قبل أيام أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة توصيةً باعتبار يوم الخامس عشر من آذار من كلّ عام مناسبةً لاستنكار التمييز الديني، وكراهية الأديان وازدرائها، وفي مقدَّم تلك الظواهر المستنكَرة في عالم اليوم: الإسلاموفوبيا. دعمت هذه التوصية كلّ دول العالم باستثناء فرنسا والهند. وهما، بالإضافة إلى ميانمار والصين، أكثر دول العالم ممارسةً للتمييز ضدّ المسلمين، وبدعمٍ من الحكومات (!).
اقترنت ظاهرة أو ظواهر التمييز ضدّ المسلمين في عدّة أنحاء من أوروبا بما سُمّي “عودة الشعبويّات” خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وتجلّى ذلك في ثلاثة أُمور:
1- التشدّد في القوانين ضدّ المهاجرين المسلمين على وجه الخصوص.
2- الحملة على المساجد ومآذنها.
3- وتحريم لبس النقاب ثمّ الحجاب (أو غطاء الرأس) في المدارس والتجمّعات والمجال العامّ.
برتران بادي وفيدال مؤلّفا كتاب “عودة الشعبويّات” (2019) يعتبران تلك الظواهر جديدةً نسبياً، وتستقصدها الحركات الحزبية الشعبوية لإحراج الحكومات، والحصول على أصوات كبار السنّ في الانتخابات. ولمواجهة صعود الشعبويّات هذه فإنّ حكومات يمين الوسط، ومن أجل البقاء في السلطة، تشدّدت في قضايا اللجوء واستقبال المهاجرين من جهة، لكنّها تدخّلت من جهةٍ أخرى في حيوات المسلمين في عدّة بلدانٍ أوروبية، ففكّكت الجمعيّات القائمة، وأقفلت المساجد، ووضعت أعداداً هائلة من قدامى الجاليات (في جيلها الثالث) تحت المراقبة. وفي حين حمل الأميركيون بالذات على التمييز ضدّ المسلمين في الصين (مقاطعة سينكيانغ حيث تشكّل إثنية الأويغور المسلمة أكثريّة بين السكان) وفي ميانمار (اضطهاد الروهينغا وطردهم إلى بنغلادش وماليزيا)، فإنّ الإجراءات الهندية والفرنسية لم تلقَ الاهتمام المطلوب. إذ تمارس الحكومة الهندية التمييز دونما قوانين. أمّا فرنسا فتدعم إجراءاتها بالقوانين في البرلمان.
وقبل شهرٍ ونيّف اندفع جمهور هنديّ لنزع حجاب مئات الشابّات المسلمات والحيلولة دون دخولهنّ المدارس والجامعات في فيديو انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
داستن بورد صاحب كتاب “الإسلام في المجتمعات العلمانية وما بعد العلمانية” (2020)، الذي يحاول التأريخ لهذه الظاهرة في أوروبا والولايات المتحدة، يشكو من أنّه لم تظهر قوى اجتماعية/سياسية معتبرة بأوروبا وأميركا لمواجهة هذه الظواهر بالفعل. وليس هذا فقط، بل يذهب استناداً إلى الاستطلاعات في عدّة بلدان أوروبية وأميركا، إلى أنّ دعوات البابا فرنسِس، منذ العام 2013 وبإلحاح، لإحسان التعامل مع المهاجرين والفقراء واللاجئين غير الشرعيين، لم تلقَ الاستجابة المرغوبة واللائقة بالأخلاق المسيحية حتى بين الكاثوليك. وإذا قيل إنّ الدين وأخلاقه ما عادا يلقيان حماسةً في القارّة القديمة، وحتّى في دول اسكندينافيا والبينلوكس ذات السياسات الليبرالية في العادة، فإنّ تحرّكات البابا فرنسِس لقيت سلبيةً واستنكاراً أحياناً من رجالات الكنيسة الكاثوليك بأميركا الشمالية (!).
