في عام 1864، كتب الشاعر الروسي فيودور تيوتشيف أن “السياسة الطبيعية الوحيدة لروسيا تجاه الغرب يجب أن تتمثل في السعي إلى تفريق القوى الغربية وتقسيمها، وليس التحالف معها”. وفي العقود التي تلت ذلك، استجاب القادة الروس والسوفيات لتلك النصيحة. بعد قرن ونصف القرن، لا تزال الولايات المتحدة تصارع التداعيات المترتبة على محاولات روسيا تضخيم الانقسامات داخل المجتمع الأميركي والاستفادة منها خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016. نتيجة لذلك التدخل الذي كررته موسكو بدرجة أقل في حملة 2020، أصبحت روسيا قضية مسممة في السياسة الأميركية، إلى درجة لم نشهدها منذ عهد [السياسي الأميركي الشهير] جوزيف مكارثي. [قاد مكارثي حملة عداء غير متبصرة ضد الشيوعية في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن العشرين. واتُّهم كثيرون بالشيوعية والعمالة للاتحاد السوفياتي من دون أدلة فعلية].
وخلافاً للتدخل الصيني في الانتخابات الذي يبدو أنه مصمم للتأثير في سياسة الولايات المتحدة تجاه بكين، جاء هدف مخططات الكرملين أكثر اتساعاً، وتمثل بإضعاف ثقة الأميركيين في ديمقراطيتهم وتضخيم الاستقطاب [الانقسام] الملحوظ أصلاً في المجتمع الأميركي. في الحقيقة، تعتبر هذه المهمة طموحة، لكنها خلفت نتائج متباينة بالنسبة إلى الروس. في 2016، تضمنت الجهود الأكثر أهمية [للتدخل في انتخابات الرئاسة الأميركية] اختراق حسابات البريد الإلكتروني الخاصة بكبار أعضاء الحملة الرئاسية لهيلاري كلينتون [مرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة، وقد تنافست مع دونالد ترمب الذي فاز في تلك الانتخابات]، والحصول على إمكانية الولوج إلى عدد من خوادم الكمبيوتر التابعة لـ”اللجنة الوطنية الديمقراطية” [التي أدارت حملة كلينتون]، وتقديم المحتويات المسروقة إلى موقع “ويكيليكس” الذي نشرها بعد ذلك. إضافة إلى ذلك، استفاد الكرملين أيضاً من ميزة إخفاء الهوية التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي، مستخدماً أشخاصاً من الروس تظاهروا بأنهم أميركيون ونشروا معلومات مضللة من شأنها أن تساعد المرشح المفضل لدى موسكو، دونالد ترمب. وكذلك، استعمل الروس أدوات إلكترونية أكثر تقدماً لاختراق أهداف أكثر صعوبة، بما في ذلك قواعد بيانات تسجيل الناخبين والشبكات التي تستخدمها حكومات الولايات والحكومات المحلية.
بالطبع، ادعى الكرملين أن لا علاقة له بأي من تلك الجرائم. بيد أن وكالات الاستخبارات الأميركية، وتحقيقات المستشار الخاص الأميركي روبرت مولر بشأن التدخل الروسي، والتحقيق المنفصل الذي أجرته لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأميركي، أوضحت جميعها أنه في كل حالة، كان المتسللون الإلكترونيون مرتبطين بأجهزة الاستخبارات الروسية، وخصوصاً وكالة الاستخبارات العسكرية المعروفة بـ”جي آر يو” GRU.
والجدير بالذكر أن أحد أسباب نجاح تلك المخططات في زرع الفتنة والارتباك بشكل كبير، تمثل أن الكرملين كان يدفع باباً مفتوحاً أصلاً [أي أنه نجح في تحقيق النتيجة المرجوة بسهولة لأن معطياتها موجودة فعلياً]. فبفضل الاستقطاب السياسي العميق والحروب الثقافية المطولة، صارت الولايات المتحدة دولة منقسمة وأصبحت عرضة لجميع أنواع التأثيرات الخبيثة. ولكن، لماذا بدت واشنطن غير مدركة إطلاقاً تلك المخاطر؟ لماذا كانت الأنظمة المهمة، العامة والخاصة، محمية بشكل غير كافٍ؟ هل تعلمت الدولة مما حدث شيئاً يجعلها أقل عرضة للتدخل في المستقبل؟
يتناول كتابان حديثان تلك الأسئلة من خلال الغوص في التاريخ الطويل للحرب السياسية بين موسكو وواشنطن. ويعد الكتاب الأكثر شمولاً وتحليلاً بين الاثنين هو “التدابير الفاعلة” Active Measures بقلم عالم السياسة توماس ريد، إذ يستخدم بحوثاً أرشيفية مكثفة ومقابلات مع متخصصين سابقين وحاليين في الاستخبارات من أجل سرد قصة مؤثرة عن المكائد والخداع والقتل. في المقابل، يقدم كتاب “الحماقة والمجد” The Folly and the Glory بقلم الصحافي تيم وين، صورة مألوفة إلى حد ما عن الصراع السري بين موسكو وواشنطن، ويمضي في المجادلة بأن السياسات الأميركية زادت من شكوك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن نيات واشنطن، وبالتالي، فقد عزز إصرار بوتين على تشكيل دولة يهيمن عليها قدامى المحاربين في أجهزة الاستخبارات السوفياتية.
واستطراداً، لقد بنى بوتين تلك الدولة، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان استخدامه لها يأتي لصالح موسكو دائماً، في الأقل حينما يتعلق الأمر بالعلاقات الأميركية الروسية. في الواقع، قد يشعر الروس بما يشبه “ندم المشتري” بسبب تدخلهم في انتخابات 2016. لقد فاز مرشحهم المفضل، لكن إدارة ترمب اتبعت سياسة متناقضة تجاه روسيا، إذ إن ترمب أراد عقد صفقة مع بوتين، لكن بقية السلطة التنفيذية اتخذت موقفاً أكثر تشدداً. في غضون ذلك، أدى الغضب الذي اعترى الحزبين بشأن التدخل الروسي إلى فرض الكونغرس الأميركي مجموعة من العقوبات على موسكو ستظل سارية لسنوات عدة. ويذكر أن جهود الكرملين السرية الأكثر محدودية الرامية إلى التأثير في السياسة الأميركية في السنوات الأخيرة، تشير إلى أن بوتين نفسه قد تساوره بعض الشكوك حول مدى نجاح تلك المخططات حقاً.
أكاذيب حقيقية
في روسيا يشير مصطلح aktivnye meropriyatiya الروسي، أي “التدابير الفاعلة”، إلى أشكال من حروب المعلومات مصممة بهدف إضعاف الخصم. منذ أكثر من قرن، قبل الثورة البلشفية، بدأ الروس يستخدمون المعلومات المضللة كسلاح. ومن الأمثلة المبكرة على ذلك، كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون” السيئ السمعة The Protocols of the Elders of Zion، الذي ظهر لأول مرة في عام 1903 ويزعم أنه يكشف مؤامرة يهودية شائنة للسيطرة على العالم. في عام 1921، كشفت صحيفة “ذا تايمز أوف لندن” عن أن الكتاب مزور. وعلى الرغم من أن مصدر التأليف الدقيق لا يزال محل نزاع، فإن النظام القيصري وزعه بحماس، وكان الاتحاد السوفياتي لا يزال ينشره إلى حد كبير في خمسينيات القرن العشرين. وبعد أكثر من مئة عام من إصداره للمرة الأولى، لا يزال هذا الكتاب يباع بكثرة في بعض أجزاء العالم لأنه يقوي معتقدات الأشخاص المهتمين بتعزيز نسختهم الخاصة من الواقع أكثر من اهتمامهم بمعرفة الحقيقة.
واستكمالاً، يرد ذكر هذه الديناميكية بشكل متكرر في جميع أنحاء كتاب ريد. على مدى القرن الماضي، تغيرت تقنية المعلومات المضللة مع مساهمة الثورة الرقمية في تغيير وسائل إيصال المعلومات بشكل عميق، إذ إن القرصنة الإلكترونية والتسريب أتاحا لمجموعة أكبر بكثير من مروجي البروباغاندا [الإعلام المستند إلى الترويج الدعائي لأفكار معينة] فرصة اختراق المجتمعات الغربية. لكن بالنسبة إلى روسيا والدول الاستبدادية الأخرى، يظل الهدف هو نفسه، مهاجمة “النظام المعرفي الليبرالي أو النظام السياسي الذي يضع ثقته في الحراس الأساسيين للسلطة الواقعية”، وتقويض أسس المجتمعات المفتوحة. ويخلص ريد إلى أنه بمرور الوقت، أصبحت التدابير الفاعلة أكثر نشاطاً وأقل قياساً، ما يساعد على الدخول في عالم ما بعد الحقيقة حيث يبدو أن مزيداً من الناس على استعداد لقبول “الحقائق البديلة”. [استخدم مصطلح “ما بعد الحقيقة” مع موجة تزوير الحقائق ونشر المعلومات المضللة عبر فضاء الإنترنت، خصوصاً عبر السوشيال ميديا].
