توقع قليلون أن ينفذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تهديده بشن غزو على نطاق شامل لأوكرانيا. كما توقع عدد أقل حتى من هؤلاء، أن تستجيب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وشركاؤهم الديمقراطيون الرئيسون، بمثل هذا التصميم.
شاهد قوة المجتمع الديمقراطي الليبرالي الفعال والمسلح بشكل كامل، فقد انفصل بشكل كبير وبسرعة مذهلة عن الاقتصاد الروسي، وبذلك تم عزل البلاد وحرمانها من كثير من فوائد النظام الاقتصادي الليبرالي، كما وضع يده على يخوت بعض الكليبتوقراطيين [المتنفذين الفاسدين أو اللصوص [الروس، وتعهد تعقب ثرواتهم في الخارج، ووجه ضربات استباقية بشكل عدواني إلى حملة التضليل الروسية المضللة، كما اتخذ إجراءات صارمة حيال منابر الدعاية الروسية. ولم تكتفِ ألمانيا بالانضمام إلى الكثير من حلفائها في الناتو بإمداد أوكرانيا بالمساعدة العسكرية، بل التزمت أيضاً زيادة الإنفاق الدفاعي بحيث يصبح أكثر من 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي. وفي أعقاب الغزو، لم يعد الأمر يتعلق بما إذا كانت فنلندا والسويد ستعززان روابطهما العسكرية مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، بل بالأحرى كيف ستفعل ذلك.
وفي الوقت نفسه، لم تواجه الحكومة الأوكرانية الانهيار من الداخل كما توقع الكرملين. وكان أداء القوات المسلحة الروسية التي تعاني العديد من المشاكل العملياتية، أقل مما كان متوقعاً بشكل كبير. وفي مواجهة الضغوط العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية المتنامية، فإن بوتين يتجه إلى الاستبداد الكامل (بشكله الأقصى)، إذ راح يفرض قيوداً على التعبير والمجتمع المدني لم تشهدها روسيا منذ الحقبة السوفايتية، ومنذ بدء الغزو هرب عشرات الآلاف من الروس من البلاد. وقد اختل توازن أنصار بوتين من الشعبويين الرجعيين والمستبدين المحافظين في أوروبا وأميركا الشمالية، أقله في الوقت الحالي. ولا يسع بكين إلا أن تلاحظ متاعب القوات المسلحة الروسية، ونطاق العقوبات الغربية، وأيضاً المساعدات العسكرية الكبيرة التي تتدفق على أوكرانيا.
وهذه ليست قضية صغيرة، فقد بدا قبل بضعة أسابيع فقط، أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وكبار شركائهم الديمقراطيين، إما غير مستعدين، أو عاجزين عن وضع حد لـ”المد غير الليبرالي” الدولي. وقد سارع المعلقون إلى ملاحظة السخرية الكامنة في ذلك. وكتب مايكل بيكلي وهال براندز يقولان إن بوتين قد وفر للولايات المتحدة وحلفائها “فرصة تاريخية” حتى “تُعيد بناء النظام العالمي الذي بدا في الآونة الأخيرة وكأنه يمضي إلى التداعي”. وكما جادلنا في عدد يناير (كانون الثاني)/ فبراير (شباط) من “فورين أفيرز”، فإن تفكك النظام الليبرالي العالمي “ليس إلا مظهراً واحداً فقط من مظاهر أزمة أوسع نطاقاً بكثير” تتعلق بـ”الليبرالية نفسها”.
تطورت هذه الأزمة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد اتبعت القوى الديمقراطية الليبرالية الرئيسة منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي نسخة مفتوحة بشكل جذري من النظام الليبرالي، ولا سيما على شكل سياسات اقتصادية نيو ليبرالية [ليبرالية جديدة] مثل تنقل رأس المال غير المقيد. نشرت هذه السياسات بادئ الأمر ديمقراطية السوق، لكن خلال العقد الأول من القرن الحالي أخذت تغييرات مترابطة في النظام العالمي تدعم، كما كتبنا، “مجموعة منوعة من القوى غير الليبرالية، بما في ذلك دول استبدادية، مثل الصين التي ترفض الديمقراطية الليبرالية جملة وتفصيلاً، علاوة على الشعبويين الرجعيين والمستبدين المحافظين الذين نصبوا أنفسهم كحماة لما يسمى القيم التقليدية والثقافة الوطنية، في الوقت الذي يواصلون فيه تدريجياً تخريب المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون”.