جذور التمييز وأسبابه
لفهم ظواهر الإسلاموفوبيا وجذورها ينبغي ملاحظة أمرين:
– أوّلهما أنّ ملف المواجهة مع الإسلام، أو “الخطر الأخضر”، صار مسألة استراتيجية لدى اليمين الأوروبي والأميركي بعد تضاؤل الخطر السوفياتي ثمّ تواريه تماماً في أواخر الثمانينيّات من القرن الماضي. ثمّ سقط الاتحاد السوفياتي وجاءت الضربة القاضية من مقالة صاموئيل هانتنغتون (1993) ثمّ كتابه (1996): “صِدام الحضارات”. وإلى جانب ذلك كتابفرنسيس فوكوياما: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” (1993)، الذي يتحدّث عن انتصار الغرب بشكل نهائي. هانتنغتون قلّل من شأن الخطر الصيني، لأنّ ملفّات الصراع العالمي صارت دينيةً وحضاريةً، وقال إنّ الانتصار النهائي لن يحصل إلا بعد النجاح في مواجهة الإسلام الذي يملك حواشي وحدوداً دمويةً مع الحضارة الغربية اليهودية – المسيحية وقيمها الحضارية.
– وثاني الأمرين أحداث العنف باسم الإسلام، التي قام بها شبّان من أصول إسلامية في أوروبا بواسطة حوادث متفرّقة، وصارت شاملةً بهجمة القاعدة على الولايات المتحدة في 11 أيلول 2001، وما تلاها من شوب الحرب العالمية على الإرهاب، التي لم يخمد أُوارُها باحتلال أفغانستان والعراق، بسبب استمرار الهجمات في لندن وباريس ولشبونة، ثمّ اندلاع تنظيم داعش الذي احتلّ أجزاء واسعة من سورية والعرق، واستمرّت جرائمه حتى انكسرت “دولته” عام 2019 من دون أن تنتهي عقابيله حتى الآن.
اليمين الأوروبي ما كانت هذه مستنداته فقط، بل وأيضاً موجات الهجرة المليونية باتّجاه أوروبا انطلاقاً من سورية والعراق وليبيا وعدّة أقطار إفريقية، وهي مستمرّةٌ حتى اليوم، وهي إمّا أن تبلغ اليونان والشواطئ الإيطالية، أو يغرق المهاجرون البؤساء في البحر المتوسط.
هانتنغتون مات. وفوكوياما انصرف لمتابعة ظواهر الهويّة والخصوصية في أوروبا وأميركا والهند. ولذلك أين هم الاستراتيجيون الذين يمكن أن يستطلعوا أبعاد الخطر الروسي بعد السوفياتي؟ لا يمكن لأحدٍ أن يتحدّث الآن عن الحضارة المسيحية. فكلّ أولئك المنظّرين وضعوا روسيا ضمن تلك الحضارة، باعتبارها عادت بعد انكسار الشيوعية لتكون حصناً من حصونها الباقية. هي بالطبع ثقافة واحدة أو شبه واحدة. وليس هناك صراع ديني (الرئيس فلاديمير بوتين قال إنّ كلّ الأديان تقاتل معه ضدّ الأوكرانيين، وهو يقصد بالطبع الكتائب الشيشانية) أو حتى إثني. هو صراع مثل صراعات الحرب الباردة على مناطق النفوذ، ومصادر الموارد الغازيّة والبترولية والزراعية، ومجالات البحار والمحيطات. ولنتأمّلْ أنّه خلال عقدين أو أقلّ انتقل الأمر من العرض الغربي على روسيا الاتحادية الانضمام إلى الناتو، إلى ذهاب روسيا أنّ الناتو هو عدوّها الرئيسي.
