في استرجاع غير متأخر لمضمون تعقيب وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، على كلام المفوض الأوروبي، في الجلسة الافتتاحية لمنتدى الدوحة الشهر الماضي، “ما يجري في مدن أوكرانيا من تدمير بالقصف الروسي بالنسبة لهم مثل ما جرى في مدينة حلب، وحلب لم تكن وجعاً لأوروبا حينها مثل وجع أوكرانيا، إذ كانت وجعا لنا نحن العرب”، ولأهمية أن يوقف أحد ما بكائيات العالم الغربي اليوم خلال مقارناتهم، أو توضيحاتهم غير المجدية، وحشية الحرب الروسية على أوكرانيا مع مجازر حلب ودمارها، بعد مضي نحو ستة أعوام على تشريد سكانها، وبعد أن تعالى “عثّ الغبار” على ألسنتهم، وارتأت عبقريتهم الدولية وقف عدّاد ضحايا السوريين، من ثقل وقع أرقامها في أسماعهم، وتسليم ملف القضية السورية لتديره موسكو بمساراتها وأهوائها. في هذا الاسترجاع، يمكن مناقشة الرد السعودي الذي ربما لم ينتبه، أيضا، إلى أن ذلك الوجع العربي لم يُترجم إلى خطواتٍ عملية، على نحو ما حصل في تعاضد الأوروبيين، حكومات ومجتمعات، مع الوجع الأوكراني الشعبي، لسببين: أنه في توقيت مناسب إذا كان للعرب نية فعلية في سحب الملف السوري من التداول الغربي – الروسي ومقايضاته، وطرح العرب قوة فاعلة على التوازي مع ما تفعله أوروبا في مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا. وأنه يأتي متزامناً مع حملة تطبيع عربية مع النظام في سورية، سوّقتها موسكو واعتبرتها أحد أذرعها في العالم العربي، ولم يبق من العرب إلا أقلهم عازفين عن ركوب عربة التطبيع. وعلى الرغم من أنّ السعودية، وقبلها قطر التي لا تزال تقيّد التطبيع بشروط ملزمة على النظام السوري، لكنّ إعلام المملكة قد عاكس موقفها مرحباً بعودة سورية إلى حضنها العربي، وكأنّه مقدّمة لما هو تحت طاولة القمة العربية أو في مجالسها!
نعم، يستدعي، وبألم كثير، الردّ على فورة التصريحات الغربية “المقارنة” المتأخرة عن إجرام روسيا في سورية، لكن من دون أن ننسى أنّ الأوروبيين وحّدوا مواقفهم وتحالفاتهم العاطفية في وقوفهم إلى جانب ضحايا الحرب الروسية على أوكرانيا، على غير ما فعلته الدول العربية، بل عزّزت تلك المشاعر التي أبدتها المجتمعات في البلدان الأوروبية مواقف أنظمة الحكم ومتّنتها في دولها، ما يؤكد أنّ الكلمة العليا في إدارة مصالح البلاد لشعوبها، حتى حين يكون القاسم المشترك خسائر في البنى الاقتصادية على حد سواء بين الشعوب وحكّامها، ما يعني أنّ الحرب الروسية على أوكرانيا تستمرّ في إعطاء الدروس القاسية لشعوبنا وأنظمتنا العربية، فهم أمام الدمار والدم الإنساني المستباح نفسيهما، وبالآلة العسكرية نفسها، وبقرار مدروس، بل، ومجرّب بكل تفاصيله بنسخة سابقة في الجنبات السورية (بناسها وبنيانها) من الرئيس الروسي ذاته، فلاديمير بوتين، لكنّه عند الأنظمة العربية، ضاع وسط ضجيجٍ مفتعل، وضاعت معه معالم المواقف الحازمة ضد حربٍ غاشمة على مدن سورية، ركب أبناؤها جنوح طموحهم في طلب الحرية والكرامة، في تفاصيل قد لا تفترق في جوهر معنى صوْن الحريات عن أسباب الحرب على أوكرانيا.
صحيحٌ أنّ الصحوة في تصريحات الغرب أخذت مساحاتٍ جديدة حول ما جرى في حلب من دمار، وهو للتوضيح (لا يزيد كثيراً عما حصل في مدن سورية عديدة من درعا إلى حمص وريف دمشق وإدلب وغيرها)، إلا أن الصحيح أيضاً أنها بقيت في حدود ضرب المثل على شدّة الفتك الروسي بضحاياه البشرية والعمرانية، ولم تكن سبباً للندم (التأنيبي) يوجب عليهم أن يعيدوا تقييم الوضع، ويفنّدوا نتائج الانفلات الروسي من عواقب أعماله في سورية، ليجرؤ على مزيد منها في أوكرانيا، وهو ما يحصل اليوم ويتمدّد أثره إلى ما بعد “بعد” أوكرانيا.
هو واحدٌ من دروس الحرب الروسية على أوكرانيا ما جرى من تضامن أوروبي حكومي – شعبي مع أزمة اللجوء الأوكرانية، والقلوب المفتوحة قبل الحدود، والتمايز مع ما جرى عربيا في أزمة اللجوء السورية، والأبواب المغلقة في مكان، والمواربة في أماكن أخرى، وافتتحت على مضضٍ في دول ثالثة، وصار يعلّق فساد حكومات وفشل مشاريع وفوضى أمن وانعدام سلام على ضحايا حرب “اللاجئين” الهاربين من حربٍ شنها النظام بالتعاون مع إيران وروسيا عليهم، هذا الدرس الذي لا يتقن الأوروبيون الحديث عنه في مناهجهم وشعاراتهم وصحفهم وأماكن عباداتهم، كما نفعل نحن العرب، لكنهم عرفوها بالفطرة، ومارسوها بالفعل النبيل الذي شهدناه في كل الدول الأوروبية، فلم يضطرّ اللاجئون الاوكرانيون لمواجهة الغرق في البحر للعبور إلى دول أخرى، ولا لقطع المسافات بين الدول مشيا على الأقدام، ولا للتهرّب من حرس حدود هذه الدولة أو تلك. في حين حصل هذا كله للسوريين، وبالضبط بسبب تنكّر الدول العربية لهم، وهي التي يُفترض أنّ روابط قومية، ودينية، وثقافية، وتاريخية، ومشاعر الآلام والآمال، تجمعها بالسوريين، بل حيث تمكّن السوريون من دخول دول عربية لم يُستقبلوا بمثل تلك الرعاية والاحتضان “وضعنا في مخيمات معزولة” على غير ما قابلت بها المجتمعات الأوروبية اللاجئ الأوكراني.
من المهم جداً أن يبقى الرد السعودي على طاولة السوريين للتداول، لأنّه قد يمثّل نقطة بداية لمن يرغب بإعادة الاعتبار إلى العمل العربي في الملف السوري، على أساس الانتصار للضحايا، وليس التطبيع مع الجريمة ومرتكبها. ربما يكون مما جرى في الدوحة، على كلّ مستوياته، بداية جديدة للسوريين ليس فيها “سلطة سورية معارضة” فأهم الدروس الأوكرانية أنّ المعارضة التي تشتريها الدول بالمال تبيع مواقفها عند التّجار، والمتاجرين بالقضية السورية صاروا بالقنطار.
المصدر: العربي الجديد