بالطبع، أدت الولايات المتحدة أيضاً دوراً في خلق مثل تلك الظروف. بعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت إدارة ترومان مكتباً لـ”المشاريع الخاصة” من أجل تنسيق العمليات الهجومية السرية ضد الاتحاد السوفياتي والدول التابعة له. في العقد التالي، تركزت الحرب الأميركية السياسية في برلين. هناك، قاد عميل الاستخبارات الأسطوري فرانك ويزنر وزملاؤه فريقاً أطلقوا عليه اسم Kampfgruppe، وهي كلمة ألمانية تعني “وحدة المعركة”، وقد سعى الفريق إلى “مضايقة الإدارة السوفياتية في ألمانيا الشرقية وإضعافها”، بحسب ريد. في الواقع، تمثل أحد التكتيكات التي استخدمها الفريق في توزيع المجلات اللامعة لنقل رسائل تخريبية ومؤيدة للغرب إلى سكان ألمانيا الشرقية. وبالتالي، جرى توجيه صحيفة Der Kämpfer (أي المقاتل) إلى القوات المسلحة في ألمانيا الشرقية، فيما استهدفتDer Parteiarbeiter (أي العامل في الحزب) الموظفين الشيوعيين. واستكمالاً، جرى توزيع مجلات أخرى على المنظمات الدينية التي قمعتها حكومة ألمانيا الشرقية.
وبالاسترجاع، توقفت عمليات التضليل تلك حينما ظهر جدار برلين في عام 1961 وأصبح الوصول إلى برلين الشرقية أصعب بكثير بالنسبة إلى عملاء الاستخبارات الأميركية. وفي ما يتعلق بحرب المعلومات، يجادل ريد بأن “التكافؤ الأخلاقي والعملي” بين الأنظمة الديمقراطية وغير الديمقراطية لم يكن موجوداً إلا خلال العقد الأول تقريباً من “الحرب الباردة”. بعد ذلك، “انسحبت الاستخبارات الأميركية من ساحة معركة المعلومات المضللة بشكل شبه كامل”. في المقابل، لم يبادر السوفيات وأقمارهم الاصطناعية إلى فعل شيء يشبه ذلك قط.
قاعة المرايا
كتاب ريد مليء بالتفاصيل الرائعة حول التدابير الفاعلة التي اتخذها الكرملين في الحقبة البلشفية. في 1922، بناءً على أوامر من الزعيم السوفياتي فلاديمير لينين، أنشأت الشرطة السرية السوفياتية منظمة “تراست” (Trust)، وكانت منظمة ملكية زائفة. في الحقيقة، كان لينين قلقاً من ارتباط المعارضين المحليين البلشفيين بمنظمات المهاجرين التي سعت إلى استعادة الحكم القيصري. وقد أدت أنشطة التضليل التابعة لمؤسسة “تراست” إلى تخفيف ذاك التهديد ببطء من طريق زرع الفوضى داخل مجموعات المهاجرين. ووفق ما كتبه ريد، أصبحت “تراست” مع مرور الوقت، “أكثر فأكثر شبيهة بلعبة الدمى الروسية المعروفة باسم (ماتريوشكا)، مع طبقات متعددة من المعلومات المضللة، متداخلة ومكدسة بعضها في بعض”. في عام 1923، التزم الكرملين بالتضليل تماماً وأنشأ منظمة أكبر من سابقاتها، بدأت في إنتاج كميات من المواد الخادعة التي صورت الاتحاد السوفياتي على أنه قوة عسكرية قوية، يدعم سكانها عموماً الحكومة الجديدة.
وبطريقة موازية، وجد السوفيات أيضاً طرقاً للتدخل في سياسات الديمقراطيات الغربية، أحياناً بمساعدة وكلاء في دول شيوعية أخرى، كألمانيا الشرقية. في أوقات الذروة في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، كانت منظمة أمن الدولة في ألمانيا الشرقية المعروفة باسم “ستازي” (Stasi) التي قامت بالتجسس الداخلي والخارجي، تضم أكثر من 90 ألف موظف بدوام كامل (من بين سكان يبلغ عددهم 16 مليون نسمة) و175 ألف “متعاون غير رسمي”، أبلغوا عن جيرانهم وزملائهم في العمل وحتى أزواجهن أو زوجاتهم. وبالاسترجاع، نفذت “ستازي” أنجح عملياتها في عام 1972 بناءً على أوامر من موسكو، وشملت رشوة عضوين من حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” Christian Democratic Union، وهو حزب معارض في ألمانيا الغربية. ومقابل مدفوعات تعادل حاضراً نحو 90 ألف دولار، وافق العضوان على الانفصال عن حزبهما والامتناع عن التصويت بحجب الثقة في برلمان ألمانيا الغربية، الأمر الذي كان من شأنه أن يؤدي إلى عزل المستشار ويلي برانت من منصبه. تجدر الإشارة إلى أن الكرملين أراد بقاء برانت في السلطة لأنه دعم تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية. وبفضل امتناع هذين الاثنين، فشل التصويت بفارق ضئيل، واحتفظ برانت بمنصبه. (ولكن لم يدم الانتصار طويلاً، فبعد فترة وجيزة، استقال برانت بعد أن تبين أن أحد أقرب مستشاريه هو عميل من “ستازي”).
خلال ثمانينيات القرن العشرين، تعاونت الاستخبارات السوفياتية “كي جي بي”، و”ستازي” وغيرهما من أجهزة الاستخبارات في مجموعة الدول الشيوعية، من أجل استغلال الانقسامات في الدول الغربية حول مسألة الأسلحة النووية. وبينما بنى الاتحاد السوفياتي ترسانته النووية الضخمة، عمل على ضخ معلومات مضللة حول سياساته ونياته، وزود بها نشطاء ساذجين من المناهضين للأسلحة النووية في الغرب والعالم النامي. ويضاف إلى ذلك أنه مول سراً النشطاء الذين دعوا إلى “تجميد البرامج النووية” وعارضوا تطوير القنبلة النيوترونية [نوع خاص من قنابل الدمار الشامل تفتك بالبشر وأنواع كثيرة من الكائنات الحية، لكنها لا تسبب دماراً كبيراً للمنشآت والطرق] ونشر صواريخ أميركية متوسطة المدى في أوروبا. بهذه الطريقة، حتى مع نمو الترسانة النووية السوفياتية، استطاع الكرملين إقناع أعداد كبيرة من الغربيين بأن الخطر الحقيقي للحرب يأتي من الولايات المتحدة.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عقد المسؤولون الأميركيون الأمل على تلاشي التدابير الفاعلة التي اتخذتها موسكو. في المقابل، رفض الرئيس الروسي بوريس يلتسين تفكيك أجهزة الاستخبارات أو إصلاحها. وفي ذلك الإطار، ذكر يلتسين في أوائل التسعينيات من القرن العشرين أن “جهاز كي جي بي هو التنظيم الحكومي الوحيد المنظم الناجح الذي خلفه النظام القديم. بالطبع، كان إجرامياً، مثل أي شيء آخر، لكننا لو دمرناه، كنا سنخاطر بإطلاق العنان لفوضى تامة”. وهكذا أعاد مروجو المعلومات المضللة الروس تجميع صفوفهم وظهروا مجدداً بكامل قوتهم عندما تولى بوتين، الضابط السابق في الاستخبارات السوفياتية، مقاليد الأمور.
وفي سياق متصل، يصف ريد بتفاصيل دقيقة الولادة الجديدة للتدابير النشطة الروسية التي أصبحت ممكنة مع فجر عصر الإنترنت، على غرار هجوم الكرملين الإلكتروني الذي شل الحكومة الإستونية في 2007 وحملة التضليل التي أطلقتها موسكو في أعقاب أزمة أوكرانيا سنة 2014، حينما سعى الغرب إلى عزل روسيا. وعلى نحو مماثل، يغوص ريد أيضاً في أعماق قصة “إدوارد سنودن”، المتعاقد مع “وكالة الأمن القومي” الأميركية، والساخط عليها أيضاً، الذي وصل إلى موسكو في 2013 بعد أن سرب ملايين الوثائق الفائقة السرية التي كشفت عن أن الولايات المتحدة نفذت عمليات مراقبة أكثر تدخلاً وشمولية مما كان معروفاً بالنسبة إلى الشعب. حصل سنودن على حق اللجوء السياسي وتقدم في النهاية بطلب للحصول على الجنسية الروسية. في الواقع، يعتقد بعض المعلقين الأميركيين أن سنودن كان موظفاً قيماً لدى الروس منذ البداية. ولكن وفقاً لريد، “من وجهة نظر روسيا، بدت تسريبات سنودن كأنها إجراء أميركي فاعل وناجح بشكل مذهل يستهدف أميركا نفسها”.
