودية
يقترح رئيس الجمهورية الذي يرغب في “منح الشعب أدوات” تسمح له بتنفيذ إرادته بناء آلية مؤسساتية يتم من خلالها إنشاء مجالس محلية في كل معتمدية، يُنتخب أعضاؤها -بعد أن يتم تكليفهم في البداية من قبل عدد متساوٍ من الناخبات والناخبين- بالاقتراع بالأغلبية الفردية مع تفويض قابل للإلغاء2. وهكذا، تتكفل هذه المجالس المحلية بتحضير مشروع مخطط تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية من خلال ورشات عمل.
يتم في المستوى الثاني إنشاء مجالس جهوية تتشكل من مديري الإدارات الجهوية (بدون حق التصويت) ومن عضو واحد يتم اختياره بالقرعة من كل المجالس المحلية. ستُكلَّف هذه المجالس على مستوى الولاية بتلخيص المشاريع التي تمت صياغتها محلياً. وفي الأخير، يتم على المستوى الثالث، اختيار ممثل من كل مجلس محلي عن طريق القرعة، ليصبح عضوًا في المجلس التشريعي الوطني. يتمثل دور أعضاء “البرلمان” في التلخيص والمصادقة على التشريعات التي تسمح للمجالس الجهوية والمحلية بتنفيذ برامجها التنموية.
بهذه الصياغة، ينتظم هذا المشروع السياسي – المؤسساتي حول لامركزية السلطة التشريعية فقط، حيث لا تملك المؤسسات المحلية، التي يُفترض بأنها قنوات للتعبير عن الإرادة الشعبية، هيئات تنفيذية لإنجاز برنامجها. وبما أن السلطة التنفيذية هي وحدها التي تمتلك البيانات والإحصائيات العامة، وهي بالتالي القادرة على تقييم الأولويات التي يجب تأكيدها في سير الدولة، فإن مثل هذا البناء يؤدي إلى منح السلطة الفعلية إلى الهيئات التنفيذية المحلية والجهوية من جهة، وإلى السلطة التنفيذية الوطنية من جهة أخرى3. وبالتالي يؤدي البناء من القاعدة إلى تحييد المجال السياسي الوطني من خلال حصر السياسة في الشؤون المحلية، وإنكار وجود مصالح ومشاريع وطنية اقتصادية واجتماعية متنافسة.
في النهاية، تتمثل إحدى مفارقات هذا المشروع الذي يطالب بـ“صفحة بيضاء” ثورية وبـ“نهج جديد” (وهي فكرة متكررة في خطابات قَيس سعيّد ومادحيه) للسياسة المؤسساتية في كونه “يستند إلى التقسيمات السياسية ـ الإدارية الإقليمية التي تم وضعها في ظل النظام القديم”. كما أن هذا المشروع لا يتساءل كثيرًا عما يمكن أن يكون عليه “مشروع متماسك لديمقراطية تريد أن تكون قاعدية4”.
بالنظر إلى الاهتمام الذي يوليه قيس سعيّد للدستور الرئاسي البائد لعام 1959، فسيتم موازنة البناء القاعدي في مشروع النص الدستوري المستقبلي بتركيز السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية. وعليه، فمن المحتمل أن تكون له صلاحية تعيين وإقالة الحكومة وكذلك رئيس وزرائها، وأن يرأس مجلس الوزراء وأن يحدد السياسة العامة للسلطة التنفيذية. وبالتالي، فإن “قلب هرم السلطة” الذي يفترضه البناء القاعدي يؤدّي -وتلك مفارقة- إلى إقامة نظام سياسي هرمي ورئاسي بقيادة قيس سعيّد.
سراب التنمية الجهوية
تتيح المراسيم التشريعية الصادرة في 20 مارس/آذار 2022 المتعلقة بالصلح الجزائي والمؤسسات الأهلية فهم جوهر رؤية سعيّد للاقتصاد السياسي للبناء القاعدي. تربط النصوص التي تم تحضيرها ما يسميه سعيّد “الصلح الجزائي” بإنشاء شركات “أهلية” على مستوى المعتمديات.
