يهدّد استخدام روسيا لبيلاروس كمنصة انطلاق لحربها على أوكرانيا بالقضاء على نظام لوكاشينكو الذي بات يواجه معارضة متزايدة في الداخل وإدانة من الخارج
مع تعطّل خطوط السكك الحديدية البيلاروسية وتوقّف القطارات التي تنقل معدات عسكرية روسية إلى أوكرانيا عن السير، تبادر حكومة الرجل القوي ألكساندر لوكاشينكو إلى اتخاذ مجازفة.
فهي تبثّ اعترافات عمّال وسائل النقل المتورطين بما سُمّي “حرب سكك الحديد”، وهم يعترفون بتخريب المعدات والبنية التحتية والتسبب بالتأخير.
من جهة أولى، قد تبعث هذه الاعترافات الخوف في نفوس البيلاروسيين المعارضين للحرب، ولنظام السيد لوكاشينكو الدكتاتوري ولعلاقته الوثيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ولكن من جهة أخرى، ما أظهرته سلسلة التصريحات الصادرة عن عمال ومساعدين ومتخصصين في المعلوماتية وسائقين ومهندسين عاديين في مصلحة السكك الحديدية، هو مدى عمق واتّساع المعارضة لحرب روسيا وللسيد لوكاشينكو في الداخل البيلاروسي.
ويقول فراناك فياكوروكا، مستشار زعيمة المعارضة البيلاروسية سفيتلانا تسيخانوسكايا في مقابلة مع “اندبندنت”، “أعرف هؤلاء الأشخاص- إنهم سائقون وحرّاس وفرق الصيانة”.
“لديهم غرف سرية لتبادل الرسائل الإلكترونية وينظّمون تحركاتهم كل عدة أيام. أحياناً، تتسبّب الأضرار الصغيرة جداً بمشكلات جمّة”.
كان قرار السيد لوكاشينكو بالسماح لروسيا باستخدام بلاده من أجل الإعداد لغزو أوكرانيا عاملاً رئيسياً في الحرب، وسمح للسيد فلاديمير بوتين بنشر قواته على بعد ساعات قليلة فقط من كييف.
لكنه يسلّط الأضواء كذلك على بيلاروس والسيد لوكاشينكو، ويجذب الانتباه والضغط المحلي والدولي إلى دولة ضعيفة سياسياً [غير متماسكة سياسياً] وصلت بالفعل إلى شفير الانهيار بعد انتخابات عام 2020 المتنازع عليها التي أثارت موجات من الاحتجاجات والقمع.
وفيما قد تساعد الحرب السيد بوتين على إحكام سيطرته على المجتمع والمشهد السياسي الروسي، يختلف الوضع بالنسبة لبيلاروس وقائدها الدكتاتوري، قد يطيح هذا الصراع الهدوء [الاستقرار] الهشّ المفروض بالقوة.
أظهرت استطلاعات الرأي التي أجراها مركز أبحاث تشاتام هاوس أنّ أكثر من 55 في المئة من مواطني بيلاروس يعارضون الحرب، كما يعارضون استخدام روسيا لبلادهم من أجل إرسال القوات العسكرية وإطلاق الصواريخ على أوكرانيا، فيما يعارض نحو 97 في المئة منهم نشر أي قوات محلية ما وراء الحدود [على الجانب الآخر منها].
وتقول الصحافية البيلاروسية المعارضة هانا ليوباكوفا “ترفض الغالبية المطلقة الحرب ونشر القوات، وهذا يشمل النخب والشعب والجيش”.
“الموقف العام هو أنه لا يجدر بالمواطنين البيلاروسيين الذهاب إلى هناك وقتل جيرانهم. ولا يجب قتلهم أو اغتيالهم من أجل بوتين”.
على الرغم من موقفه العلني الداعم للموقف الروسي، يقول بعض المطّلعين على الشأن الروسي إن السيد لوكاشينكو نفسه قد يكون غير مرتاح لحرب السيد بوتين، فهو لا يعتبرها سوى مصدر مشكلات على حدوده.
ويقول ريهور أستابينيا، الخبير الأول في الشأن البيلاروسي لدى تشاتام هاوس “هو معتدٍ مشارك ولكنه ضحية كذلك من ناحية معيّنة. لم يرغب لوكاشينكو باندلاع هذه الحرب. ولم ترغب وزارة دفاعه باندلاعها. و[كذلك] لم يرغب البيلاروسيون باندلاع هذه الحرب”.
صرّح السيد لوكاشينكو عدة مرات بأنه لم يرسل أي قوات للقتال في أوكرانيا. ونقلت عنه وكالة الأنباء الرسمية قوله يوم 25 مارس (آذار) “قلت لكم 1020 مرة إننا لا نخطط أبداً للقتال في أوكرانيا. فالبيلاروسيون يمقتون الحروب جينياً [بالفطرة وإلى أقصى حد]”.
تُعد الدولة التي تضم 9.5 مليون نسمة إحدى الدول الناطقة باللغة السلافية التي يرغب السيد بوتين بأن تكون جزءاً من دائرة النفوذ والسيطرة الروسية. حافظ السيد لوكاشينكو طيلة سنوات على توازن دقيق، فقدّم بلده على أنه “سويسرا السلافية” الهادئة والمحايدة جيوسياسياً، على الرغم من توقيعها اتفاق شراكة مع موسكو في عام 1999.
في عام 2014، حين استولى السيد بوتين وحلفاؤه المحليون على شرق أوكرانيا وأعلن ضمّ شبه جزيرة القرم، نأى السيد لوكاشينكو بنفسه عن الوضع وأطلق سلسلة من التصريحات الملتبسة والعامة، وغض النظر عندما كان الشباب يقصدون أوكرانيا للتطوّع من أجل القتال مع الطرفين.
ربما لم تكن بيلاروس لتجد نفسها عاملاً في الحرب على الإطلاق لو لم تندلع الانتفاضات الشعبية عام 2020 ضد السيد لوكاشينكو بعد الانتخابات التي قيل إنها مزوّرة. أطلق السيد لوكاشينكو موجة قاسية من القمع الداخلي سحقت المجتمع المدني البيلاروسي، وحوّلت البلاد إلى دولة بوليسية مظلمة.
أجبرت العزلة الدولية اللاحقة السيد لوكاشينكو على الدوران في فلك السيد بوتين عن كثب، مما أتاح لروسيا بنشر المزيد من القوات في بلاده مقابل الدعم المادي والسياسي.
العام الماضي، منح السيد بوتين قرضاً بقيمة 1.5 مليار دولار (1.14 مليار جنيه استرليني) إلى بيلاروس ووقّع معها شراكة أمنيّة هدفها مكافحة المعارضة السياسية.
بيلاروس هي إحدى دول العالم الأربع التي صوتت دعماً لروسيا في إطار قرارات الجمعية العام للأمم المتحدة المتعلقة بأوكرانيا، جنباً إلى جنب سوريا وكوريا الشمالية وإريتريا.
مع نشوب المعارك بين أوكرانيا وروسيا في الأشهر التي سبقت اجتياح 24 فبراير (شباط)، وصلت القوات الروسية إلى بيلاروس من أجل إجراء تدريبات [مناورات تدريبية] تحوّلت لاحقاً إلى غزو برّي.
منذ بداية الاجتياح، استغلّت روسيا بيلاروس لاستهداف منطقة العاصمة ومدينة تشيرنيهيف الشمالية.
نشر الكرملين قواته البرية انطلاقاً من بيلاروس وعبر المنطقة المحظورة المليئة بالغابات التي تحيط بمفاعل تشيرنوبيل النووي. وقد أطلق على أوكرانيا صواريخ باليستية من الأراضي البيلاروسية وقصفت أهدافاً في شمال البلاد.
مع ارتفاع الإصابات الروسية، تحوّلت بيلاروس إلى مكان لفرز حالات المصابين فيما أغرق الجنود مستشفيات البلاد.
وحتى الآن، فيما تزعم روسيا بأنها تُخرج قواتها من كييف في ما وصفته على أنه نهاية مرحلة من عملياتها، تعيد في الوقت نفسه نشرها في بيلاروس، وتبقيها قريبة من العاصمة، على افتراض بأنّ السيد بوتين قد يقرر إعادة تموضع مرة أخرى.
ويقول السيد أستابينيا “لو لم تكن لروسيا القدرة على دخول الأراضي البيلاروسية واستخدام البنية التحتية العسكرية للبلاد، كانت هذه الحرب لتبدو مختلفة وكانت روسيا لتمتلك سطوة [دالة أو نفوذ] أقل شأناً على أوكرانيا”.
توقّع بعض المحلّلين أنّ الدبلوماسيين الغربيين أو غيرهم من المحاورين قد يستخدمون الحرب كطريقة لإبعاد السيد لوكاشينكو عن السيد بوتين.
يقول سامويل راماني، خبير الشؤون الروسية في مركز أبحاث المعهد الملكي للخدمات المتحدة “عملياً، الخطاب الوحيد الذي أسمعه هو “عاقبوا بيلاروس”. ولكن محاولة فصل بيلاروس عن روسيا فكرة سديدة [الأحرى بهم السعي الى مثل هذا الفصل]”.
والموقف الأكثر شيوعاً هو أن الغرب لم يبذل ما يكفي أبداً لمعاقبة السيد لوكاشينكو الذي أثبت أنه ليس مصدر خطر على بلده فحسب.
ويذكر المحللون قيامه عام 2021 بإجبار طائرة راين إير على الهبوط أثناء مرورها فوق بيلاروس، واعتقال المنشقّ رومان بيتروفيتش ومحاكمته كما سماحه للمهاجرين الآتين من الشرق الأوسط بالتدفق عبر الحدود الأوروبية في أواخر العام الماضي.
وتقول السيدة ليوباكوفا “بات يهدد القارة بأسرها وليس دولة صغيرة في أوروبا فحسب. كلما أسرع المجتمع الدولي في إدراك ذلك، كانت مكافحته أسهل”.
على الرغم من العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على البلاد بعد موجة القمع عام 2020، سجّلت بيلاروس فائضاً قياسياً في ميزان التجارة الأجنبي، العام الماضي بلغ 4 مليارات دولار.
حتى دول البلطيق مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا التي تعدّ من بين الجمهوريات السوفياتية السابقة الأشد معارضة للحرب وللسيد بوتين، وصلت إلى مستويات شبه قياسية في تبادلها التجاري مع مينسك. وتعدّ بيلاروس من أكبر المنتجين العالميين لمادة البوتاس، وهي الأملاح الغنية بالبوتاسيوم.
ويقول السيد فياكوركا “يرتبط الأمر بنقص المثابرة والاهتمام في أوساط الأطراف المعنية. بعد المكاسب السياسية، يحصل دائماً تأخير تستخدمه المصالح الاقتصادية لتأخير أي تغيير. وهذا ما ساعد النظام”.
ويقول السيد فياكوركا إن حرب أوكرانيا قد نشّطت المعارضة البيلاروسية. فإلى جانب مخرّبي سكك الحديد، يُرسل مئات المواطنين الصحافيين صور المعدات العسكرية الروسية إلى الأوكرانيين.
ويضيف “يرسل الناس صور الصواريخ والطائرات التي تقلع من الأراضي البيلاروسية، وهذا ما يساعد الأوكرانيين على تنبيه [تأهب واستعداد] أنظمتهم الدفاعية الجوية”.
“كلهم منظّمون بشكل عفوي، بما أنّ قادة المعارضة تركوا البلاد جميعاً عام 2020. لم يكن لدينا هذا النوع من شبكات المخبرين والاستخبارات عام 2020”.
كما ينضمّ مئات الرجال البيلاروسيين إلى الجهد الحربي دعماً لأوكرانيا ويشكّلون إحدى أكثر الوحدات فعالية مقابل القوات الروسية.
في وقت سابق من هذا الأسبوع، أصبح عناصر كتيبة كاستوس كالينوسكي التي تتألف من بيلاروسيين بالكامل، وقد سُمّيت تيمّناً برجل ثوري وكاتب من القرن التاسع عشر، جزءاً من القوات المسلّحة في أوكرانيا بشكل رسمي. وينتظر الآلاف غيرهم من أجل الانضمام إلى الجهد الحربي على نحو أو آخر.
تصف السيدة ليوباكوفا أحد أصدقائها الذي يخوض الآن تدريباً على القتال المديني في كييف، فتقول “لم يتلقّ يوماً أي نوع من التدريب العسكري أو في القوات المسلّحة. إنهم أشخاص مختلفون للغاية، قادمين من بيئات مختلفة للغاية”.
يعلم السيد لوكاشينكو على الأرجح بأنّ الحرب قد شدّت عزيمة المعارضة وفاقمت قلة الثقة والخوف بين الحكومة والشعب وضاعفت المخاطر المحدقة به وبحكمه الذي استمر 28 عاماً تقريباً.
ويقول السيد أستابينيا “من الواضح أنّ الحكومة تشعر بضغط كبير بسبب كل حالات التخريب”.
“وهم يتساءلون “إن كان هذا يحدث الآن، فما الذي قد يحدث لاحقاً” يخشون أن يمتد نطاق هذه الأعمال ويتوسّع أكثر من الآن. ودور الأجهزة الأمنية مشابه تماماً للغراء. على الرغم من كل السيطرة السياسية، لا يزال القمع يمسك بكل شيء”.
المصدر: اندبندنت عربية