يُعتبر تاريخ الولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب حافلاً بالجهود الأميركية الرامية إلى تغيير الدول الأخرى. غالباً ما فشلت هذه المشاريع في تحقيق أهدافها، ولكن قليل منها لاقى فشلاً تاماً على غرار المشروع الأخير في أفغانستان. بعد عشرين عاماً، زُهقت خلالها أرواح كثيرة، وأُنفقت مليارات لا تحصى، تمكّنت طالبان، وهي نفس المجموعة التي تدخلت الولايات المتحدة لإزالتها في البداية، من العودة إلى السلطة بينما كان الموظفون الأميركيون لا يزالون في منتصف عملية الإخلاء.
في الواقع، يتبع الانسحاب من أفغانستان نمطاً انتهجته سياسة الولايات المتحدة تجاه جزء من العالم كان يُعرف في الماضي بالعالم الثالث ولكن يُشار إليه حالياً بشكل أكثر شيوعاً باسم “دول الجنوب”. خلال العقود التي تلت تحوّل الولايات المتحدة إلى قوة عالمية عظمى في الأربعينيات من القرن الماضي، اعتمدت في تعاملها مع تلك الرقعة الكبيرة من العالم التي تشمل جزءاً كبيراً من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، نهجاً تغيّر بين قطبين متناقضين (بين وجهتي نظر مختلفتين). في بعض الأحيان، حاولت واشنطن، على حد زعمها، استخدام سلطتها لجعل البلدان في تلك المناطق أكثر ازدهاراً وديمقراطية، كما فعلت مؤخراً في أفغانستان والعراق. وفي أوقات أخرى، تجنبت سياسة الولايات المتحدة مثل تلك الطموحات التحويلية. عوضاً عن ذلك، أعطت الأولوية للاستقرار، وهو ما يعني غالباً دعم الأنظمة غير الديمقراطية إذا كان ذلك يخدم مصالح واشنطن.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، كان صانعو السياسة في الولايات المتحدة متعاطفين بشكل عام مع تطلعات شعوب العالم الثالث، على غرار تحرير الهند وإندونيسيا من الحكم الاستعماري. في المقابل، مع اشتداد الحرب الباردة، تحولت أولويات السياسة الأميركية نحو احتواء الشيوعية. وهكذا، في خمسينيات القرن الماضي، كانت واشنطن مستعدة تماماً للعمل مع الحكومات الاستبدادية (مثل تلك الموجودة في كوريا الجنوبية وتايوان) طالما أنّها معادية للشيوعية بشكل موثوق، وعلى نحو مشابه، كانت جاهزة للمساعدة في الإطاحة بالحكومات المنتخبة ديمقراطياً (مثل إيران وغواتيمالا) إذا تبين أنها مؤيدة للشيوعية. وباسم معاداة الشيوعية، دعمت الولايات المتحدة أيضاً الحرب الفرنسية لاستعادة الحكم الاستعماري الفرنسي في الهند الصينية والدفاع عنه. وعندما عانى الفرنسيون من الهزيمة الحاسمة في معركة “ديان بيان فو” عام 1954، تحملت واشنطن عبء احتواء الشيوعية في جنوب شرق آسيا.
في كتاب ” نهاية الطموح: الولايات المتحدة والعالم الثالث في عصر فيتنام” (The End Of Ambition)، يجادل المؤرخ مارك أتوود لورنس بأن انتخاب الشاب صاحب الشخصية الكاريزمية “جون ف. كينيدي” رئيساً للولايات المتحدة حمل معه موجة قصيرة أخرى من التفاؤل بشأن القدرة التحويلية في علاقات الولايات المتحدة مع العالم الثالث. ومع حلول الدول التي نالت استقلالها حديثاً بسرعة محل الإمبراطوريات الأوروبية المتقهقرة، خاصة في أفريقيا، أعربت الإدارة الأميركية عن دعمها للتطلعات التي عبرت عنها شعوب العالم الثالث من أجل الديمقراطية والتنمية. ولكن مع اغتيال كينيدي وتصعيد الحرب في فيتنام، بدأ نهج واشنطن في التحول. وبحلول نهاية العقد، ووصول “ريتشارد نيكسون” إلى البيت الأبيض، عادت الولايات المتحدة مرة أخرى بشكل علني إلى إعطاء الأولوية لمعاداة الشيوعية عوضاً عن التحرر في العالم الثالث.