الهدف المعلن للمرسوم التشريعي المؤرخ في 20 مارس/آذار 2022 والمتعلق بالصلح الجزائي وتوظيف عائداته هو منح العفو لرجال الأعمال المتورطين في الاختلاسات المالية قصد “استرجاع الأموال المنهوبة من الدولة والجماعات المحلية والمنشآت والمؤسسات” ثم استثمارها في التنمية المحلية والجهوية. يتم فحص ملفات الأشخاص الاعتباريين والخاصين المتورطين في قضايا الفساد من قبل كيان جديد يُدعى “اللجنة الوطنية للصلح الجزائي”، والتي تحدد المبالغ المالية الواجب دفعها من طرف “الفاسدين” الذين يطلبون الاستفادة من العفو. وكونها انبثاق للنظام الرئاسي “السعيّدي”، تم وضِع هذا الكيان تحت الإشراف المباشر لرئيس الدولة الذي يتمتع بحق تعيين وتنحية أعضائها.
ستموّل الأموال التي يتم جمعها المشاريع التنموية حسب “خصوصيات المناطق واحتياجات السكان وكذلك بناءً على الأولويات الوطنية والمحلية”. وسيتم تخصيص 80% من هذه الأموال للمعتمديات المستفيدة من مشاريع التنمية والتي صُنّفت مسبقا حسب مستوى فقرها. ويتم تخصيص الـ20% المتبقية للجماعات المحلية لكي تُوظَّف كمساهمة رأسمالية في الشركات “الأهلية” وفي الشركات الاستثمارية والتجارية. لا يشير الترتيب المؤسساتي الذي تم تصميمه على هذا النحو إلى ديمقراطية اقتصادية أفقية، بل يدخل ضمن منطق الرقابة الإدارية الرأسية الكلاسيكية التي تديرها الإدارات الوطنية والجهوية.
وبالفعل، فستتحكم في المشاريع التنموية التي يتم تصميمها وتنفيذها في إطار الصلح الجزائي “لجنةُ متابعة تنفيذ اتفاقيات الصلح وإنجاز المشاريع بالجهات”، والتي سيتم إنشاؤها في كنف وزارة الاقتصاد، وأيضا من طرف “لجنةٍ جهوية لمتابعة وتنسيق المشاريع” يتم استحداثها على مستوى كل ولاية. وتتولى اللجنة الأولى المكلّفة بجمع وتحليل مقترحات المشاريع المقدمة من سكان الجهات بوضع القائمة النهائية للمشاريع المعتمدة.
غلاف الاقتصاد الاجتماعي والتضامني
وإتماماً لهذا النص، أصدر رئيس الجمهورية مرسوماً تشريعياً آخر يتعلق بالشركات “الأهلية”. ومن المرجّح أن تستفيد هذه الأخيرة من جزء من الأموال الناتجة عن المصالحة من خلال مساهمة الجماعات المحلية في رأسمالها. لذلك فإن هدف هذه الشركات هو المساهمة في “تحقيق التنمية الجهوية وأساساً بالمعتمديات وفقا للإرادة الجماعية للأهالي وتماشيا مع حاجيات مناطقهم وخصوصياتها”.
بغض النظر عمّا وراء الشعار الذي ينص على أن هذه الشركات توضع في خدمة العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات، فإن تثمينها من خلال هذا المرسوم التشريعي للتضامن المحلي لصالح التنمية يتناقض أيضًا مع مركزية الدولة وأبوية رئيس الجمهورية. صحيح أن هذا النص يبدو مستوحًى من شعارات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، لكنه يفتقر إلى عنصر أساسي، ألا وهو الاستقلالية عن السلطة السياسية الإدارية. في الواقع، يضع هذا التصور الشركات الأهلية المحلية تحت إشراف الوالي مع واجب مدّه بـ“ميزانيتها التقديرية” و“قائماتها المالية النهائية”، إلخ. أما بالنسبة للشركات الأهلية الجهوية، فعليها أن تَعرض على وزير الاقتصاد كُلاًّ من القانون الإطار والهيكل التنظيمي، والقانون الأساسي للأعوان ونظام التأجير، للحصول على المصادقة. ويتعين عليها أن توفّر له أيضا “قصد الإعلام والإذن الميزانيات التقديرية ومحاضر الجلسات العامة ومحاضر جلسات مجلس الإدارة، والقائمات المالية وتقارير مراقبة الحسابات”.
