بعد أحد عشر عامًا على انطلاق الثورة السورية مازال الخلاف طافيًا على السطح بين من يعتبرون أنها انطلقت يوم ١٥ آذار/مارس من مظاهرة سوق الحميدية في دمشق ومن يعتبرون أنها بدأت بجمعة الكرامة في ١٨ آذار/مارس في درعا يوم ارتقت أول قافلة من الشهداء إلى سماء الحرية. وهناك أيضًا من يعتبر البداية من مظاهرة الحريقة يوم ١٧ شباط/فبراير ٢٠١١.
وبعض الأخوة الأكراد يرغبون في اعتبار يوم ١٧ آذار/مارس ٢٠٠٤ بداية الثورة السورية حيث كانت أول مواجهة شعبية علنية مع النظام الديكتاتوري.
لا شك أن كل هذه الأيام كانت أحداثًا هامة وجذور عميقة تم توثيقها وكذلك كان هناك الكثير من الجذور الأخرى التي لم تنل حقها تمامًا مثل المظاهرة الانتحارية يوم ١٦ آذار/مارس ٢٠١١ أمام مبنى وزارة الداخلية التي تم مواجهتها بالعنف المفرط وتم اعتقال معظم من شارك فيها، كذلك كان قبلهم الكثير من المظاهرات والاعتصامات السابقة التي لم تنل حقها من التغطية الإعلامية و التوثيق. وجنازة نزار قباني مثلًا التي كانت مظاهرة مبتكرة -في صيغة جنازة- ضد الاستبداد و من أجل الحرية.
و لكن كل تلك المحاولات الشجاعة والمخلصة.. كانت إرهاصات أبدت استعدادًا وهيأت تربة خصبة لثورة عظمى. لكن من وجهة نظري أن يوم ٢٥ آذار/مارس يوم “جمعة العزة” هو بداية الثورة الحقيقية. فبعد الأحداث المتتالية المتسارعة من بداية شباط/فبراير ٢٠١١ حتى ١٨ آذار/مارس والمواجهة الأولى في درعا والتي أعتقد جازمًا أن النظام هو من خطط لها لاستجرار المواجهة المبكرة مع الشعب قبل أن تنضج أطر أكثر تنظيمًا. وما فعله عاطف نجيب لم يكن خطأ شخصيًا منه أو شطحة جنون. بل كان جزءً من خطة أمنية مرسومة مسبقاً.
يبدي خطوطها العريضة المبالغة غير الواقعية في الاستفزاز، ثم عدم معاقبته ليس لأنه ابن خالة الرئيس كما يتوهم البعض، فلو كان فعلاً ارتكب خطأً يهدد أمن النظام (من وجهة نظر الحلقة الضيقة الحاكمة) لكان الآن راقدًا إلى جانب غازي كنعان والزعبي رغم قرابته، ولكن من استعراض الأحداث المتوالية وشهادات بعض من انشقوا عن النظام في مرحلة لاحقة وأهمها شهادة مدير مكتب وزير الداخلية عناد العباس، الذي كشف عن بعض المعلومات الهامة عن الخلاف الذي كان بين أجنحة السلطة من أقلية كانت ترى ضرورة تخفيف الاحتقان والسعي لحل سياسي ويمثلها فاروق الشرع نائب الرئيس في المستوى السياسي واللواء سعيد سمور وزير الداخلية في المستوى الأمني والذي استدعي إلى القصر -حسب شهادة العباس- ووجه له توبيخ شديد لما اعتبرته القيادة تهاونًا في طريقة معالجته لمظاهرة الحريقة.
لقد بدى واضحا أنه من أواخر شباط/فبراير ٢٠١١ أن أنصار الحل الأمني الخشن في النظام قد حققوا انتصارًا حاسمًا، وتم وضع الخطة الأمنية بشكل عكسي وهي ليست انتظار الأحداث حتى تتطور، بل باستجرار منطقة أو محافظة لمواجهة مبكرة وضربها بقسوة مفرطة تكسر الروح المعنوية وتوقف كل بوادر الحراك الشعبي. (وكان واضحًا سيطرة سندروم التجربة التي استحضرت أسلوب معالجة النظام لمواجهة الحراك الشعبي ١٩٨٠ – ١٩٨٢).
لقد جاءت حادثة أطفال درعا وقتها وكان ممكنًا أن تمر بأبسط مما كان بكثير لو لم تكن الخطة الأمنية هي الاستفزاز إلى أعلى درجة لدفع المدينة لمواجهة مبكرة تجعلها عبرة قاسية لكل المحافظات والمدن الأخرى لتحطيم الروح الثورية وإخماد جذوة الحراك الشعبي في مهدها.
سارت خطة النظام بداية كما أرادها بمواجهة قاسية عاجلة بالرصاص الحي فورًا -وذلك لا يمكن أن يحدث في نظام توتالوري مثل نظام حافظ- دون أن يكون هناك قرار متخذ مسبقًا من أعلى المستويات!! ثم جاءت المرحلة الثانية من الخطة الأمنية المرسومة بمحاولة حصر الأحداث في مدينة درعا وحدها، لكنها فشلت بسبب الامتدادات العائلية والقبلية التي نقلتها بسرعة إلى معظم مناطق محافظة درعا، و لغاية هذا الحد كان ضمن حدود المقبول وفق خطة النظام الأمنية للحل
ولكن غير المقبول بالنسبة له كان امتدادها خارج المحافظة.
وخلال الفترة الممتدة من ١٨ آذار/مارس يوم الكرامة الى ٢٥ آذار/مارس يوم العزة استخدم النظام أقصى طاقات الآلة الإعلامية والأمنية في سبيل حصر الأحداث وتطويقها للاستفراد بدرعا وأهلها.
فتم نقل التهديدات بكافة الوسائل المباشرة وغير المباشرة لكل من يتجرأ على المساندة أو التضامن بأي شكل من الأشكال. حتى وصلتنا التهديدات في أقصى أصقاع الأرض.
وساد جو من الرعب، لا سيما أن كل ما حصل لاحقًا كان قد صرح به النظام صراحة (سنحرق البلد. لن نترك حجرًا على حجر. سنعيد سورية ثمانية ملايين.).
حبس العالم أنفاسه يوم الجمعة ٢٥ آذار/مارس ٢٠١١ لساعات من الصمت الثقيل’ وبعد صلاة الجمعة، علم العالم كله، وسجل التاريخ بأن الشعب السوري قد اتخذ قراره الواعي والجريء بالمواجهة مهما كانت الخسائر.
خرجت أكثر من ستة مظاهرات كبيرة وطويلة، وأكثرها مفاجأة كانت في مدينة اللاذقية نفسها وريف دمشق ” دوما داريا المعضمية والتل” إضافة لأكثر من ثمانين مظاهرة في الأرياف والمدن مثل حمص وبانياس والسلمية وعامودا وأرياف دير الزور وإدلب وفي أحياء برزة والقابون وركن الدين الدمشقية.
لم يكن المقياس حجمها أو مدتها بل كان الإعلان الحقيقي لانطلاق الثورة العظمى ليس من مدينة أو محافظة أو من طائفة أو اثنية. بل من كل أنحاء سورية لتغير التاريخ للأبد.
فالثورات لا يمكن تقييمها بأنها نجحت أم فشلت على أساس إسقاط النظام الذي قامت ضده فتلك النتائج السياسية لها وقد تستغرق عقودًا كما حصل مع الثورة الفرنسية وغيرها.
إن تقييم نجاح الثورة هو قيامها أوعدم قيامها وهي قامت حقًا قامت يوم ٢٥ آذار ٢٠١١ يوم صدر قرار من أشجع القرارات في التاريخ البشري -بمواجهة الرصاص الحي بالصدور العارية- من قبل شعب من أعظم شعوب الأرض وأعرقها حضارة.
المصدر: اشراق