يتعقب لورنس الصعود القصير والانحدار السريع في دعم واشنطن لدول العالم الثالث المستقلة حديثاً في ستينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من أن كتابه يبدأ بانتخاب كينيدي وينتهي بظهور “مبدأ نيكسون” (Nixon Doctrine)، إلا أن فصوله الأساسية تركز على فترة رئاسة “ليندون جونسون”، حينما بدأ التراجع عن الطموح الذي كان سائداً في سنوات حكم كينيدي، بحسب ما ناقشه لورنس.
يشير لورنس إلى أن تصعيد الحرب الأميركية في فيتنام كان سبباً رئيساً في تبديد الآمال الكبيرة التي تميّزت بها سنوات كينيدي. في الواقع، أبقت الحرب صانعي السياسة الأميركيين مشتتين ولطخت صورة الولايات المتحدة في الخارج، ما صعّب على واشنطن أن تقدم نفسها كحليف لدول العالم الثالث. في وقت لاحق، أدّت الهزيمة المهينة في تلك الحرب إلى إثارة غضب الرأي العام الأميركي بشأن التدخلات العسكرية في الخارج، وأدّت إلى الإصرار، ولو مؤقتاً، على الانسحاب من التورط في الصراعات الخارجية.
مع ذلك، إذا كانت حرب فيتنام قد صرفت صانعي السياسة الأميركيين عن طموحاتهم السامية في العالم الثالث، فالتركيز على هذا الصراع في معظم تاريخ العلاقات الخارجية الأميركية قد طغى على عدد من الطرق الأخرى التي اعتمدها الأميركيون في التعامل مع العالم. والجدير بالذكر أنّ النظر إلى العلاقات الخارجية للولايات المتحدة من خلال عدسة البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية فحسب، بغضّ النظر عن الأهمية الكبيرة التي تتمتع بها تلك الأجهزة، يميل إلى طمس الطموحات العالمية والتأثير الذي مارسته أجزاء أخرى من الحكومة الأميركية وغيرها من الجهات الموجودة في الولايات المتحدة التي كانت تعمل في الخارج، على غرار المؤسسات الخيرية والمنظمات غير الحكومية. في الواقع، لعبت تلك الجهات الفاعلة أدواراً مهمة في المبادرات التحويلية الطموحة للغاية التي حدثت في العالم الثالث في تلك الحقبة، بما في ذلك الثورة الخضراء في الزراعة والقضاء على مرض الجدري عالمياً.
في يومنا هذا، تميل التغطية الإعلامية والتحليل الأكاديمي للسياسة الخارجية الأميركية إلى التركيز أيضاً على الأنشطة العسكرية الأميركية وعلى النقاشات العالية المستوى في الكونغرس والبيت الأبيض. وكما كان الحال مع التعليقات خلال حقبة فيتنام والتاريخ الذي سُرد عن الفترة التي أعقبت ذلك، يساهم هذا التركيز في صرف الانتباه بعيداً عن العمل الطموح الذي تؤديه أجزاء أخرى من حكومة الولايات المتحدة وقطاعات أخرى من المجتمع الأميركي في “دول الجنوب”، علماً أنّ ذاك العمل قد يحظى على المدى البعيد بتأثير على دور الولايات المتحدة في العالم أكثر من القصص التي تتصدّر العناوين الرئيسة.