فضلاً عن مسألة جدوى هذا الهيكل المؤسساتي، فإن مشروع البناء القاعدي -إن طُبق يوماً- من شأنه خلق توترات بين هياكل محلية فاقدة لأي استقلالية، ورئيس الجمهورية كمركز أوحد لصنع القرار، والذي يدّعي منح السلطة للشعب.
خطاب سيادي كاذب
يُضاف إلى التناقض المؤسساتي تناقضان لا يمكن حلّهما، ويرجعان إلى تموقع رئيس الدولة بخصوص القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
في المقام الأول، يتناقض خطاب قَيس سعيّد “السيادي” مع السياسة الاقتصادية التي تنتهجها حكومته. فالمزايدات اللفظية لرئيس الجمهورية -الذي هاجم وكالات التصنيف الدولية- بخصوص سيادة تونس، وأيضا حديثه عن ضرورة إقامة علاقة متساوية مع المانحين، بعيدة كل البعد عن نهج حكومته المتمثل في التفاوض على قرض جديد مع صندوق النقد الدولي. بل وتم تصميم ميزانية 2022 بحيث تستبق “الإصلاحات” التي يوصى بها صندوق النقد الدولي. بشكل عام، يتعلق الأمر بالنسبة للدولة التونسية بالخضوع إلى دفتر أعباء يتضمن تخفيض كتلة الأجور في القطاع العام، ورفع الدعم عن المحروقات -وقد دخل حيز التنفيذ منذ 14 أبريل/نيسان 2022- والمواد الضرورية الأساسية، وتخفيف العبء الضريبي على الشركات الخاصة، وأيضا إعادة هيكلة وخصخصة الشركات العمومية. وهكذا، فإن الإجراءات الحكومية المعلنة لا تتوافق البتّة مع الخطاب الرئاسي الذي يدعو إلى استبدال الناتج المحلي الإجمالي بالسعادة المحلية الإجمالية، وإلى التحرر من المانحين الدوليين. كما أن خطة الإصلاحات الاقتصادية هذه تَعِد بنزاعات اجتماعية في المستقبل القريب.
في المقام الثاني، لا يمكن أن توفر مقاربته المؤسساتية في حد ذاتها جوابا لمشاكل تونس الاقتصادية والاجتماعية. في حين أن فكر قيس سعيّد وممارسته يتمثلان في اختزال الأزمة التونسية في نظامها السياسي. في هذا الصدد، فإن خطابه في 13 ديسمبر/كانون الأول 2021 الذي ألقاه بهدف تقديم خارطة الطريق للعام 2022، يعيد إنتاج المقاربة السياسية المؤسساتية المهيكلة للقاموس السياسي للعقد السابق 5.
واقتناعاً منه بأن “المشكل في تونس اليوم دستوري”، اكتفى رئيس الدولة بوضع رزنامة سياسية تتطابق مع التواريخ الرمزية للتاريخ التونسي. ففي يوم 25 يوليو/تموز 2022، ذكرى قيام الجمهورية، سيتم تنظيم استفتاء حول الإصلاحات الدستورية، وسيتم في 17 ديسمبر/ كانون الأول، التاريخ الرسمي الجديد لذكرى الثورة، إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة. صحيح أن المعجم القانوني والسياسي للرئيس بعيد تماماً عن قاموس الديمقراطية التمثيلية ودولة القانون الذي هيمن على سردية “التحول الديمقراطي”، لكنه قد يواجه نفس العجز الذي كان من نصيب أسلافه في الاستجابة لمطالب الاعتراف التي ترفعها الفئات المحرومة والتي نصّب نفسَه بطلاً لها. وهكذا يَنسب قَيس سعيّد إلى الترتيبات المؤسساتية نجاعةً لا تمتلكها.
إيريك غوب مدير أبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي، ومعهد البحوث والدراسات حول العالمين العربي والإسلامي، وبيت البحر الأبيض المتوسط للعلوم
المصدر: موقع أويان21