لا يزال من السابق لأوانه بكثير معرفة ما إذا كان غزو روسيا لأوكرانيا سيؤدي إلى تجديد نشاط المشروع الليبرالي. ومع ذلك، هناك سلفاً مؤشرات على فيض من اللامنطقية بين بعض المراقبين الأميركيين والأوروبيين. وهذا يمكن أن يسبب بعض المتاعب، وخصوصاً إذا أساء صناع السياسة قراءة اللحظة على أنها، مثلاً، تفتح الباب على نهاية أزمة النظام الليبرالي أو على استعادة الهيمنة الغربية على المستوى العالمي.
خطر الغطرسة
لم تكن واشنطن على الإطلاق، ولا حتى خلال ذروة القوة الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة (ما يسمى “اللحظة أحادية القطب”)، أطلساً للعصر الحديث، أي عملاقاً يحمل النظام العالمي فوق كتفيه. كان النظام الليبرالي الذي ظهر في تسعينيات القرن الماضي مكوناً من كارتل فضفاض لدول ومؤسسات دولية [ومسؤولاً عن] الحفاظ على هذا الكارتل الذي كان في الحقيقة، أشبه باتحاد كونفدرالي غير رسمي أكثر منه بتوافق تقليدي بين القوى العظمى. واشتملت مرتكزاته الرئيسة على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة السبع ومنظمة حلف شمال الأطلسي، إضافة إلى سلسلة من التحالفات الثنائية والشراكات الاستراتيجية.
إن الهيمنة الاقتصادية والعسكرية لهذا الكارتل الديمقراطي الليبرالي، لم تكن لتدوم، على الإطلاق. وأحد أسباب ذلك هو أن حصة مجموعة السبع من النتاج الاقتصادي العالمي كانت آخذة في التراجع سلفاً مع حلول أواسط تسعينيات القرن الماضي. وثمة سبب آخر يكمن في أن الهيمنة الديمقراطية الليبرالية اعتمدت على الإذعان، إن لم يكن على التعاون، من جانب دول استبدادية وقوى عظمى غير ليبرالية.
ونظراً إلى وجود نقاط الضعف كهذه، كان ينبغي أن يؤدي صعود الصين وانبثاق القوة الروسية من جديد، إلى إقامة تعاون استرتيجي أوثق من أي وقت مضى بين أعضاء الكارتل الديمقراطي الليبرالي. غير أن الحال لم يكن هكذا على امتداد العقدين الأخيرين. وسرعان ما أفسحت الجهود المكثفة المفاجئة لتوحيد الصفوف في أعقاب هجمات 11/9 على الولايات المتحدة الأميركية المجال لخلافات نتجت من الكشف عن “الاستجوابات المعززة” و”عمليات التسليم الاستثنائية” التي قامت بها الولايات المتحدة، ومن حرب العراق و”العقيدة الاستباقية” لإدارة بوش، إضافة إلى استراتيجيات متباينة من أجل إدارة روسيا والصين. وبدلاً من زيادة التماسك الديمقراطي الليبرالي، أدى التراجع النسبي الذي اقترن ببعض أخطاء السياسة الرئيسة، إلى تقويض النظام الليبرالي، فقد ساعد على دق إسفين بين القوى الديمقراطية الليبرالية الرئيسة في الوقت الذي قام فيه بتمكين الحركات السياسية غير الليبرالية، من نوع الشعبوية الرجعية.