حكم الأربعة
في كتاب “نهاية الطموح”، يغوص لورنس بعمق في وجهات نظر كبار صانعي السياسة في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، وفي المداولات التي تجري بينهم. ومن خلال اتباع قول مأثور قديم في واشنطن مفاده أن “الموظفين هم السياسة”، يتتبع الكاتب بعناية الأشخاص الذين صعدوا وأولئك الذين سقطوا في تلك الوكالات في ستينيات القرن الماضي، ويُظهر كيف أنّ تلك التغييرات تساهم في تفسير قرارات السياسة. كذلك، يكتب أيضاً، ولو بشكل أقل، عن مسؤولين في وزارة الدفاع والجيش ووكالة الاستخبارات المركزية وأعضاء من الكونغرس. علاوة على ذلك، بدلاً من التدقيق في السياسة الأميركية تجاه العالم الثالث بمجمله، يركز لورنس على العلاقات مع خمس دول، تم اختيارها بسبب تنوعها الجغرافي وأهميتها الجيوسياسية، وهي البرازيل والهند وإيران وإندونيسيا ونظام الأقلية البيضاء في ما كان يعرف آنذاك بـ “روديسيا” والآن بـ “زيمبابوي”.
يهتم لورنس على وجه خاص بوجهات النظر التي وجهت كبار صانعي القرار الأميركيين في تشكيل سياسة معيّنة تجاه العالم الثالث خلال ستينيات القرن الماضي، ويقدم تصنيفاً مفيداً لأربعة مناهج مختلفة تجاه تلك المناطق. ويطلق على المجموعة الأولى اسم “أنصار العولمة”، علماً أنّ هذه الفئة قد ضمّت مسؤولين مثل “تشيستر بولز” و”جون كينيث غالبريث”، اللذين كانا سفيرين في الهند في تلك الفترة؛ و”أدلاي ستيفنسون”، سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة؛ ومستشار كينيدي “آرثر شليزنغر الابن”. والجدير بالذكر أنّ أعضاء هذه الفئة عارضوا الإمبريالية الأوروبية، ودعموا تقرير المصير والأمم المتحدة، واعتقدوا إلى حد كبير أنه يجب السماح لدول ما بعد الاستعمار بإيجاد مساراتها الخاصة في التنمية السياسية والاجتماعية. في الحقيقة، كان لأنصار العولمة تأثير على كينيدي، لكن الرئيس أبدى قلقاً بشأن المخاطر السياسية المحلية المترتبة عن نهجهم الذي اعتبره النقاد متفائلاً للغاية بشأن مخاطر الشيوعية، لذلك أبقاهم على مسافة منه. وفي عهد جونسون، تراجع نفوذهم أكثر بعد. وعلى الرغم من بروز أنصار العولمة في دوائر النخبة، تبيّن أن تأثيرهم كان ضئيلاً نسبياً على القرارات السياسية في ذلك العصر.
أما المجموعة الثانية فكانت “بناة الأمة”، ومثّلها بشكل ملحوظ “والت روستو”، الذي شغل منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية ثم مستشار الأمن القومي للرئيس جونسون. وقد تبنّى “بناة الأمة” بعض الأفكار الأساسية المشتركة مع أنصار العولمة، لكنهم كانوا قلقين أكثر بشأن التوسع الشيوعي ولم يعتقدوا أن الدول المستقلة حديثاً يمكن أن تنجح في إيقاف ذلك التوسع بمفردها وبدون تدخل. بدلاً من ذلك، كانت تلك الدول بحاجة إلى توجيهات أميركية حازمة يتم تقديمها من خلال برامج مساعدات شاملة من شأنها توجيهها إلى المسار الصحيح. وعلى الرغم من ذلك، فشلت جهود “بناة الأمة” مراراً وتكراراً في إقناع حكومات العالم الثالث أو إجبارها على التحرك في الاتجاه المطلوب. عوضاً عن ذلك، تمكّن قادة ما بعد الاستعمار بشكل حاذق من إنشاء خلافات بين القوى العظمى، بهدف الحفاظ على حريتهم في التصرف.
والمجموعة الثالثة التي يصفها لورنس هي تلك التي تبنت ما يسميه “وجهة نظر نقطة القوة”. وتألفت من مسؤولين يعتقدون بكل بساطة، أن العالم الثالث لا يتمتّع بأهمية كبيرة بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة؛ لذلك، لا ينبغي لواشنطن أن تتورط فيه كثيراً. في المقابل، كانت الأهمية الأكبر تعود إلى تحالفات الولايات المتحدة في العالم الصناعي، في المقام الأول مع اليابان ودول في أوروبا الغربية. في الواقع، يرى لورنس وزير الخارجية “دين راسك” ووكيل وزارة الخارجية “جورج بول” كداعمين رئيسيين لوجهة النظر تلك. وعلى الرغم من سيطرة أولئك المسؤولين على أعلى مستويات القيادة في مؤسسة السياسة الخارجية طوال معظم فترة الستينيات، كانوا محبطين باستمرار في جهودهم الرامية إلى إبعاد الولايات المتحدة عن التورط في العالم الثالث، وعلى الأخص في فيتنام. في النهاية، هم أيضاً عجزوا عن الهروب من قبضة “معاداة الشيوعية” المحكَمة في السياسة الأميركية خلال حقبة الحرب الباردة.
وفي الأخير، يصف لورنس المجموعة الرابعة، “الانفراديون” (أو أصحاب النزعة الأحادية)، التي يمثلها في المقام الأول المسؤولون العسكريون والاستخباراتيون. واستطراداً، استبعد أفراد تلك المجموعة التعاون مع الحكومات الأخرى، حتى الحلفاء الأساسيين. وبدلاً من ذلك، فضلوا التطبيق المباشر لقوة الولايات المتحدة، سواء من خلال العمل العسكري أو العمليات السرية. تجدر الإشارة إلى أنّ هذا النهج يحظى باهتمام أقل من الثلاثة الآخرين في الكتاب، الذي يركز على المسؤولين في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية أكثر من تركيزه على أولئك الموجودين في الجيش أو وكالة الاستخبارات المركزية. وهذا ليس أمراً نموذجياً: ففي النهاية، تميل المجموعة الأخيرة إلى نشر عدد أقل من الكتب وإلقاء عدد أقل من الخطابات التي يمكن أن يستشهد بها المؤرخون، وغالباً ما تكون قدرة الوصول إلى أرشيف منظماتها أقل بكثير. وعلى الرغم من ذلك، يمكن القول إن “الانفراديين” كان لهم التأثير الأكبر على سياسة الولايات المتحدة في العالم الثالث في تلك الحقبة. وفي نهاية المطاف، كانت نظرتهم هي التي أدّت إلى غزو “خليج الخنازير” في عام 1961، وبعد سنوات قليلة، لعبت دوراً رئيساً في تصعيد الحرب الأميركية في فيتنام.
تورط في الاحتواء
في صياغة حجة كتابه، أكد لورنس على طريقة تحول سياسة واشنطن في العالم الثالث خلال الستينيات من الوعد العظيم في سنوات كينيدي إلى الحذر من فك الارتباط في عهد نيكسون. ويؤكد لورنس أن التحول بدأ في عهد جونسون، الذي كان، مقارنة بكينيدي، يعتمد أكثر على مبدأ المعاملة بالمثل في مقاربته للسياسة الخارجية، وبالتالي أقل حرصاً على تقديم مساعدات أميركية لحكومات، مثل الهند، التي رفضت الامتثال لواشنطن في الحرب الباردة.
فيما يتحول الكتاب إلى سرد مفصّل عن سياسة الولايات المتحدة في دراسات الحالات الخمس التي يتناولها، يبدو أن تلك الفروق، بين الإدارات المختلفة، وبين مناهج السياسة المختلفة، غالباً ما يطغى عليها العمل المضني المتواصل الذي يرمي إلى صنع السياسات وسط ظروف متغيرة ومعقدة وغامضة. والصورة التي تظهر في النهاية هي تلك التي لم تتغير فيها سياسة الولايات المتحدة بقدر ما كان متوقعاً تجاه الدول الخمس التي يركز عليها لورنس، على الرغم من بعض التغييرات في الأسلوب والأفراد مع مضي سنوات ذلك العقد.
وبالطبع كانت كل حالة مختلفة، ولكن ظهرت عدة خيوط مشتركة. أولاً، خلال ستينيات القرن الماضي، غالباً ما عززت الخلافات داخل مؤسسة السياسة الخارجية التردد والمراوغة. ثانياً، أدّت تصورات مخاطر السياسية المحلية إلى دفع المسؤولين المتعاطفين مع تطلعات العالم الثالث حتى، إلى السير بحذر خشية اتهامهم بتدليل الشيوعية. والنقطة الأخيرة، وربما الأهم، هي أن قادة العالم الثالث، الحريصين على سيادتهم التي نالوها بشق الأنفس، قاوموا جهود الولايات المتحدة الرامية إلى تشكيل سلوكهم، سواء بالترغيب أو بالترهيب. على سبيل المثال، وجد لورنس أنه عندما حاولت واشنطن استخدام مساعدات زيادة التنمية من أجل تقريب الحكومات إلى فلكها، لقيت نتيجة معاكسة في كثير من الأحيان: إذ قام قادة ما بعد الاستعمار بدلاً من ذلك بالتواصل مع قوى أخرى، غالباً الاتحاد السوفياتي، من أجل تحقيق التوازن ضد نفوذ الولايات المتحدة والحافظ على حريتهم في التصرّف.
وبقدر ما يظهر خط متسق في السياسة التي اعتمدتها واشنطن تجاه تلك الأماكن، يمكن تلخيصه في كلمة واحدة متوقعة: “الاحتواء”. يبدو أن كل قرار تقريباً بشأن الجهة التي يجب دعمها، ومقدار المساعدة الذي يجب تقديمه، ونوع الخطاب العام الذي يجب استخدامه، قد تم حسابه لدرء أي مجازفة تنطوي على تحقيق مكاسب للشيوعية، أو ظهور مثل تلك المكاسب. في الواقع، الانطباع الذي يتخذه المرء من السرد التفصيلي في هذا الكتاب هو أنه مهما بلغ تعاطف كينيدي أو جونسون أو بعض مستشاريهما تجاه طموحات شعوب العالم الثالث، فالضرورات السياسية للاحتواء قيدت خياراتهم السياسية بإحكام.
وهنا تكمن المفارقة. يجادل لورنس بأن التصعيد في فيتنام، ومخاوف الحرب الباردة بشكل عام، جعلت صانعي السياسة الأميركيين أقل استجابة لتطلعات شعوب العالم الثالث، وبالتالي، كانت هناك “فرصة ضائعة” لإقامة علاقات أفضل مع تلك الشعوب ومساعدتها على تحقيق المكاسب في الديمقراطية والتنمية. في المقابل، تشير القصة التي يرويها إلى أن موقف الولايات المتحدة في جميع القضايا الخمس، إذا حكمنا عليه بدقة وفقاً لمعايير الاحتواء، قد تحسّن في الستينيات. في ذلك الإطار، شهدت البرازيل وإندونيسيا انقلابات عسكرية استبدلت الحكومات اليسارية بجنرالات موالين للغرب. أما إيران، التي كانت تميل نحو الولايات المتحدة في أوائل الستينيات، فقد ترسّخت مكانتها في المعسكر الأميركي في نهاية العقد. في المقابل، شهدت الهند، التي كانت تجسد الحياد الشديد في وقت مبكر، تضاءلاً في نفوذها بسبب الصراع الإقليمي والاضطرابات الداخلية. ويبدو أن جنوب أفريقيا، حيث بدا أن حكم الأقلية البيضاء قد يتسبب في اندلاع صراع إقليمي، استقر الوضع فيه إلى حد كبير بحلول نهاية العقد، على الأقل من منظور واشنطن. باختصار، إذا أظهرت ستينيات القرن الماضي أن دعم الديكتاتوريين الودودين ساعد واشنطن على احتواء الشيوعية في العالم الثالث، فليس من المستغرب، كما استنتج لورنس، أن إدارة نيكسون العتيدة التزمت بهذه الاستراتيجية بحزم أكبر.
وعلى الرغم من ذلك، إذا نظر المرء إلى ما هو أبعد من نطاق التسلسل الزمني في هذا الكتاب، يصبح من الواضح أن تقليص مبدأ نيكسون كان مؤقتاً فحسب. في الواقع، سرعان ما استعادت واشنطن الحماسة لتغيير العالم الثالث في سنوات كارتر وريغان، أولاً في شكل حملة صليبية من أجل حقوق الإنسان ثم كموقف معاد جداً للشيوعية شهد انتشار التشابكات العسكرية الأميركية عبر تلك المناطق، التي غالباً ما جرى تبريرها بحجة تعزيز القيم الأميركية.
ثم أشعلت نهاية الحرب الباردة طموحاً أكبر في واشنطن. وبعد حرب الخليج 1990-1991، التي صوّرها الرئيس جورج دبليو بوش على أنها دفاع عن حق تقرير المصير الذي تتمتّع به الكويت في مواجهة العدوان العراقي، حدثت تدخلات أميركية في الصومال والبلقان وأماكن أخرى. ثم جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) والغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، حيث وصل طموح واشنطن إلى ذروة مأساوية أخرى حينما سعت الولايات المتحدة إلى إعادة هيكلة مجتمعات بأكملها باسم الازدهار والديمقراطية (وبالطبع مكافحة الإرهاب). وفي نصف العقد الماضي أو نحو ذلك، مع الانهيار المخزي لتلك المشاريع، عادت الولايات المتحدة مرة أخرى إلى تقليص تورطها في الشؤون الخارجية، على الأقل حالياً.
طموحات متنوعة
يظهر رأي مختلف إلى حد ما عن تاريخ انخراط الولايات المتحدة في شؤون “دول الجنوب” إذا نظر المرء إلى ما وراء صانعي السياسة في البيت الأبيض واستخدام القوة العسكرية الأميركية. خلال الستينيات، أصبح جونسون والشخصيات المهمة الداعمة لسياسته الخارجية متورطين بشكل متزايد في فيتنام وتراجعوا عن أي طموحات ليبرالية توسعية في العالم الثالث مفضّلين العمل مع ديكتاتوريين ودودين. ولكن في الوقت نفسه، شارك عدد كبير من الأميركيين الآخرين، إلى جانب أشخاص كثر غيرهم في جميع أنحاء العالم، مشاركة عميقة في اثنين من أكثر الجهود العالمية طموحاً وتأثيراً في القرن الماضي.
الجهد الأول كان الثورة الخضراء التي أدخلت إلى “دول الجنوب” مجموعة من التقنيات الزراعية الجديدة ما وسّع بشكل كبير الإمدادات الغذائية العالمية ومنح الخبير الزراعي الأميركي نورمان بورلوغ جائزة نوبل للسلام في عام 1970. والثاني هو برنامج منظمة الصحة العالمية للقضاء على الجدري برئاسة عالم الأوبئة الأميركي دونالد هندرسون، الذي لم يكتف بتخليص العالم من الجدري، وهو فيروس قاتل أصاب البشرية لقرون، بل ساعد أيضاً في تعزيز مبادرات التطعيم في معظم أنحاء “دول الجنوب” من خلال إرساء أسس برنامج التحصين الموسَّع التابع لمنظمة الصحة العالمية. ولعبت وزارة الزراعة الأميركية ومركز الأمراض المعدية (المعروف الآن بمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها Centers for Disease Control and Prevention) أدواراً حاسمة في تلك الجهود، كما فعلت المؤسسات والمعاهد البحثية وشبكات الخبراء العامة والخاصة التي كان مقرها في الولايات المتحدة أو تم تمويلها بأموال أميركية.
يحمل هذا المنظور دروساً يمكن الاستفادة منها في الوقت الحالي. ربما، إذا استمرّ نمط السياسة الخارجية الأميركية الذي يبرزه كتاب “نهاية الطموح”، فالكارثة التي وقعت في أفغانستان، على غرار تلك التي حدثت في فيتنام، ستشكّل مجرد عمل آخر في الدراما المألوفة المتمثلة في التدخل والتراجع والتدخل مرة أخرى. ولكن كما كان الحال في منتصف القرن العشرين، لا يمثل هذا النمط سوى جزء واحد من التفاعلات بين الولايات المتحدة و”دول الجنوب”.
فلنأخذ مثلاً الصحة العالمية، التي سلطت جائحة كورونا الضوء عليها بشكل صارخ. في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تعاونت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى عدد من البلدان الأخرى، في القضاء على الجدري حتى عندما كانت واشنطن تشن حرباً وحشية في جنوب شرق آسيا. ونجحت القوتان العظميان في التعاون بهذه الطريقة حتى في خضم الصراع الاستراتيجي لأن مصلحتهما اقتضت استئصال الجدري من “دول الجنوب” (كانت برامج التطعيم الوطنية قد قضت عليه في وقت سابق في “دول الشمال”)، ولأن علماءهما استطاعوا التحدث بعضهم مع بعض والعمل معاً، وكذلك بسبب وجود منظمة دولية، وهي منظمة الصحة العالمية، تمكّنا من خلالها تنسيق تلك الجهود بينهما ومع عشرات الدول الأخرى.
واليوم، يشهد العالم ما سماه البعض حرباً باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين، حتى في الوقت الذي يواجه فيه الوباء الأكثر فتكاً منذ قرن. حتى الآن، يبدو أن واشنطن وبكين تركزان على توجيه أصابع الاتهام والمنافسة القومية. وعلى الرغم من ذلك، تماماً مثلما حدث من نصف قرن، فالقوتان العظميان لديهما اليوم مصلحة مشتركة في إنهاء الوباء، ويمكن لعلمائهما التحدث إلى بعضهم البعض (علماً أنّهم كانوا يفعلون ذلك منذ فترة طويلة، عندما كان مسموحاً لهم)، وبطريقة موازية، ما زالت منظمة الصحة العالمية، بغض النظر عن عيوبها، تسمح للبلدين بتنسيق جهودهما مع جهود عشرات الدول الأخرى. بالتالي، يبدو أن الوباء الحالي يمثل فرصة مثالية لتوفير تعاون وسط الصراع تماماً مثل ذلك الذي سمح بالقضاء على الجدري.
على نطاق أوسع، إذا رأى الأميركيون أن من مصلحتهم تعزيز التغيير الإيجابي في “دول الجنوب”، كما ينبغي أن يفعلوا، فهذا التاريخ يشير إلى أن أفضل طريقة للقيام بذلك ليست باستخدام القوة العسكرية الأحادية الجانب أو حتى اتفاقيات المساعدة الثنائية. عوضاً عن ذلك، كان أكثر البرامج نجاحاً عبارة عن تعاون واسع متعدد الجنسيات وغالباً ما تضمّن شراكات بين القطاعين العام والخاص. وعلى الرغم من أن التعاون مع الصين قد يكون غير متوافر في الوقت الحالي، فالتوزيع العالمي للقاحات كورونا سيمثل طموحاً شبيهاً بالقضاء على الجدري. في الواقع، يمكن أن يخلّف اتخاذ إجراءات جريئة متعددة الأطراف بشأن تغير المناخ تأثيراً مشابهاً لذاك الذي ترتّب عن الثورة الخضراء. بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، يبدو أن واشنطن تتجه نحو تقليص تدخّلها الخارجي، كما فعلت في أعقاب الحرب في فيتنام، على الأقل مؤقتاً. ولكن كما تبيّن عبر التاريخ، فهذا لا يعني أن الجهود العالمية الطموحة بعيدة المنال.
إيريز مانيلا أستاذ تاريخ بجامعة هارفارد ومحرر مشارك لكتاب “قرن التنمية: تاريخ عالمي”
مترجم من فورين أفيرز
المصدر: اندبندنت عربية