في يوم 24 شباط فبراير من هذا العام 2022 قامت روسيا بغزو دولة أوكرانيا. يدّعي ڤلاديمير پوتن أنّ سبب الغزو هو “تجريد أوكرانيا من السلاح وإزالة أثر النازية منها” وهذا تماماً سبب الپروپاگندا التي تشيعها روسيا مستعملة ترولاتها؛ لضرب سمعة أوكرانيا ووصمها بالعنصرية. في ذات الوقت يتبادل الروس من العرب التحليلات حول خوف روسيا على أمنها من أسلحة الناتو، ويتداولون الأكاذيب واحدة بعد الأخرى حول انتصاب صواريخ “الغرب” على حدود روسيا الغربية وحقّها بالدفاع عن نفسها. وهو هراء يتضّح يوماً بعد آخر، تماماً كما اتّضحت أكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية التي برّرت حصار العراق وتدمير اقتصاده وفتحه أخيراً للغزو الأجنبي وتشريد الملايين من أبنائه عنه.
سأحاول هنا تبيين السبب الحقيقي؛ الذي يدفع پوتن لدفع جيشه إلى أوكرانيا لغزوها وتدميرها وتحويلها إلى بلد منهار على كلّ الصعد، فبلاده ونظامه على شفير حياة أو موت، وبغير هذه الحرب ينهار نظام پوتن السفّاح وتتحوّل بلاده إلى تابع يبحث عمّن يتبع. وهذا رأيي الشخصي.
أكثر ما تريده روسيا هو الطاقة. ففي حين أنّ اقتصادها الإجمالي أكبر قليلاً من اقتصاد إسبانيا، تظلّ روسيا قوة عظمى عالميّة بواسطة تحكّمها بموارد طاقة، ويعدّ النفط والغاز على وجه الخصوص العناصر الأكثر أهمّية لفهم طموحات روسيا في جميع أنحاء العالم بالعديد من حقول النفط الشاسعة، روسيا هي الثانية في العالم كأكبر منتج للنفط، حتى أسبق من المملكة العربية السُّعُودية. بينما تمتلك روسيا في الوقت نفسه أكبر احتياطيّات مؤكّدة من الغاز الطبيعي في العالم في سيبريا، ما مكّن روسيا من أن تصبح المصدر الأوّل في العالم للغاز الطبيعي، والعائدات المكتسبة من بيع العالم صادرات النفط والغاز هذه هي الأساس الحقيقي للدولة الروسيّة الحديثة والقوّة الروسية، لأنّها توفّر ما يصل إلى 50٪ من ميزانية الحكومة الروسيّة بالكامل، وتمثّل حوالي 30٪ من إجمالي الناتج المحلّي لروسيا، وقد استخدمت روسيا الأموال الهائلة المكتسبة من بيع النفط والغاز في الخارج لتمويل سداد ديونها العسكرية وتوفير السيولة وتمويل استعادتها كقوّة عالمية، لذلك فإنّ روسيا هي فعليّاّ دولة بنزين مثل المملكة العربيّة السُّعُوديّة أو إيران، وهي الدولة البترولية الوحيدة المجودة في أوروپا، على الأقل في الوقت الحالي.
خارطة حقول النفط والغاز في روسيا الاتّحادية
وعلى الرغم من هذه النعم الجيولوجيّة الهائلة، إلا أنّها تأتي أيضاً مع العديد من المخاطر الأمنية الجغرافية. فمن منظور موسكو؛ معظم غازها يتمّ بيعه للزبائن الشرهين في الاتّحاد الأوروپي لدرجة أنّ 35٪ من إجمالي إمدادات الغاز في الاتحاد الأوروپي تأتي من روسيا وحدها، بما في ذلك ألمانيا رابع أكبر اقتصاد في العالم؛ التي تستورد ما يقرب من نصف استهلاكها من الغاز الطبيعي من روسيا. هذا التدفّق من الغاز نحو ألمانيا وأوروپا عبر نظام معقد من خطوط الأنابيب يوفّر عائدات مهمّة للحكومة الروسيّة لتعمل، وتوفّر تدفئة مناسبة للمدن الأوروپية خلال فصل الشتاء. لذا يعتمد كلا الجانبين بشدّة على الآخر. هنا أي اضطراب في هذه العَلاقة التجاريّة سيكون كارثياً من منظور موسكو. وأوكرانيا هي المكان الدافع لحدوث هذا الاضطراب.