وتبين الاستجابة إلى حرب بوتين في أوكرانيا ما يمكن أن تحققه الديمقراطيات الليبرالية إذا عملت مع بعضها بعضاً بشكل متضافر. تأمل واحداً من أكثر التطورات إثارة للدهشة، وهو فرض عقوبات على البنك المركزي الروسي من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان. فهذه الخطوة غير المسبوقة التي يسميها الاقتصادي آدم توز “الخيار النووي” للعقوبات الاقتصادية، تطلبت تنسيقاً استثنائياً بين مراكز القوة المالية الغربية، فقد خسر البنك المركزي الروسي في غضون 24 ساعة إمكانية الوصول إلى 388 مليار دولار (نحو 295 مليار جنيه استرليني)، أو 60 في المئة، من مخزونه الاحتياطي الذي يبلغ 643 مليار دولار (نحو 490 مليار جنيه استرليني). ونظراً إلى اقتراب الروبل من الدخول في حالة سقوط حر، اضطرت الحكومة الروسية إلى فرض ضوابط على الرأسمال بحكم الأمر الواقع، وتقييد عمليات سحب العملات الأجنبية وإجبار الشركات الروسية على بيع القطع الأجنبي. أدت العقوبات الشاملة والاشمئزاز الدولي من الغزو، جنباً إلى جنب مع رد الفعل الشعبي العنيف ضد بوتين إلى نزوح مئات الشركات الغربية من روسيا، بما في ذلك مزودو أنظمة الدفع، وتجار التجزئة ومستثمرون في مجال الطاقة.
ويمكن لعروض القوة من هذا النوع أن تخلق مشاكلها الخاصة، فقد تستنتج حكومات ديمقراطية ليبرالية بشكل خاطئ أنها تستطيع استعادة مواقعها القيادية العالية التي كانت تحتلتها قبل عقدين من الزمن. ما كان ينبغي أن يكون هناك أي شك على الإطلاق في أن الديمقراطيات الليبرالية تشكل أقوى مجتمع سياسي على هذا الكوكب حين تعمل معاً، لكن مما لا جدال فيه أن هذه الدول قد فقدت بعض اعتبارها وتراجعت قوتها منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي والسنوات الأولى في هذا القرن. لقد أوشك تحول الصين إلى قوة عظمى أن يكتمل، ومن المرجح أن شيئاً لن يحرفه عن مساره إلا انهياراً ملحمياً طويلاً. ولا تعني حقيقة أن المحللين العسكريين الغربيين قد بالغوا في تقدير القوة العسكرية الروسية كما يبدو، أن روسيا هي ببساطة كما وصفها السيناتور الراحل جون ماكين “محطة وقود متنكرة على هيئة دولة”.
يميل العديد من الأميركيين إلى التعامل مع قوة الولايات المتحدة كما لو كانت صنماً، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بقدراتها العسكرية، والتقليل إلى حد كبير من الدرجة التي تكون فيها هذه القوة عبارة عن وظيفة من وظائف العضوية في كارتل ديمقراطي ليبرالي. ومن الممكن رؤية هذا الدافع في الحديث عن الولايات المتحدة كـ”دولة لا يمكن الاستغناء عنها” خلال إدارة كلينتون، وفي استعداد إدارة جورج دبليو بوش لإلحاق الضرر عمداً بتماسك المجتمع الديمقراطي الليبرالي. وبالمثل، فقد يتحول نجاح الولايات المتحدة في أوكرانيا في نهاية الأمر مصدراً لتغذية “أميركا أولاً” المتغطرسة للشعبوية الرجعية.
وثمة طريقة أخرى يمكن من خلالها للتطورات الراهنة أن تضفي مزيداً من المنطقية على سياسة خارجية تخدم “أميركا أولاً”، فضلاً عن جعلها أقل شوفينية وأقل عسكرية كاستراتيجيات لضبط النفس. وقد ناقش ستيفن والت، وهو واقعي بارز ومدافع عن “التوازن الخارجي” بأن “الحرب في أوكرانيا تظهر أن تولي أوروبا مسؤولية أكبر بشأن أمنها ليس أمراً مرغوباً فحسب، بل هو ممكن أيضاً”. ويعني هذا أن نجاح العمل الجماعي الديمقراطي الليبرالي في مواجهة العدوان الروسي، يقدم دليلاً بأن المجتمع عبر الأطلسي يجب أن يقلص الاعتماد السياسي والأمني المتبادل.
إن إعادة التوازن إلى المجتمع الديمقراطي الليبرالي، بطرق تمنح أوروبا صوتاً أعلى وقدراً أكبر من المسؤولية، من شأنها بالتأكيد أن تسهم في تمتع القارة بالصحة على المدى الطويل، لكن ترك أوروبا تعمل وحدها من شأنه أن يضعف كثيراً، إن لم يدمر الكارتل الديمقراطي الليبرالي في الوقت الذي يواجه فيه أكبر تحدياته منذ الحرب الباردة. وتذكر الديناميكية التي تتجلى هنا بمفارقة التلقيح، التي تشتمل على أن النجاح الساحق للقاحات الطفولة يحمل الناس على الاستنتاج بأن اللقاحات لم تعد ضرورية.
الغني لص
لطالما استغل الكليبتوقراطيون نقاط الضعف في النظام الليبرالي الاقتصادي والسياسي. ولقد أصبحت روسيا لاعباً أساسياً في نظام معولم لحكم اللصوص، وذلك بفضل المساعدة المتحمسة من قبل مديرو الثروات، والشركات، والحكومات الغربيون. ونقل الأوليغارشيون الروس الأموال بشكل سلس عبر شركات وهمية في الخارج. ولقد أمنوا الإقامة والجنسية لعائلاتهم بموجب برامج “تأشيرة الدخول الذهبية” المختلفة للمستثمرين في دول غربية. وقد استثمروا في العقارات الفاخرة، وهو قطاع خالٍ عملياً من أي مراقبة ذات معنى. وعمدوا على الدوام إلى إضفاء صبغة حسنة على صورتهم العامة من خلال تمويل مؤسسات ثقافية بارزة، والتبرع للجامعات، ودعم سياسيين، وجماعات المصالح السياسية. ويستمر هؤلاء باستخدام شركات لإدارة السمعة التي تلجأ، من بين نشاطاتها الكريهة الكثيرة، إلى ترهيب الصحافيين والباحثين الذين يهددون بفضح الماضي الفاسد لعملاء هذه الشركات.
وقد حفز غزو أوكرانيا حكومات ديمقراطية ليبرالية على التعامل بجدية مع الكليبتوقراطية] حكم اللصوص [الروسية. وتذهب الخطوات التي اتخذت سلفاً إلى مدى أبعد بكثير مما كان يمكن لمناهضي الكليبتوقراطية أن يأملوا به. هكذا اتخذت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إجراءات حجز على الممتلكات، وتجميد أصول، وحظر سفر، في حق مجموعة كبيرة من الأوليغارشيين المرتبطين بالكرملين. وقد حجزت دول الاتحاد الأوروبي يخوتاً تعود إلى عدد من الشخصيات الأكثر ثراءً وقوة في روسيا، بمن فيهم أليشر عثمانوف، وصديق بوتين المقرب إيغور سيتشن. كما فرضت الحكومة البريطانية عقوبات على رومان أبراموفيتش، وهو الملك البارز لنادي تشيلسي. وأعلنت الولايات المتحدة عن تشكيل “كليبتوكابتشر” (ضبط الكليبتوقراطيين) وهي فرقة عمل مشتركة بين الوكالات مصممة للكشف عن الأصول المخبأة المملوكة لروس واستهدافها.
بطبيعة الحال، فإن روسيا ليست الدولة الوحيدة التي يستغل الكليبتوقراطيون فيها النظام الليبرالي ويقوضونه. وتستفيد شركات أميركية، وسياسيون غربيون، ومليارديرات صينيون من العديد من الثغرات ذاتها ومزودي الخدمة أنفسهم. وفي عالم مثالي، من شأن الإجراءات المتخذة ضد الأوليغارشيين الروس أن تصبح أساساً لحملة قمع عامة ضد الشركات التي تجني الربح من المشاريع الدولية للتهرب الضريبي، وتبييض صفحة الكليبتوقراطيين وثرواتهم، وكل ما يأتي بينهما. وسيعني هذا وجود التزامات وطنية واسعة النطاق ومتعددة الأطراف لمعالجة صعود الأوليغارشية العالمية، التي كانت روسيا دولة مصدرة بارزة لها.
وفي الوقت الحاضر، يبدو أن تعبئة واسعة النطاق كهذه مستبعدة، ذلك أنها تصطدم بالعديد من المصالح الراسخة، التي تقوم بتمكين مقدمي الخدمات والسياسيين الذين يخدمونهم. ومع ذلك فإن غزو أوكرانيا وما نجم عنه من البطش بالأوليغارشيين الروس، يسلط ضوءاً قوياً على الكيفية التي تتسبب بها الكليبوتوقراطية العابرة للقوميات بتآكل الأنظمة السياسية، وبتهديد الأمن القومي للديمقراطيات الليبرالية. وقد يؤدي وصم الأوليغارشيين الروس إلى تقوية المدافعين عن إجراءات مكافحة الفساد وتمكينهم من العمل بحزم أشد وفاعلية أكبر أثناء سعيهم إلى فضح مالكين مستفيدين، أي أولئك الذين يملكون أو يسيطرون على أعمال أو أصول شركة، وتفكيك مشاريع تأشيرة الدخول الذهبية وجوازات السفر، وفتح تحقيقات حول المصادر المريبة لثروات غير مبررة.
تمثل حملات التضليل والمال المظلم [تجمعه منظمات غير ربحية أميركية من أجل التأثير في نتائج انتخابات] تمثل تحدياً أكثر تعقيداً حتى من عملية غسل أصول كليبتوقراطية غسلاً مباشراً. عمدت ديمقراطيات ليبرالية عديدة إلى إغلاق عمليات منابر إعلامية تابعة للدولة الروسية، لكن غالباً ما تلعب مؤسسات إعلامية دوراً أهم بكثير حين يتعلق الأمر بتقويض الثقة المؤسسية، والتماسك الاجتماعي والقيم الديمقراطية. ربما أعلنت “آر تي أميركا” فرع محطة “روسيا اليوم” التي تملكها الحكومة الروسية، في أميركا أنها ستتوقف عن العمل في الولايات المتحدة بعد أن تمت إزالتها من تلفزيون الكابل ومنصات التكنولوجيا، إلا أن توكر كارلسون من “فوكس نيوز” يتابع ترويج المعلومات المضللة والدعاية الصديقة للكرملين، أمام جمهور أكبر بكثير من جمهور “آر تي أميركا”.
بصرف النظر عن مدى عدم ليبراليتها من حيث المنظور، فإن المنابر الأخبارية المحلية تستحق أن تشملها إجراءات حماية حرية التعبير، لكن لقد حان الوقت منذ زمن لا بأس به لاتخاذ إجراءات يسمح بها الدستور من أجل فرض المزيد من القيود على قدرة حكومات أجنبية، وخصوصاً الاستبدادية منها، على التأثير في السياسة الأميركية. وعلى الرغم من أن معالجة المال المظلم بشكل كافٍ غير ممكنة على الأرجح من دون قلب منظمة “ستيزن يونايتد” (المواطنين المتحدين) غير الربحية المحافظة بطريقة أو بأخرى، ويمكن للمنصات الإعلامية المسؤولة اتخاذ إجراءات منسقة للحد من النشر المتعمد للدعاية الاستبدادية. وليس مطلوباً من مزودي تلفزيون الكابل أن يقدموا هذه الشبكات التي تروجها. كما يمكن للناشطين أن يبذلوا المزيد من الجهود لمقاطعة الرعاة.
تمثل البوتينية نموذجاً مهماً للسلطة الفاسدة والحكم الاستبدادي، لكن ينبغي فهمها كجزء من موجة كليبتوقراطية غير ليبرالية على صعيد العالم. إن التضليل السياسي والمال الكليبتوقراطي هما الناقلان الرئيسان اللذان تستعملهما أنظمة استبدادية لاستغلال النظام الليبرالي العالمي. وهما أيضاً اثنتان من الأدوات الأساسية التي يستخدمها المستبدون المحليون والشعبيون الرجعيون من أجل تقويض الديمقراطية الليبرالية من الداخل. وستتطلب معالجة تأثيرهما المدمر تبادلاً للمعلومات على نطاق أوسع وتنسيقاً مستداماً بين وكالات مكافحة الفساد والهيئات التنظيمية في أنحاء المجتمع الديمقراطي الليبرالي.
شركاء بدوام جزئي
وحتى مع الاستجابة إلى الغزو الروسي، فقد كان هناك انقسام هام بين دول تمثل جوهر الديمقراطية الليبرالية، أي أوروبا والولايات المتحدة وحلفائهما مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وبين دول أخرى، معظمها في النصف الجنوبي للكرة الأرضية. وهناك العديد من دول المجموعة الأخيرة التي تعاني انقسامات كثيرة، وتُبدي مزيداً من التناقض بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا. انقسامات كثيرة، تأمل قرار الأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي، فقد صوتت لصالحه 141 دولة، وصوتت ضده 5 دول، فيما امتنعت 35 دولة عن التصويت (بينها 12 دولة، منها أذربيجان، وتركمانستان، وأزوبكستان، وفنزويلا، اختارت عدم التصويت على الإطلاق، لكن كان بين الدول التي امتنعت عن التصويت خمس هي، الصين والهند وباكستان وبتغلاديش، وجنوب أفريقيا، التي تمثل معاً نصف البشرية تقريباً).
لا يجب أن يُفاجأ أحد بامتناع الصين عن التصويت. من جهة، إن صناع السياسة الصينيين جادون في تجنب تقديم أي دعم لروسيا من شأنه أن يعرضهم لشبكة العقوبات الغربية. وعلى سبيل المثال، علق بنك استثمارات البنية التحتية الآسيوي، وهو بنك التنمية الذي أسسته الصين في عام 2016، نشاطاته ذات الصلة بروسيا وبيلاروس، كما أعلنت الصين أنها لن تزود موسكو بقطع غيار بديلة لشركة الطيران. مع ذلك، فليس من مصلحة بكين أن تؤيد الغرب ضد حليفها الاستراتيجي. وعلى العكس، فإن المؤسسات الرسمية الصينية للأنباء كررت بث موضوعات النقاش الروسية التي تلقي باللوم على الولايات المتحدة، وحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي، بسبب اندلاع الحرب كما نشرت المعلومات الروسية المضللة حول الأسلحة الأميركية البيولوجية.
وبدورها، تعكس حيادية الهند تجاه الغزو اعتقاد نيودلهي الأساسي أن بإمكانها أن تحافظ على شراكاتها الاستراتيجية مع كل من روسيا والولايات المتحدة. وتبقى الهند من كبار مستوردي الأسلحة من روسيا، وقد اشترت أخيراً ثلاثة ملايين برميل من النفط الروسي بسعر مخفض. وبين الدول الأخرى التي التزمت الحياد، كل دول آسيا الوسطى الخمس من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق التي امتنعت عن التصويت بنعم أو لا، أو لم تصوت بالمرة، علاوة على 16 دولة أفريقية تحتفظ بروابط تجارية وعسكرية مع روسيا. ويخشى بعض هذه الدول من الضغط الروسي، غير أن دولاً أخرى تهدف إلى تحويط رهاناتها الجيوسياسية [بما يشبه السياج الذي يحميها]، وتعارض العقوبات انطلاقاً من المبادئ والمصالح الذاتية، كما تسعى إلى الحفاظ على قدرتها لمغازلة روسيا كراعية وشريكة.
حتى إن بعض هذه الدول التي أيّدت قرار الأمم المتحدة لا تعتزم فرض عقوبات على روسيا. وقد اتخذت الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال، لنفسها وضعية الملاذ المهم بالنسبة لهروب رؤوس الأموال الروسية إلى الخارج. وستسمح القوانين الضريبية في إسرائيل للأوليغارشيين الروس المؤهلين بغسل الأصول. وعلى الرغم من عضويتها في حلف الناتو، ومن تأييدها للقوات المسلحة الأوكرانية، يبدو أن تركيا تستعد أيضاً للسماح بإعادة تسجيل شركات روسية تحت أعلام تركية وبأن تلعب بنوك تركية دور الوسطاء لروسيا. ونتيجة لذلك، ستواجه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وأعضاء آخرون يسهمون في نظام العقوبات الجديد خياراً صعباً يتمثل في ما إذا كان يتوجب عليها أن تعاقب حلفاءهما الاستراتيجيين أنفسهم، أو أن تترك هؤلاء الحلفاء يخربون نظام عقوباتها ذاك.
حتى إن الأمر الأكثر أهمية هو أن ارتفاع أسعار الطاقة، والمواد الغذائية، والسلع الناعمة من شأنه أن يزيد من انعدام الأمن المالي على مستوى العالم. وقد يؤدي التضخم وارتفاع أسعار الطاقة إلى اضطرابات عالمية ويبني حالة من الاستياء ضد استخدام الغرب للاقتصاد العالمي كسلاح. وكما كانت الحال عليه في أعقاب الكساد العالمي في عام 2008، فإن النزعة غير الليبرالية قد ازدهرت خلال فترات الأزمات المالية وحالات الشك الاقتصادي.
الفيل في الغرفة
والمفارقة أن غزو أوكرانيا يمكنه أن يظهر أن أكبر المخاطر التي تتهدد النظام الليبرالي تبقى ضمن الدول الديمقراطية الليبرالية نفسها. والخطر في الولايات المتحدة هو أكبر منه في أي مكان آخر. وستكون الجهود الرامية إلى الدفاع عن النظام الليبرالي وإصلاحه دائماً في خطر طالما بقي مسموحاً للفصائل المُعادية للديمقراطية أن تتغلغل في الحزب الجمهوري. وخلال عهد ترمب، لم تكتفِ هذه الفصائل بدعم نهج بوتيني على الطريقة الأميركية، اشتمل على التجاوزات الصريحة للضمانات المؤسسية وشيطنة وسائل الإعلام المستقلة، بل ودعم بوتين نفسه أيضاً.
وتوضح المحاولة الأولى لعزل ترمب ذلك الخطر. وفي مواجهة أدلة طاغية بأن الرئيس قد حاول ابتزاز الحكومة الأوكرانية بشأن نقل أسلحة أميركية دفاعية، فإن الحزب الجمهوري رصّ الصفوف من أجل معارضة عزله في مجلس الكونغرس، ومن ثم لتبرئته في مجلس الشيوخ. وفي سياق العملية، شوّه [الحزب الجمهوري] سمعة مسؤولي السياسة الخارجية المحترفين، وضخم الرسائل الروسية ضد أوكرانيا. والأكثر مدعاة للقلق هو أن ترمب نفسه قال لمستشارين إنه قد خطط لسحب الولايات المتحدة من حلف الناتو في ولاية رئاسية ثانية [في حال فوزه في انتخابات 2024].
ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن لدى يمين الوسط في الحزب الجمهوري أقوى فرصة سنحت له في سنوات لرفض هذه الميول. وربما ستحمل حرب بوتين الرامية إلى القضاء على ديمقراطية صاعدة، الحزب الجمهوري على إعادة اكتشاف قيمة الديمقراطية الليبرالية. ولربما ستجعل بعض أعضاء الحزب يعيدون النظر في حملتهم الهادفة إلى تفكيك المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة، وهي جهود أكثر تقدماً على مستوى الدولة [منها في المجالات الأخرى كلها]، لكن إذا انتخب دونالد رتمب، أو أحد مثله، لرئاسة البلاد في عام 2024، ستكون الرهانات كافة قد انتهت.
ألكسندر كولي هو أستاذ كرسي كلاير تو لعلم السياسة في كلية برنارد، بجامعة كولومبيا.
دانيال إتش. نيكسون هو بروفيسور في قسم الحكومة وفي كلية والش للخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون.
فورين أفيرز: 29 مارس 2022
المصدر: اندبندنت عربية