كانت أوكرانيا أيام الاتحاد السوفيتي قاعدة صناعية قوية، لا سيما ما يخص الصناعات العسكرية والترسانة النووية على وجه الخصوص، انطلاقاً من سياسة اعتمدتها الزعامات السوفيتية في تركيز البناء الصناعي في الأجزاء الأوربية (المسيحية) من تلك البلاد المترامية الأطراف.
وبعد تحلل الاتحاد السوفيتي، نالت أوكرانيا استقلالها مع عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، كان الشرط الوحيد الذي تم تثبيته في اتفاقية الاستقلال، هو نزع نحو 1800 قنبلة ورأس نووي كانت ضمن الأراضي الأوكرانية، وتحويلها إلى ملكية الوريث الوحيد للاتحاد السوفيتي أي روسيا، ضمن صفقة تضمنت من بين ما تضمنته توزيع قطع البحرية السوفيتية وخاصة الغواصات النووية، وهي قوة بحرية هائلة، كان كثير منها يتخذ من الموانئ الأوكرانية قواعد ثابتة له، ومع أن اتفاقية استقلال أوكرانيا لم تشمل المفاعلات النووية السوفيتية المقامة فوق الأراضي الأوكرانية والبالغة خمسة عشر مفاعلا، وإن ظلت نارا تحت الرماد تؤرق أوربا الغربية وروسيا معاً، بسبب توفر الخبرات العلمية لدى العلماء الأوكرانيين وقدرتهم على إنتاج السلاح النووي لحظة اتخاذ القرار السياسي بذلك، ويمكن من هذه الزاوية نتفهم حرص بريطانيا وأمريكا، على نزعٍ إرادي للدولة المستقلة حديثا، لسلاحها النووي، وحصر القرار النووي بالعدد الذي كان قائما حينذاك.
وإضافة إلى القدرات الصناعية الهائلة التي تمتلكها أوكرانيا، فهي أكبر دولة أوربية من حيث المساحة بعد روسيا، وتمتلك ثروات معدنية متنوعة وهائلة، وأراضٍ زراعية شاسعة تجعل منها سلة غذاء تغطي أوربا، وقد رعت الاتفاق كل الولايات المتحدة وبريطانيا، انطلاقا من إحساسهما بأن تعدد مراكز الرعب النووي في أوربا، يهدد الأمن القلق فيها والذي يُخفي في ملفاته التاريخية رمادا قابلا للاشتعال، ويحرك كل الضغائن والصراعات النائمة في أحضان تتلهف لتحريكها في أول فرصة سانحة، استردادا لحق تم اغتصابه بفعل القوة العسكرية غير المتكافئة أو تحالفات المصالح المؤقتة، أو ثأرا لغبن سياسي أو جغرافي فرضته هزيمة شعر كثير من المهزومين فيها بما لحق بهم من إجحاف وظلم، ظلوا يتحينون الفرصة تلو الأخرى لتغيير موازينه واسترداد الحق السليب.
وظنت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، أن روسيا لن تفكر يوما بالثأر لهزيمة الاتحاد السوفيتي النفسية والعسكرية، والتي أدت إلى تقلص مساحته الجغرافية التي ظل ينظر إليها كأعظم ميزة استراتيجية في صراعه مع الغرب عموما والولايات المتحدة خاصة، ناسين أو متناسين تجربة اتفاقية فرساي التي فرضت الهزيمة على ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، والتي كانت سببا جوهريا في الشعور بالذل الذي استشعره هتلر عن بلاده، مما دفعه للبحث عن سبب يسترد فيه الكرامة الوطنية، التي سُفح دمُها في القاطرة التي تم توقيعُ اتفاقية فرساي فيها، وتجاهلت أوربا بغباء، أن أول عمل قام بها الجيش النازي بعد احتلاله باريس، كان نسف القاطرة التي شهدت توقيع اتفاقية استسلام المانيا المذلة.
ولكن روسيا التي تقلّبت بين أحضان خيارات سياسية متعددة وحكام ضعفاء، سرعان ما بدأت تسترد شعور العظمة الذي عاشته زمن القاصرة والاتحاد السوفيتي، مثل أفعى شعرت بأن الشتاء قد مضى وأن عليها أن تنزع جلدتها وتبحث عن أول فريسة تلتهمها، كانت موسكو تقف بدهشة إلى مد حدود بلادهم إلى عمق أوربا الوسطى، وهو ما حصل في عهد ستالين الذي مدّ الحدود الوطنية لمسافات أبعد، وضم دولا كانت دولا مستقلة وحولها إلى دول حليفة تدور في الفلك السوفيتي أكثر من كونها دولا مستقلة بالمفاهيم السائدة لمعنى الاستقلال الوطني، الذي يتلخص بثلاث كلمات فقط هي “حرية القرار السياسي”.
كان هذا حلم بوتين الذي لا يغادر مخيلته، والذي تمكن في نهاية المطاف من إحياء نزعة وطنية لبلد متعدد القوميات والأعراق والأجناس، على حساب النزعة الأممية، التي ظلت سائدة في الخطابين السياسي والايديولوجي السوفيتي لسبعين سنة، وتدريجيا بدأ بوتين يرتب أوراق خططه للمستقبل، فقد وضع الخطط السياسية والدستورية للبقاء في السلطة أطول زمن متاح له، ونجح في إزاحة خصومه الواحد تلو الآخر وتكرست زعامته المطلقة للبلاد بالدخول في حروب عبرت عن تصوره الاستراتيجي لروسيا، ولكن الغرب كان في غفلة عما يحصل.
واستعاد بوتين جزءا من أراضي جورجيا بالحرب، بعد عدة سنوات على إخضاع الشيشان لسلطة الدولة المركزية، ثم ما فتئ أن قام بخطوة أبعد، عندما احتل شبه جزيرة القرم وانتزاعها من أوكرانيا باعتبارها جزءا من روسيا، وأنها مُنحت لأوكرانيا بقرار فردي من نكيتا خروشوف الزعيم السوفيتي السابق والمنحدر من أصل أوكراني.
لكن نزعة بوتين في استعادة أمجاد روسيا القيصرية ظلت تلازمه كظله بل وترقد معه في سرير نومه، من دون إغفال المكاسب التي أضافها جوزيف ستالين إلى تلك الأراضي بعيد الحرب العالمية الثانية، وكان يخطط ضمن دائرة ضيقة جداً من مستشاريه لاستعادة أوكرانيا كلها إلى دائرة النفوذ الروسي إن تعذر ضمها إلى أراضيها بشكل رسمي، ومع أنه نفى مرارا وتكرارا نيته بغزو أوكرانيا بعد أن سربت المخابرات الأمريكية معلومات استقتها من مصادرها الخاصة، وقبل على نفسه أن يُوصم بالكذب من أجل ما يسميه بمجد روسيا، وبدأت حرب الصفحات المتعددة بالرصاصة الأولى بحجة ضمان حقوق القومية الروسية في شرق أوكرانيا، فاعترف باستقلال إقليمين تم فصلهما عن أوكرانيا هما دونيتسك ولوغانسك ومنحهما صفة الدولة المستقلة، وفي لحظة صراحة نادرة تخرج من وراء الستار الحديدي في الكرملين، تحدث بوتين فوجه انتقادا قويا لمؤسس الاتحاد السوفيتي فلاديمير لينين، وحمله مسؤولية النزعة الانفصالية التي عاشتها بعض الشعوب التي كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي، وخاصة أوكرانيا، وبالفعل بدأ غزو أوكرانيا يوم 24 شباط 2022، وبدأت الشروط الروسية تتصاعد في تصريحات المسؤولين الروس، مع أنها في حقيقتها كانت ترقد في أدراج مكتب بوتين كما كانت مختزنة في عقله من أول يوم أدى فيه يمين الولاء لبلاده عندما باشر العمل في جهاز الـ KGB.
فهل أخطأت أوكرانيا عندما تخلت من تلقاء نفسها أو بضغوط أمريكية بريطانية عن ترسانتها النووية؟ وهل كان يمكن لها أن تصبح لقمة بهذه السهولة لروسيا؟ لو أنها أبقت على رادعها النووي؟ على العموم التاريخ لا يُدون بهذه الطريقة، وليس للأمنيات التي لم تتحقق مكانا في متحف التاريخ، فما حصل قد حصل حقا ويجب أن يخضع لدراسة معمقة كي تستخلص منه الدروس المؤثرة في حياة الأمم والشعوب لتجنب المنزلقات التي تُوقع في مهاوي الردى.
لقد خذلت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية جميعا أوكرانيا، بعد أن تم توريطها باتخاذ مواقف متشددة وغير مدروسة وغير متكافئة مع روسيا، التي كانت تبحث عن أي مبرر لإعطاء دروس أخلاقية روسية من طراز هو مزيج بين قيصرية وشيوعية، بُنيت أركان الدولة القيصرية أو السوفيتية عليهما معاً في إقامة دولة مترامية الأطراف تمتد على مساحة شاسعة في آسيا وأوربا بلا ملل.
كان الرئيس بوتين رجل المخابرات السابق والقادم إلى السياسة الدولية، من قراءة مخابراتية بحتة، يعرف أنه طيلة وجوده في السلطة، تعامل مع رؤساء أمريكان يتجنبون الاحتكاك بروسيا بأي ثمن، اعتقادا منهم بأن إبقاء الدب الروسي في سباته، خير خيار يمكن رسمه للتعامل مع موسكو، وكان بوتين يبعث برسالة عملية إلى الرؤساء الأمريكان ليختبر بها جديتهم في الوقوف إلى جانب حلفاء الولايات المتحدة، فقد قام بعملية نوعية في أبخازيا في جمهورية جورجيا السوفيتية السابقة، واقتطعها عن جورجيا، ووقفت أمريكا عاجزة عن الإتيان بأي رد فعل خشية منها أن تخدش أعصاب الدب الروسي الذي بدأ يتحرك وكأنه كان في سباب موسمي فاق منها بعد تبدل الظروف.
شجعته هذه العملية التي ما كان بوسعها أن تضيف مساحة جغرافية إلى بلد تزيد مساحته عن 17 مليون كيلومتر مربع، ولكنها سياسة القضم التدريجي لما يعتقد أنها ممتلكات مسلوبة من بلده من جهة، وجولة حوار تحت القصف، لاختبار النوايا وجدية الطرف المقابل، نعم شجعته مغامراته القريبة على الإعلان عن جزء يسير من النوايا التي تختزنها أدراج الكرملين ووزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات الروسية، فكانت خطوته الأولى أوكرانيا التي ظن كثير من المراقبين أنها لقمة أكبر من أن تبتلع دفعة واحدة، ولهذا ظنوا أن ما يحصل على الحدود مجرد حرب محدودة لانتزاع اعتراف أوكراني وأوربي بعائدية القرم لروسيا لا أكثر.