إذا انتصر بوتين

عبد الحليم قنديل

     هل يخسر “فلاديمير بوتين”  حربه فى أوكرانيا ؟ ، يبدو الجواب بالإيجاب محسوماً عند بعضهم ، الذين يتعيشون على عقيدة سياسية ضالة باتت خشبية ، مفادها أن أمريكا قادرة على كل شئ ، وأن ما تخطط له يتحقق بالضرورة ، وأنها أوقعت الرئيس الروسى فى فخ حرب أوكرانيا ، على أمل تحويلها إلى أفغانستان أخرى ، تستنزف الاتحاد الروسى ، تماماً كما استنفدت حرب أفغانستان الأقدم قوة الاتحاد السوفيتى ، وأضافت لعوامل انهياره أوائل تسعينيات القرن العشرين .

  وقد لا تعدم رؤية استطرادات عظيمة السذاجة ، من نوع المغالاة فى التأثير المدمر لعقوبات الغرب الاقتصادية والمالية القاسية ، حتى على فرص بقاء “بوتين” نفسه فى “الكرملين” ، وعلى نحو ما يذهب إليه الساسة البريطانيون بالذات ، ودوائر أمريكية تريد شد عصب إدارة الرئيس المتهالك “جوبايدن” ، وتبالغ فى قيمة مكاسب موقوتة تحققت لواشنطن ، أهمها توحيد الغرب من جديد تحت القيادة الأمريكية وحلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، واستخدام منابر الأمم المتحدة للتشهير بروسيا البوتينية ، فى قراءة قاصرة مبتذلة لحقائق العالم اليوم ، فبرغم أن ثلاثة أصوات فقط وقفت مع الفيتو الروسى بامتناعها عن التصويت لصالح مشروع القرار الأمريكى بإدانة روسيا فى مجلس الأمن الدولى ، بينما انجرفت عشر دول وراء رغبة واشنطن ، لكن قراءة الحالة من وجهة نظر مغايرة ، تكشف الفارق الهائل فى التوازن ربما لصالح روسيا ، فدولتان فقط امتنعتا عن التصويت هما الصين والهند ، تملكان من قوة التمثيل والوزن الاقتصادى والعسكرى والسكانى طبعا ، ما قد يجاوز ما يمثله الحلف الأمريكى فى أحوال الدنيا المعاصرة ، وقس على ذلك ما جرى فى مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة ، التى لجأت إليها واشنطن هربا من مأزق الانسداد فى مجلس الأمن ، وتذرعا بمبادئ القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة الذى خرقته روسيا ، تماما كما فعلت أمريكا مرات دونما عقاب ، وكان لمزيج الترهيب والترغيب أثره فى صدور قرار رمزى معنوى الطابع ضد روسيا ، أيدته 141 دولة عضو فى المنظمة الدولية ، وبرغم القلة العددية للدول التى  رفضت أو امتنعت عن إدانة روسيا ، فإنها تمثل على الأقل نصف سكان العالم اليوم ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن انقساما رأسيا وأفقيا يحكم اللحظة ، وأن الاستقطاب الجديد على القمة الدولية ، بين الحلف الروسى الصينى من جهة ، والحلف الأمريكى الأوروبى الغربى من جهة أخرى ، قد تشكلت ملامحه الفارقة ، وأنه ليس بوسع واشنطن ، ومهما فعلت ، أن تعزل دولة بحجم روسيا ، وبقوتها التسليحية والنووية الفائقة التطور ، خصوصا مع استناد موسكو على جدار الصين ، القوة كاملة الأوصاف الزاحفة إلى قمة العالم اقتصادا وسلاحا وتكنولوجيا .

  وفى التفاصيل ، وعلى مسرح أوكرانيا الملتهب ، وحيث يجرى الاختبار بالنار لملامح العالم الجديد ، لا يبدو أن “بوتين” فى سبيله لخسارة الرهان ، وهو ما اعترفت به مجلة “نيوزويك” الأمريكية مع بدء الحرب الروسية فى أوكرانيا ، قالت “نيوزويك” باختصار أن “بوتين لم يخسر حربا أبدا” ، عبر عشرين سنة مضت ، لا فى الشيشيان ولا فى جورجيا ولا فى القرم ولا فى سوريا ولا فى كازاخستان ، وتوقعت المجلة أن بوتين سيكسب أيضا حربه الجديدة فى أوكرانيا ، والتفسير مفهوم فى ظننا ، فهو لا يدفع قواته إلى حروب استنزاف طويلة الأمد ، ويرسم أهدافا عسكرية وسياسية قابلة للتحقيق ، وبأقل خسارة ميدانية ممكنة ، والذى يراقب ما جرى فى أيام الحرب الراهنة الأولى ، يلحظ مزج “بوتين” السلس المفاجئ لخصومه ، بين اعتبارات السياسة وقوة السلاح ، وإذا كان يقال عادة ، أن الحرب هى امتداد للسياسية بوسائل أخرى ، وهو ما يصح عكسه بنفس الدرجة ، فقد بدأ “بوتين” الحرب بقصف صاروخى مركز خاطف ، وبهدف تدمير البنية التحتية العسكرية الأوكرانية ، وهو ما استمر بوتيرة أبطأ فى الأيام التالية ، وباستعراض مقصود لقدرات العسكرية الروسية المتفوقة ، من صواريخ “كاليبر” إلى صواريخ “اسكندر” بعيدة المدى عالية الدقة ، مع دفع تدريجى محسوب للقوات إلى داخل أوكرانيا ، التى يعرف الروس سلاحها “السوفيتى” وتضاريسها جيدا ، وخاضوا من فوقها حروبا تاريخية ، أهمها ما يعرف روسيا باسم “الحرب الوطنية العظمى” ، التى توالت من بعدها هزائم جيوش هتلر ، وتدمير عاصمته “برلين” ، التى كانت قوات الروس أول من دخلها منتصرا بنهاية الحرب العالمية الثانية ، التى تطبق دروسها الباقية فى حرب أوكرانيا اليوم ، ذات النطاق الأضيق القابل نظريا للتوسع إلى ما لا حدود ، وفيما يشبه حربا عالمية ثالثة ، لن تندلع قريباعلى الأغلب ، خصوصا بعد تعمد “بوتين” استخدام المطرقة النووية ، وأوامره لقواته باستنفار حالة التأهب النووى القصوى ، وروسيا هى القوة النووية الأكبر فى عالم اليوم ، وقد أراد “بوتين” بإعلانه المرعب ، أن يرسم حدودا للتدخل الأمريكى الأوروبى فى حرب أوكرانيا ، ظهر أثرها الفورى بإعلان البيت الأبيض و”البنتاجون” ، ومعه بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبى ، عن امتناعها ورفضها مسايرة صيحات استغاثة الرئيس الأوكرانى المذعور “فولوديمير زيلينسكى” ، ومناشدته اللحوحة لواشنطن بفرض منطقة حظر طيران فى أجواء أوكرانيا ، أو أقله فى سماء الجزء الأوكرانى الغربى الملاصق لدول منضمة بالفعل لحلف “الناتو” ، وهو ما رفضته واشنطن على نحو قطعى ، بدعوى الرغبة فى عدم التورط بقتال مباشر مع الروس ، قد يشعل الحرب العالمية الثالثة ، فأمريكا لا تملك ترف الدخول فى حرب لا فرصة فيها لفوز أكيد ، وتفضل مبدأ القيادة من الخلف ، بإرسال آلاف الأطنان من شحنات الأسلحة “الفتاكة” إلى أوكرانيا ، والتضحية بالأوكران على مذبح حرب لا يمكنهم كسبها ، برغم ما ظهر من بسالة المقاومة الأوكرانية ضد الزحف الروسى ، الذى يجرى بوتيرة متباطئة ، تتدرج فى الزج بحجم القوات البرية ونوعيات جنودها ، وتعمد إلى عدم التسرع فى اقتحام المدن الأوكرانية الكبرى ، وتخفيف عواقب الانزلاق إلى حروب مدن مستعجلة باهظة التكاليف ، وتفضيل تكتيك حروب التطويق وحصار المسلحين وجيش الأوكران داخل المدن ، ثم طلب التفاوض أو دفعهم للاستسلام بالتفوق النيرانى الحاسم ، وبحسب تصور محدد ، بدأ بقطع اتصال أوكرانيا بالبحر الأسود وبحر آزوف وصولا لقضم “خيرسون” ، وتقطيع تواصل القوات الأكرانية ، ودفع قوات الانفصاليين الروس لإنهاك الجيش الأوكرانى فى إقليم “دونباس” الأغنى بموارده وصناعاته ، والاستيلاء المتتابع على المدن والبلدان الصغيرة ، وحصار “ماريوبول” كبرى مدن “الدونباس” ، الذى تريد روسيا كسبه نهائيا وبصورة دائمة ، وربما ضمه إلى أراضيها فيما بعد ، فى حين لا تريد روسيا احتلالا دائما لباقى أوكرانيا غربا ، وتصر على نزع سلاح شبه شامل للجيش الأوكرانى ، والسيطرة على المحطات النووية الأربعة ، وقهر من تسميهم بالنازيين الجدد والقوميين الأوكران ، وعزل جماعة الرئيس اليهودى الصهيونى “زيلينسكى” ، عبر عملية “خض ورج” لأوضاع الداخل الأوكرانى ، والاستخدام المزدوج للسلاح وعروض التفاوض فى نفس واحد ، على طريقة دفع “زيلينسكى” إلى مفاوضات ، جرى بعضها فى “بيلاروسيا” الحليفة لروسيا ، تريد منها موسكو أن تمهد لاتفاق استسلام أوكرانى كامل مع اقتحام العاصمة “كييف” ، وإثبات خيبة الغرب الذى لجأ لتكتيكات قديمة ، سبق أن زودت بها واشنطن كتائب “المجاهدين” فى حرب استنزاف الروس ـ السوفيت ـ بأفغانستان ، وربما عن طريق طرازات الأسلحة ذاتها ، من نوع صواريخ “ستينجر” ، التى يطلق عليها لقب “قاتل الطائرات” ، وإضافة صواريخ “جافلين” جزار الدبابات ، وكلها أسلحة ذاهبة غالبا إلى مخازن السلاح الروسى فى النهاية ، وبالذات حين تمد موسكو ذراعها العسكرية إلى حدود أوكرانيا الغربية، وتوقف تدفق السلاح  والنازيين الأوروبيين الراغبين بالانضمام لما يسمى اصطلاحا “فيلق الأجانب” أو كتائب “الجهاد الأوكرانى” ، وهو ما يدعم دعوى موسكو فى تحول أوكرانيا إلى بؤرة نازية ، وإلى خطر قابل للتطور نوويا على أمن روسيا ، التى لا تريد اليوم منع انضمام أوكرانيا إلى “الناتو” فحسب ، بل تحويلها إلى فضاء مفتوح خاضع تماما للإدارة الروسية ، وليس الاكتفاء بجعلها منطقة محايدة عازلة على حدود روسيا مع دول “الناتو” ، وجعل الاكتساح الروسى لها ، سابقة تخيف أخواتها فى أوروبا وفى شرقها بالذات ، تدفعهم إلى ميل للتخفف من عبء عداوة موسكو، والسعى لكسب فرص البقاء الآمن إلى جوار الدب الروسى ، وبالذات بعد إخفاق أمريكا و”الناتو” المرجح فى إنقاذ أوكرانيا ، إضافة للإخفاق المتوقع فى تركيع الإقتصاد الروسى ، فالعقوبات سلاح الأغبياء ، وزادت قوة إيران برغم أربعين سنة من العقوبات ، فما بالك بروسيا ذات الإمكانيات الأوفر بما لا يقاس ، وخبراتها المتراكمة فى صنع البدائل ، وحلفها الوثيق الذى “بلا حدود” مع التنين الصينى ، بوصلة الكسب الأعظم فى تحولات اللحظة الدولية .

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى