أولاً: روايتي الخاصة
كان يوم الإثنين 18 نيسان 2011 وسيبقى يوما مشهودا في التاريخ المعاصر لحمص وسوريا، حيث سرت في المدينة الدعوة إلى الجنازة الكبرى، التي ستضم رفات شهداء ثمانية قتلوا أثناء جنازات ومظاهرات السبت والأحد الفائتين. وقبيل الظهيرة، أغلقت متاجر المدينة وساد جو فاجع وصامت، حيث بدأ تقاطر الرجال عبر كل الشوارع، حتى امتلأ الجامع الكبير وسط البلدة بالمصلين، فاحتشد الباقون في ساحة السوق حوله وتجمهروا، وصلى معظمهم على الشهداء هناك، حتى خرج جمهور مصلي المسجد حاملين نعوش الشهداء، ووسط التكبيرات، سارت الجنازة وانضمت إليها حشود متجددة طوال شارع الحميدية، وباتجاه مقبرة الكتيب أو مقبرة الشهداء، التي كان الدفن قد أوقف فيها قبيل سنوات، لكن هيبة الجنازة الكبيرة أعادت فتحها!
ومنذ تحرك الجنازة، كان رجال الأمن والشرطة يملؤون أسطح بناء قيادة الشرطة في طرف ساحة باب السوق، ولم يعودوا ظاهرين على الأرض، ربما تحت تأثير استمرار الجنازة في التوسع طوال مسيرتها، مع انضمام أفواج الناس لها. المحلات صارت مغلقة غالبا، أما نوافذ وشرفات الحي المسيحي في أغلبه، فقد ظهر فيها كثير من المتابعين، الذين بادروا برمي قبضات من الرز والورود على ركب الجنازة الذي كان يهتف للشهداء والحرية وإسقاط النظام.
عند مقبرة الكتيب توقفت الجنازة، فانضمت إليها جنازة قادمة من باب السباع، وسارت مراسم الدفن في احتفالية مهيبة مع الكلمات والأدعية، ثم علت أصوات تطالب بالذهاب إلى ساحة الساعة للاعتصام بها، فغلبت أصواتا ناشزة ضعيفة طالبت بالذهاب إلى حي الزهراء الموالي للانتقام، لكن سرعان ما خفتت وتلاشت، وكان لي مع بعض الشباب دور في ذلك!
تحول ركب الجنازة في طريق العودة إلى مظاهرة كبرى، تصدرتها مجموعة من الفتيات المحجبات، وفي جو العودة والحر الشديد يومها، بادر بعض أصحاب المحال والمنازل إلى التعبير عن تعاطفهم بتقديم الماء وقطع الكاتو، وحتى إلى رش المتظاهرين بالماء في محاولة لتخفيف الحر عنهم. أما أسطح مبنى قيادة الشرطة فقد اختفى من كان على سطحها سابقا، حذرا كما بدا من تعاظم المظاهرة وغضبها، وهو الذي بدأ يتجلى بتمزيق الصور وأعلام الحزب القائد، وتدمير كاميرات المراقبة التي صارت موضوعا خاصا لغضب المتظاهرين، لكونها سببا سابقا في الإرشاد عن زملائهم واعتقالهم وتعذيبهم. وعندما وصلت المظاهرة إلى الساحة، سرعان ما تحلق الشبان والشيوخ حول برج الساعة الذي توسطها، وجعلوه منبرا للخطابة.
وبعد زمن قصير من تردد بين من أراد البقاء في الساحة وجعلها مركزا لاعتصام مفتوح، ومن أراد من المشايخ الذهاب إلى جامع خالد بن الوليد للاعتصام هناك، تغلب الرأي الأول واستقر، بينما ذهبت مجموعة قليلة فعلا إلى الجامع ثم عادت بعد ساعات لتلتحق بالأكثرية. وسرعان ما أعد الشباب أدوات الإذاعة، ونظّموا الدخول إلى الساحة من مختلف المداخل، فأقاموا حاجزين على كل مدخل، ليمنعا دخول المسلحين وعناصر الأمن وما يشبههم، وتوالى الخطباء على المنبر بما فيهم بعض الفتيات، حيث ألقيت خطب وكلمات تشيد بالثورة، ورددت هتافات للحرية والكرامة وشعارات الوحدة الوطنية، مستلهمين بذلك تجربة ساحة التحرير في القاهرة، التي صارت مثالا لكل دعاة التغيير في الربيع العربي.!
ولم تمض ساعة على المطالبة بالحفاظ على نظافة المكان والاستعداد للتخييم فيه، حتى نصبت بعض الخيم الصغيرة وأخرى كبيرة، عُلّقت على واحدة منها في طرف الساحة لافتة الوحدة الوطنية، فصارت مكانا لندوات مفتوحة، ساهمت بإدارة بعضها، وحتى اللحظات الأخيرة قبيل الساعة الثانية صباحا، حيث قضي على الاعتصام بمجزرة ستبقى نهباً لروايات متعددة ، طالما لم تتوفر مناخات تحقيق مستقل وإعلام حر!.
ثانيا: ملاحظات ودروس أولية
1ـ اعتصام حمص صار واحدًا من أشهر أيقونات الثورة السورية وأجملها، وبخاصة في مرحلتها السلمية، وهو تطور عفوي لموكب تشييع الشهداء، الذين قضوا جراء عنف النظام وإجرامه، لكن الثورة لم تنجح بإنضاجه؛ إذ لم يُخطط له مسبقًا كما ينبغي له، وبقي من دون تبصر في مجرياته.
2ـ تميّز الاعتصام بكل إيجابيات العفوية النابعة من طيبة الحمصيين وكرمهم وحماستهم ومبادراتهم: (تركيب سريع لأجهزة الصوت، جلب خيم متنوعة، المحافظة على نظافة الساحة وجمع المهملات في أكياس، مراقبة الدخول، وضع حواجز ثنائية في مداخل الساحة، لمنع دخول من يحمل السلاح من الشبيحة والأمن والامتناع عن التخريب، الاكتفاء بنزع صور المجرم الأكبر وكاميرات المراقبة، وتقديم الماء والطعام والشراب والحلوى في الساحة، كما حدث في شارع الحميدية خلال العودة من المقبرة، وهو ما يستحق تفصيلًا خاصًا).
3ـ كان الطابع الوطني والعام مسيطرًا وسائدًا، مع بروز الوجه الإسلامي، بحكم الغالبية السنّية في حمص ومشاركتها رجالًا ونساءً. وفشلت بسهولة محاولات توجيه الاعتصام طائفيًا، ففي مثال أول: حاول واحد، أو أكثر، الدعوة للتوجه إلى حي الزهراء عند انتهاء مراسم الدفن، فجوبه بشدة ووضوح، وعند محاولاتهم الرد بالعنف، تم إبعادهم. وفي مثال ثان: تقبّل جمهور المعتصمين تقدم شاب علوي للخطابة، كما تقبلوا ظهور فتاة غير محجبة للخطابة، وصفقوا طويلًا لهما.
4ـ عدم تنظيم الاستمرارية التي تقررت في الاعتصام المفتوح؛ إذ لم يتم ذلك على شكل مناوبات، كي تستمر كثافة المعتصمين في الليل إلى حد ما، يدفع النظام إلى الحذر من مجابهة اعتصام كبير بالآلاف.
5ـ كان دور المشايخ مسيطرًا، وشكّلوا القيادة الرئيسية للاعتصام، وتراوحت المبادرات الأخرى بين ضعيفة تحت ستار التعقل والحكمة، وبين شجاعة نتيجة صلابة وتطلعات بعض الشباب. وقد حاول الصنف الأول منذ البداية توجيه الاعتصام إلى جامع خالد؛ فانتُقد ذلك التوجه الذي يحصر حركة الاحتجاج، في طابع ديني طائفي مرتبط بالجوامع، وهو ما أراده النظام دومًا (مثال: منع حراس باب البرج من مشاركة البعض بداية في اجتماع المشايخ داخله، بحجة أنه يقتصر على أهل العلم والرأي، وكأنهم صاروا حزبا قائدا، بموجب مادة أخرى في الدستور، كالمادة الثامنة التي جعلت حزب البعث حزبا قائدا للدولة والمجتمع)!