ثمّ ماذا نسمّي الصراع الأميركي – الصيني؟ هل هو صراعٌ ثقافي أو ديني أو حضاري؟ بالطبع لا، بل هو صراع استراتيجي، ومرةً أُخرى على الموارد والجيواستراتيجيات والبحار والمحيطات؟
فوكوياما في كتابه: “صعود الدولة أو النظام السياسي وانحطاطه أو انحداره” (2015)، يثبت مرّةً أخرى أنّه على خطأٍ مُبين. وإلّا فماذا يسمّي الصعودات الصينية والروسية والهندية واقترانها بالدولة والنظام السياسي؟ ربّما يقول كالآخرين: هو عالم ما بعد أميركا. لكنّ الدولة الأميركية أيضاً كانت قويّة وقويّة جدّاً وما تزال.
خلال عقدين أو أقلّ انتقل الأمر من العرض الغربي على روسيا الاتحادية الانضمام إلى الناتو، إلى ذهاب روسيا أنّ الناتو هو عدوّها الرئيسي
ما وراء الأديان
السؤال اليوم هو: كيف نشخّص القاعدة وداعش والتنظيمات المسلَّحة الأُخرى في إفريقيا اليوم؟
لا تفسير لجهة الدين. بل التفسير الذي يردُ في الذهن والواقع أنّها تنظيمات “ما تحت الدولة”، وفي المَواطن التي تكون فيها الدولة ضعيفة. والذي يرد إلى الذهن أيضاً أنّ ردّة الفعل ستتمثّل في المدى القريب في التركيز على تقوية الدول في كلّ مكان للخلاص من حركات الفوضى الإجرامية هذه.
وفي المحصّلة: ألا تؤثّر حركة روسيا الغازية في تغيير في استراتيجيات الولايات المتحدة، وربّما أوروبا، بحيث تصبح الأَولوية لمواجهة القوى الدولتية الغازية بدلاً من استمرار التركيز على أصوليّات الإسلام ومشكلاته؟ ماذا يضمن أن لا تتابع روسيا تغلغلها في شرق أوروبا؟ وماذا يضمن أن لا تُغِير الصين على تايوان؟ وقد ضمّت الهند قبل ثلاث سنوات وبضربةٍ واحدةٍ مقاطعة كشمير ذات الحكم الذاتي من دون أن يهتزّ لذلك جفن أحد.
الدين “المتقومن” (بلباس القومية) جاهز دائماً للاستخدام سواء من جهة دول مثل إيران، أو من جهة حركات مسلّحة مثل داعش. لذلك لا مبرّر للاستمرار في مواجهة الإسلام، باعتباره يملك تخوماً دمويّة، وإنّما هي الدول في صراعها على مناطق النفوذ في الحرب الباردة وبعدها.
يعني هل الإسلام مسؤول الآن عن الحرب على أوكرانيا لأنّ الشيشان المسلمين يُستخدمون في القتال مع الجيش الروسي بأوكرانيا؟ والرئيس التركي رجب طيب إردوغان يقول إنّ مئة ألف مسلم أوكراني يعيشون في أوكرانيا يعانون من صعوباتٍ كبيرة، وبالطبع بعضهم باعتباره أوكرانيّاً يقاتل مع دولته، بينما تحاول النساء والصغار وكبار السنّ الهجرة في أيّ اتّجاه.
خلال أربعة عقود ما استقبلت أوروبا سبعة ملايين مهاجر، وهي مضطرّة الآن إلى استقبال ملايين عشرة أو أكثر خلال أربعة أشهر كلّهم غير مسلمين. فماذا يقول الشعبويّون؟
الأمر يحتاج إلى رؤية استراتيجية جديدة لمواجهة هذه الظواهر القديمة المتجدّدة، فيما وراء الأديان والأيديولوجيّات.
مقال مميز للدكتور رضوان السيد قراءته والتدقيق فيه، والحوار هو مضمونه مهم جدا، لأنه يخرج المتابع للصراعات الدولية والاقليمية الراهنة من جزئيات المتابعة إلى رؤية أشمل، تدمج المؤثرات الثقافية والجيوسياسية، والإقليمية، والتنافسات الداخلية، لترسم تفسيرا أبعد مدى للصراعات التي يشهدها العالم اليوم، والعوامل الفاعلة فيها.
د. مخلص الصيادي