الإعلانات
الإبلاغ عن هذا الإعلان
خلال حِقْبَة السوڤيات كانت فيها روسيا وأوكرانيا كلاهما دولة واحدة، فتمّ بناء خطوط أنابيب تصدير الغاز الروسي عبر أوكرانيا مثل جسر ينقل الغاز مباشرة من مصادره في سيبريا إلى الزبائن في أوروپا. ولكن بعد ذلك، فجأة، وبعد انهيار الاتحاد السوڤيتي، صارت أوكرانيا دولة مستقلّة تطالب بتعريفات جمركية بمليارات الدولارات سنويّاً من روسيا، لمواصلة استخدام أراضيها كجسر نقل الغاز إلى أوروپا. ولم يكن أمام روسيا خِيار آخر سوى الموافقة، بسبب غياب بنية تحتيّة لخطوط الأنابيب في أيّ مكان آخر، ولم تكن موجودة بعد.
خارطة شبكة خطوط تصدير الغاز الروسي
في أواخر عام 2005 كان 80٪ من صادرات الغاز الروسي المتجهة إلى أوروپا لا تزال تتدفّق من خلال خطوط الأنابيب العابرة أوكرانيا، ولكن خلال السنوات التي تلت سعت روسيا لحلّ هذا الاعتماد المفرط على أوكرانيا عن طريق بناء خطوط أنابيب جديدة متعدّدة، تتجنّب أوكرانيا تماماً، مثل Yamal–Europe عبر روسيا البيضاء الموالية، ونورد ستريم 1 و 2 تحت بحر البلطيق الذي ينقل الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا؛ أكبر زبون منفرد لموسكو، جنباً إلى جنب مع التيّار الأزرق الجنوبي وتيّار الأتراك تحت البحر الأسود. مع أمل روسيا لوقف جميع صادراتها من الغاز عبر أوكرانيا تماماً بحلول عام 2024، وبهذا ستوفّر الحكومة الروسيّة مليارات الدولارات من الرسوم الجمركية. مع ذلك، لا تدفع هذه الخطط روسيا لغزو أوكرانيا.
أوائل عام 2012 اكتشفت موسكو لأوّل مرّة أنّ المنطقة البحرية الأوكرانية داخل البحر الأسود قد تحتوي على أكثر من 2 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، الذي يتركّز إلى حدّ بعيد حول شبه جزيرة القرم. ولجعل الأمور أكثر إثارة للاهتمام توالت المزيد من الاكتشافات لحقول محتملة للغاز الطبيعي والنفط حول دونيتسك وخاركيف في الشرق، وحول منطقة الكاربات في الغرب. بدءاً من عام 2012، وفجأة سنحت الفرصة الذهبية ومن العدم لأوكرانيا لتصبح في المرتبة 14 على قائمة أكبر احتياطيّات الغاز الطبيعي في العالم بعد أستراليا والعراق مباشرة، ولكن كبلد فقير نسبيّاً، كانت أوكرانيا تفتقر إلى التمويل والتكنولوجيا أو المُعَدَّات اللازمة لحصاد أيّ من هذه الموارد بكميّات كبيرة وبنجاح.
خارطة حقول احتياطيات النفط والغاز الأوكرانية، باللون الأصفر
كل ذلك تغيّر عندما بدأت الحكومة الأوكرانية بعد ذلك بوقت قصير في منح حقوق التنقيب والحفر لشركات من أمثال شل وإكسون، وأصبح من الممكن فجأة أن تتمكّن هذه الشركات الغربيّة في غضون سنوات قليلة من تحويل أوكرانيا إلى ثاني دولة بترول في أوروپا، والتي ستكون منافساً مباشراً وجادّاً لتوريد الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروپي، وعلى هذا صارت تشكّل تهديداً كبيراً لميزانيّة الحكومة الروسيّة وللناتج المحلّي الإجمالي. في نفس الوقت كان هذا سيوفّر المسار السهل لدخول أوكرانيا في نهاية المطاف إلى الاتحاد الأوروپي وحلف شمال الأطلسي أيضاً، وهذا هو في رأيي ما يدور حوله هذا الوضع برمّته.
في عام 2012 في الوقت الذي ظهرت فيه هذه الاكتشافات، كان الرجل المسؤول عن أوكرانيا هو ڤيكتور يانوكوڤيچ، سياسي موالي لروسيا، جعل أوكرانيا أكثر توافقاً سياسيّاً مع مصالح موسكو طيلة وجوده في سدّة الرئاسة. ولم تكن هذه الاكتشافات تشكّل تهديداً مباشراً لروسيا. ولكن عندما تم إسقاط حكومته فجأة في شباط فبراير 2014، في ثورة موالية للاتحاد الأوروپي وموالية للغرب في كييڤ. قامت روسيا سريعاً باغتنام الفرصة لغزو أجزاء من أوكرانيا للاستيلاء على شبه جزيرة القرم وضمّها بحجّة حماية الأقلية الروسيّة فيها. ولكن بواسطة الاستيلاء على شبه جزيرة القرم، سيطر الروس أيضاً بشكل مباشر على ثلثي الساحل الأوكراني وبالتالي الغالبيّة العظمى من المنطقة البحرية الأوكرانية. وباستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم سيطر الروس على ما يقدر بنحو 80٪ من احتياطيات النفط والغاز البحريّة المحتملة لأوكرانيا، بالإضافة إلى معدّات حفر وأصول أخرى بمليارات الدولارات في شبه الجزيرة، ممّا أدى إلى شل قدرة الحكومة الأوكرانية المستقبلية على تحدّيها.
خارطة حقول احتياطي الغاز تحت قاع البحر في منطقة شبه جزيرة القرم
إن تفوّق روسيا بالغاز في أوروپا يزيد الطين بلّة. فمن وجهة نظر أوكرانيا تقع مناطق أوكرانيا الأكثر ثراءً بالغاز الصخري بالقرب من معظم مناطق الصراع الرئيسيّة؛ التي تمّ تشجيعها وتمويلها من موسكو، مع تمرّدات دونيتسك ولوهانسك على الشرق ومولدوڤا؛ الجمهورية الانفصالية في ترانسنيستريا على الغرب، والتي من وجهة نظري ليست صراعات تموضعت في أماكنها بالمصادفة. ونتيجة لذلك، تراجعت كل من شل وإكسون عن جميع عقودهما مع الحكومة الأوكرانية، ما ترك أوكرانيا بلا قدرة على استخراج الغاز بنفسها، وهي لا تملك القدرة على تحدّي الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم. من منظور بوتين ونظامه؛ يجب اتّخاذ جميع الإجراءات الضروريّة لكبح أوكرانيا (ذات التوجه الغربي) عن بيع إمدادات كبيرة من الغاز إلى أوروپا، والتي من شأنها أن تهدّد المصدر الأساسي للثروة والسلطة لنظامه. فكان لا بد من تفكيك أوصال أوكرانيا لحماية نفسه وحكّام الأقلّية الآخرين الموجودين في السلطة.
في عهد بوتين، لا يمكن لروسيا أن تعيد شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، لأنها ستنزل هكذا عن كامل المنطقة الاقتصادية المفيدة وجميع موارد الغاز داخلها جنباً إلى جنب مع ميناء سيفاستوپول الاستراتيجي، وهو أحد الموانئ القليلة جدّاً الخالية من الجليد على مدار العام، والتي يمكن للبحرية الروسيّة استخدامها للعمل في جميع أنحاء البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط. إذا عادت شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا وانضمّت أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، ستستعيد دول الناتو قدرتها على تهديد المصدر الأساسي لإيرادات الحكومة الروسيّة، وسيضيع ميناء البحرية الروسيّة الأكثر قيمة من الناحية الجيوستراتيجية إلى الأبد.
وعليه نرى بوضوح، أنّ حروب العالم جميعاً، ومنذ الحرب العالمية الأولى، هي حروب طاقة، ونزاعات تتنافس على من سيسيطر على موارد الطاقة. وكلّ ما يقال عن نزاعات قوميّة ودينيّة ما هو إلّا واحدة من الوسائل التي تُستعمل في هذه الحرب وليست سبباً ولا هدفاً حقيقيّاً. الهدف الرئيس لغزو روسيا لأوكرانيا هو الغاز، والسبب الرئيس لإراقة دماء أوكرانيّة بالأسلحة الروسيّة هو الغاز والجشع الروسي. لا شيء آخر.
المراجع:
Todd Prince. After Years Of Stalling, Can Ukraine Finally Become Energy Self-Sufficient?. 2019.
Denk mal! Exklusiv zur Veröffentlichung Eurer Meinungen!. Ausgabe Nr. 18. Mai 2015.
Rudko report 2014 Ukraine State Comission.
Kostiantyn Yanchenko. Black Sea gas deposits – an overlooked reason for Russia’s occupation of Crimea. 2018. https://go.monis.net/qRJvpu
المصدر: البخاري