وقد أوضحتُ عند ذلك أهميةَ الطابع الوطني العام للتوجه إلى ساحة الساعة، مركز المدينة وقلبها، تيمّنًا بساحة التحرير القاهرية، الأمر الذي تغلّب بسهولة، مستجيبًا للنزوع الأساس لاحتجاجات الشباب. ثم تبيّن لاحقًا، وجود تواصل قديم استمر خلال الاعتصام، بين بعض مشايخ الصنف الأول، وبين رجال السلطة والأمن، وصلت من خلاله تهديدات السلطة، لكن المشايخ -جملة- لم يحرصوا على مشاورة أحد من خارج دائرتهم حولها، استمرارًا لنهج السلطة نفسه في تواصلها معهم ومع أتباعهم من الحمصيين، سواء أكانوا في المدينة أم في مدن أخرى بعيدة.
بالنتيجة؛ كانت قيادة المشايخ ضعيفة، لانطلاقها من هيبة العمامة وأمجاد الماضي، ومحفوظات النص الديني، وبلاغته بل موسيقاه (إن في البيان لسحرا)، ولفقدان خبرتها بالثقافة التاريخية والوعي الاجتماعي والسياسي من تكتيك واستراتيجية وغيرها، وكثيرًا ما أدى بها ذلك، أمام سلاحي السلطة الدائمين (القمع والإغراء)، إلى سقوط مريع لبعض شخصياتها (هناك أمثلة شهيرة في حمص)؛ ما يؤكد مجددًا أن على رجال الدين (كالمشايخ والرهبان) أن يكتفوا بالبقاء في الجامع والكنيسة وخدمة الدين فقط، أما خارجهما فلهم أن يكونوا مواطنين وحسب، ولهم ما لغيرهم من المواطنين من الحقوق والواجبات، بلا مكانة قيادية خاصة، وبلا زيادة ولا نقصان.
ثالثا: نتائج الفض العنيف للاعتصام
1- انتشار الهلع من سهولة وشدة لجوء النظام للعنف: ساد الهلع من المجزرة بين سكان حمص وعموم سوريا، نظراً لانتشار أخبار فض الاعتصام، وما رافقها من عنف عسكري وأمني استمر بمطاردة شباب الاعتصام الهاربين طوال الليل في مختلف شوارع المدينة وضواحيها، بخاصة بابا عمرو وتلبيسة، وما صاحب ذلك من أصوات الرصاص والمتفجرات وزعيق السيارات واقتحام البيوت. وما أضافه منظر الساحة وجوارها صباحا، حيث راحت سيارات الإطفاء ورجال الجيش والشرطة يغسلون آثار الدماء، وآثار الاعتصام. وكان هذا الغرض أكثر أهمية من أي احتمال سلمي تفاوضي آخر، بحيث لم يكن النظام، ورأسه الذي كان يتابع العملية بدقة كما علمنا لاحقا، ليسمح باستمرار الاعتصام حتى صباح اليوم التالي، كي يمنع أي احتمال لتطوره وتوسعه من جهة، وكي لايصبح أمثولة في عموم سوريا من جهة أخرى أكثر أهمية!
2- الغرض من غموض عدد الشهداء: وهو نشر الهلع والرعب الفاجع بين الحماصنة والسوريين عموما، بخاصة مع وقوع عدد من الضحايا ليلة فض الاعتصام. فقد تعمد النظام ترك ذلك العدد غامضا بصورة مقصودة، كي يحقق غرضه، ألا وهو نشر أكبر رعب وهلع ممكنين بين الأهالي، بل بين كل السوريين، كي يكون ذلك درسا لكل من يفكر بالخروج في مظاهرة، فما بالك باعتصام ستكون نتيجته المجزرة الجماعية.!