جواسيس مثلنا
بالنسبة إلى روسيا، الحرب والسلام لا يشكلان نظاماً ثنائياً، بل يتموضعان فحسب على طرفين مضادين من سلسلة متصلة. في مكان ما بينهما، تكمن التدابير الفاعلة و”الحرب السياسية” التي يعرفها وينر بأنها “الطريقة التي تعرض بها الدول قوتها وتعمل لتحقيق أهدافها ضد العدو، من دون إطلاق الصواريخ أو إرسال قوات المارينز”. في كتاب مفعم بالحيوية عن التنافس بين موسكو وواشنطن أثناء “الحرب الباردة” وبعدها، يعيد وينر أصول الحرب السياسية الروسية إلى “إيفان الرهيب”، القيصر الذي أنشأ منظمة “أوبريتشنينا” (oprichnina) في عام 1565، وهي نوع من دولة داخل دولة وظفت شبكة من الجواسيس وأطلقت العنان لعهد من الرعب ضد أعداء إيفان المزعومين. واستطراداً، يوضح وينر أن بوتين استند في السنوات الأخيرة إلى ذاك التقليد الطويل، مستخدماً تقنيات متطورة في سعيه إلى إضعاف الولايات المتحدة ودفع مواطنيها إلى التشكيك في أسس نظامهم السياسي، وفي الوقت نفسه إنشاء صورة لروسيا باعتبارها دولة محصنة ضد الفوضى السياسية، ومعقلاً للقيم التقليدية، وبديلاً مستقراً للديمقراطيات الفوضوية. على الرغم من المشكلات الاقتصادية والديموغرافية في روسيا ومواردها المحدودة، يبدو أنها أفضل بكثير في الحرب السياسية من الولايات المتحدة الأكثر قوة منها.
وعلى الرغم من ذلك، بالمقارنة مع ريد، يركز وينر بشكل أكبر على دور واشنطن في القصة التي تتناول طريقة تطور الحرب السياسية في العصر الحديث. في الواقع، أحد أبرز الشخصيات في رواية وينر هو الدبلوماسي الأميركي جورج كينان. في عام 1948، عمل كينان مديراً لفريق موظفي تخطيط السياسات بوزارة الخارجية، وأقنع إدارة ترومان بإنشاء مديرية خاصة للعمليات السرية ضد الاتحاد السوفياتي وأقماره الاصطناعية. وبناءً على توصية كينان، عين ويزنر مسؤولاً عن الوحدة الجديدة التي أطلقت عدداً من العمليات الجريئة لطرد السوفيات من أوروبا الشرقية، لكنها فشلت في نهاية المطاف، إذ اعتمد كثير منها على معلومات مضللة.
في ستينيات القرن العشرين، مع حصول عدد من المستعمرات الأوروبية على استقلالها، امتدت الحرب السياسية إلى ما يسمى بالعالم الثالث، وتقاتلت موسكو وواشنطن من أجل الفوز بقلوب الأفارقة وعقولهم. في ذلك السياق، يكرس وينر جزءاً كبيراً من روايته للحديث عن الكونغو والحرب الأهلية التي اندلعت هناك بعد الانسحاب المتعجل للبلجيكيين منها في عام 1960. واستكمالاً، دعمت الولايات المتحدة جوزيف موبوتو (المعروف لاحقاً باسم موبوتو سيسي سيكو) ضد باتريس لومومبا المدعوم من الاتحاد السوفياتي. في النهاية، انتصر موبوتو، بمساعدة وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي أي”، واستمر في حكم البلاد لمدة ثلاثة عقود في ما يصفه وينر بأنه “كرنفال الفساد”. في المقابل، ليس من الواضح تماماً سبب اعتقاد وينر أن تلك الحالة بالذات مهمة جداً. وفي اتهامه واشنطن بدعم موبوتو وديكتاتوريين فاسدين آخرين في أفريقيا، يتجاهل تحديد سياسات بديلة أفضل ويفشل في تحديد ما إذا كان القادة المدعومون من الاتحاد السوفياتي أقل فساداً. في الواقع، غالباً ما كانت الحرب السياسية في العالم النامي أثناء “الحرب الباردة” تشكل قضية اختارت فيها موسكو وواشنطن دعم ما اعتبره صناع السياسة فيهما “ابن عاهرة تابعاً لنا” [بمعنى جهة تعمل لحسابنا، على الرغم من كونها سيئة]، على حد تعبير رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت [القول الشهير الذي ينسب إلى الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت عن ديكتاتور نيكاراغوا أناستازيو سوموزا عام 1939، “إنه ابن عاهرة، لكنه إبن عاهرتنا”].
إضافة إلى ذلك، يجادل وينر بأن اعتماد الكرملين المستمر على الحرب السياسية بعد الحقبة السوفياتية ينبع من الاستياء الروسي مما حدث في السنوات التي تلت ذلك. في نظر عدد من الروس، تعرضت البلاد للإذلال في تسعينيات القرن العشرين من قبل الولايات المتحدة المتغطرسة التي لم تأخذ المصالح الروسية في الاعتبار. تلك هي الرواية التي استخدمها بوتين من أجل تبرير سعيه إلى جعل روسيا عظيمة مرة أخرى، ويؤيد وينر عناصر منها ضمنياً. في الواقع، يعيب وينر على الولايات المتحدة توجيهها دعوة إلى دول الاتحاد السوفياتي السابق للانضمام إلى الناتو، خلافاً للوعود الأميركية التي زعم أن وزير الخارجية جيمس بيكر قطعها إلى الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في سنة 1990. ووفقاً لما ذكره وينر، أقنعت تلك الخيانة القيادة الروسية بأنها لا تستطيع الوثوق بالأميركيين. والمشكلة في تلك الحجة هي أن الحقائق التاريخية لا تدعمها، إذ لم تقدم حكومة الولايات المتحدة مثل تلك الوعود لغورباتشوف بشأن توسيع الناتو لأن هذا الاحتمال لم يكن على جدول الأعمال في 1990. ووفق ما كتب غورباتشوف نفسه في عام 2014، “لم تتم مناقشة موضوع (توسيع الناتو) على الإطلاق، ولم يطرح في تلك السنوات. أقول هذا على مسؤوليتي الكاملة”. في ذلك الوقت، كان السؤال الوحيد المتعلق بموقف حلف الناتو، يتمثل في مدى عزمه على نشر أي قوات تحت قيادته في ألمانيا الشرقية السابقة بعد إعادة توحيد ألمانيا، علماً أنه لم ينشر أي قوات آنذاك.
أهداف سهلة
يثير هذان الكتابان سؤالاً أكبر لم يجب عليه أي منهما على نحو ملائم. ويتمثل ذلك السؤال في الكيفية التي يمكن للولايات المتحدة والمجتمعات الديمقراطية الأخرى أن تجعل بها نفسها أقل عرضة للمعلومات المضللة؟ لقد أبطأ رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما وإدارته في إدراك النطاق الكامل لما كان يفعله المتسللون والمسربون والمتصيدون الإلكترونيون الروس في عام 2016، ويمكن القول إنهما لم يبذلا جهداً كافياً في الرد على ذلك. وبهدف تدعيم دفاعات الولايات المتحدة، يجب على إدارة بايدن العمل على تأمين الشبكات العامة والخاصة في الولايات المتحدة، والتنسيق مع شركات وسائل التواصل الاجتماعي للحد من انتشار المعلومات المضللة على منصاتها. ويعتبر الرد بالمثل على الهجمات الإلكترونية، بتعبير آخر اتباع استراتيجية الهجوم، جزءاً مهماً من مجموعة الأدوات، لكن يجب استخدامه بحكمة، حتى لا يؤدي إلى التصعيد. وتجدر الإشارة إلى أن روسيا عرضت في مناسبات عدة بدء محادثات مع الولايات المتحدة حول اتفاق عن عدم التدخل المتبادل. بطبيعة الحال، هناك شك كبير حول ما إذا كان بإمكان واشنطن الوثوق بموسكو في ما يتعلق باحترام شروط أي اتفاق من هذا القبيل. ولكن قد يكون من المفيد استكشاف ما تقترحه روسيا قبل رفض العرض.
في غضون ذلك، ربما تكمن أهم الأشياء التي يمكن للولايات المتحدة فعلها لحماية نفسها من التدخل الأجنبي في معالجة الانقسامات الاجتماعية والسياسية الخاصة بها، والتواصل بشكل أفضل مع الأميركيين حول الفارق بين الأخبار الحقيقية والبروباغندا. في الحقيقة، لم تخلق روسيا الاستقطاب الذي يقسم البلاد، بل إنها تستغل ذلك فحسب، كذلك لم تخترع نظريات المؤامرة التي تسود وسائل التواصل الاجتماعي، بل تضخمها لا غير. وعلى نحو مشابه، لم ينتخب الكرملين ترمب في عام 2016، بل زوده فحسب بالذخيرة حين سعى إلى تقويض ثقة الأميركيين في نزاهة النظام السياسي والمؤسسات الحزبية في بلادهم.
واستطراداً، ينبغي النظر أيضاً في ما إذا كانت الفوائد التي تمتعت بها روسيا من تدخلها عام 2016 قد فاقت التكاليف بالفعل. إذ إن المعرفة بحصول تدخل روسي، واعتقاد بعض معارضي ترمب بأنه لم يفز في الانتخابات بشكل شرعي، جعلا من روسيا موضوعاً محلياً مسمماً طوال سنوات ترمب الأربع في منصبه، وجعلا من المستحيل بالنسبة إليه الوفاء بوعد حملته الانتخابية بتحسين العلاقات مع موسكو. وعلى الرغم من المتعة الاستفزازية التي شعر بها بوتين بوضوح حينما شكك ترمب في حكم وكالات الاستخبارات الأميركية، وصدق عوضاً عن ذلك إنكار بوتين مسؤوليته [عن التدخل في الانتخابات الرئاسية 2016]، لا يمكن للزعيم الروسي أن يشير إلى أدلة قيمة تذكر على أن التدخل قد خدم بالفعل مصالح بلاده.
في المقابل، بقيت الولايات المتحدة منقسمة ومتفرقة سياسياً منذ عام 2016، ويشكل ذلك من دون شك مصدر ارتياح عميق للكرملين. لقد تراجعت هيبة واشنطن الدولية، وفي المقابل استمتعت وسائل الإعلام المحلية والدولية في موسكو التي تديرها الدولة، في وصف الولايات المتحدة بأنها قوة عظمى سابقة متدهورة وبالية. وعلى الرغم من ذلك، تركت روسيا بصمات أقل على انتخابات عام 2020 بالمقارنة مع عام 2016. ومع اقتراب نهاية الحملة، بدا أن بوتين التزم الحذر ولم يراهن على أي من المرشحين. ربما أدرك الكرملين أنه قد يكون من الأفضل أن يوجد رئيس أكثر قابلية للتنبؤ في البيت الأبيض [إشارة إلى بايدن]، رئيس ملتزم بدبلوماسية أكثر تقليدية مع روسيا.
في سياق متصل، يعقد الأمل على أن تؤدي نهاية رئاسة ترمب إلى إحياء مناقشة أكثر منطقية حول المجالات التي يجب أن تتعاون فيها واشنطن مع موسكو، والمجالات التي ستشهد تنافساً حتمياً بين الجانبين. ثمة مبالغة في قدرة بوتين على تقويض الديمقراطية في الولايات المتحدة، لكن التدابير الفاعلة الروسية لن تختفي، ومن الأفضل للأميركيين أن يجعلوا بلادهم هدفاً أقل جاذبية.
- أنجيلا ستينت، مديرة “مركز الدراسات الأوروبية الآسيوية والروسية والأوروبية الشرقية” وأستاذة في “الشؤون الحكومية والاستخبارات الخارجية” بجامعة جورج تاون. شغلت منصب مسؤولة سابقة في “الاستخبارات الوطنية عن روسيا وأوراسيا”. وقد ألفت كتاب “عالم بوتين، روسيا ضد الغرب ومع البقية”.
فورين آفيرز يناير (كانون الثاني)/ فبراير (شباط) 2021
المصدر: اندبندنت عربية