وفعلا انتشرت روايات وشائعات كثيرة عن عدد الشهداء ليلتها، بل وروايات عن مجازر جماعية وجرافات تجرف جثث القتلى، على الطريقة المعهودة لانتشار الشائعات في مثل تلك الظروف المرعبة والغامضة. وبالطبع لم يكن ممكنا لأي كان، القيام بأي تحقيق أو استقصاء في تلك الفترة أو ماحولها، ضمن المخاطر الأمنية المعروفة.
ومما زاد في غموض المعرفة يومها، اختفاء عدد من شباب الاعتصام، معظمهم من أبناء بابا عمرو وتلبيسة والقرى القريبة، نظرا لاعتقالهم وهم يتراكضون هاربين في شوارع المدينة وأزقتها. حيث لم يجد إلا القليل منهم، من فتح له بابا، أو وجد منفذا للاختباء وواتاه الحظ، وذلك ما يستحق رواية مفردة. لكن بالنتيجة تم اعتقال أكثر من 300 شاب ليلتها، بقي مصيرهم غامضا، وظن أهالي المدينة وأهاليهم أولا، أنهم باتوا في عداد القتلى المجهولين، حتى تم الإفراج عنهم بعد أكثر من أسبوعين، عبر مفاوضات بين لجنة العلماء والوجهاء والمحافظ، اتصالا بمفاوضات تقطعت لاحقا مع القصر الجمهوري.
3- حقيقة عدد شهداء الاعتصام: شخصيا حاولت جاهدا تقصي الحقيقة في ذلك، واستمعت إلى كثير من الشهادات والروايات، لكن الظروف الأمنية التي اشتدت عقب الاعتصام، ثم اعتقالي لاحقا، منعاني من ذلك. ورغم متابعتي المحاولة بين المعتقلين في داخل السجن، وكان بينهم كثر ممن شاركوا في الاعتصام، لكنني أزعم أن أكثر التحقيقات دقة حول ذلك، ما توصل إليه لاحقا باحث رفيع متخصص بتوثيق أحداث الثورة السورية (هو أ. تامر التركماني من حمص، وله صفحة على فيسبوك)، وقد دلّ تحقيقه على أن عدد ضحايا الاعتصام الموثق هو 14 شهيداً وهم: (أحمد الأشتر من حي القصور، أحمد يوسف العزو الشامي 27 سنة من حي كرم الزيتون، تامر تركماني 18 سنة – وهو شاب آخر لا يمت إلى الباحث تامر بقرابة -، جمال درويش من حي الخالدية، وحسان الجوري من حي البياضة، وحسان كروما 21 سنة من حي الخالدية، وخالد الرفاعي 18 سنة من حي الخالدية، وسمير مالك الأيوب من حي كرم الزيتون، وعبد الجبار أحمد الترك من حي باب هود، وعبد الله سالم كالو من حي جورة الشياح، وفهمي الجوري 18 سنة من حي البياضة، ومحمد صالح سمرا 27 سنة، ومصعب عبد الباقي 27 سنة من حي الخالدية، وياسر عبد الحكيم عزوز من حي باب السباع).
رحم الله هؤلاء الشهداء وستبقى ذكراهم مع جميع شهداء الحرية في سوريا مؤبدةً، وتلك أهم الأفكار التي استخلصتها من مراجعة اعتصام الساعة وأحداثه. وبغض النظر عما إذا كانت صحيحة أم خاطئة، إلى هذا الحد أو ذاك، فسيظلّ ذلك الاعتصام تجربة غنية، لمن يريد أن يهتدي بدروسها، ما دامت أسباب الثورة باقية، وستدفع بالتأكيد إلى تجديد الثورة واستمرارها وتحقيق أهدافها، طال الزمن أم قصر.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا