يقول: أعطاني القرآن الكريم قوّة غير محدودة. لقد تجاوز بها انتماءه الأقلي، للأقلية الشركسية، وللسلف وللآباء. راعه منذ الستينيات سيطرة الاستبداد؛ فدخل السجن بعد مظاهرةٍ من أجل الحريات، واكتشف حينها أن القضية تتجاوز الاستبداد السياسي؛ فهناك الاستبداد الديني أيضاً، وحينها بدأ سيد قطب يؤسس لمفهوم العنف وسيلة للوصول إلى الحكم. في محتبسه، وضع الأفكار الأولية لكتابه التأسيسي للسلميّة، مذهب ابن آدم الأوّل، ورفض فيه مفهوم الجهاد بالقوة، وكل مدارس الفقه التي أَعلت من الجهاد والعنف، ودعا إلى مفهوم الجهاد بالأفكار، بأفكار القرآن والعلم والعقل، وأن شرط الجهاد العدل أولاً، ومن دون تطبيق العدل سيسود التسلط والاستبداد والقهر. لم يعترف إلا بالحكم الراشدي في الإسلام، وبعد ذلك كانت الأنظمة التي سادت استبدادية، وتحت ظلها كُتبت الثقافة الإسلامية وكذلك الفقه، وهذا أفقدهما الانتماء الحقيقي، كما يرى، للقرآن ولسيرة النبي.
لم تُغره المؤسسات الدينية القائمة، فعمل مدرساً بشهادته الجامعية في الستينيات، الأدب العربي، وسرعان ما طُرد من التعليم بسبب أفكاره، فعاد إلى العمل في قريته، بير عجم، فلاحا ومربيا للنحل، وكتابة مقالات في هذه الصحيفة أو المجلة، وتابع سلسلة كتبه عن السلمية والحرية والديمقراطية والإشادة بالعقل والعلم وتغيير الوعي؛ فعاش فقيراً، ولم يطمع في ثروات الأرض والناس أبداً. انطلق الشيخ من الواقع، وحياة الناس، لفهم القرآن الكريم، وليس من السلف أو ما اعتاد عليه الآباء؛ فأقام الصلة بين حاجات الناس ونصوص القرآن وشواهد التاريخ. أغرته كثيراً آيات الأنفس والآفاق، أي العلم والتعقل والأفكار، والعلوم المبتكرة، ومنها وعلى أساسها تتطوّر المجتمعات، وكذلك الديمقراطية. كان داعية صلباً للأخيرة، وللوحدة أيضاً. في 1961 رفض الانفصال (بين سورية ومصر)، وأكد كثيراً على ضرورة الوحدة العربية، أسوة بالاتحاد الأوروبي، الذي يُكثر من الإشادة به في كل فيديوهاته ومحاضراته، فبعد قتال وتدمير للمدن الأوروبية يتحدون.
في أوائل التسعينيات، صادفت بعض تلاميذه، كانوا رفاقاً لنا في الجامعات، حيث كنا نُساق إلى التدريب الجامعي العسكري، فكانت الحوارات معهم ناضجة، وذكية، وفيها كلام كثير عن العقل والعلم والتاريخ والحريات وعن: لا إكراه في الدين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. تكرّر الأمر ذاته في بداية الثورة؛ أثاروا إعجابي باندفاعهم إلى تأييدها. الشيخ جودت ذاته ذهب إلى مدينة جاسم في درعا، وإلى دوما، وإلى سواهما. كان يعنيه ألا يندفع الشباب نحو العسكرة أو الجهاد بأية طريقة؛ هوجم، رفض بعضهم حينها أفكاره. وطبعاً، مع تعزّز العسكرة والأسلمة السياسية والسلفية والجهادية، أُبعد الرجل نهائياً عن الفعالية، وعاد ليتحرّك ضمن دوائره الأصلية، ودوائر ثقافية جديدة، وإعطاء بعض المحاضرات والاستجابة لندواتٍ هنا وهناك. لم ييأس على الرغم من ذلك، ولكن جرحه تعمّق أكثر فأكثر، فتراه يكرّر، ألا تفهمون، ألا تتعلمون، لقد تعبت كثيراً لأصل إلى هذه الأفكار، ويضيف: خذوها مني، واذكروها، وليس لدي شيء سريّ، أنا أتكلم في العلن فقط. نغمة الشعور بالتعاسة واضحة الدلالة في ذلك كله.
الحرب انتهت؛ عبارة يكرّرها كثيراً. وبرأيه، بعد اكتشاف القنبلة النووية، وامتلاك عشرات منها من الدول القوية، لا يلجأ إلى الحرب إلا الجاهل والغبي، والخبيث يدفعهما إليها، ليحصد الثروات ويدمر الشعوب. كان يبني أفكاره على مقولته السابقة، وباعتباره يرفض الاستبداد بكل أشكاله، وينطلق من رفض الاستبداد الديني، رفض الانغلاق والتعصب والعدوان واستخدام القوة والسلاح. تكراره آيات الآفاق، كان يبتغي منها أن نتعلم من الغرب، والشعوب المتقدّمة، وننهض؛ كثيراً ما تراه يتطرّق للعلوم الاجتماعية أو الطبيعية، ويُكثر الكلام عن الفيزياء، والتاريخ وعمر الأرض والبشرية. من يستمع إليه، سيقول إن هذا الرجل لا ينتمي للنص القرآني، وفعلاً وجِهت له اتهامات باطلة، بالعلمنة، والماركسية، والرجل في بعض كتبه يشيد بالأخيرة، وبفهمها للتاريخ، ولدور أدوات الإنتاج في التغيير الاقتصادي والاجتماعي.
اعتقِل خمس مرات، قبل عام 2000، وبعده. شارك في التوقيع على إعلان دمشق 2005، وألقى المحاضرات في الصالونات التي سَمح بها النظام بعد عام 2000. عقليته المنفتحة جعلته يندفع إلى مشاركة العلمانيين والليبراليين والماركسيين. لم يعرف التطرّف والتعصب إلى قلبه سبيلاً، وهو الشيخ المؤمن، المتفقه بآيات القرآن الكريم، والشارح لها. كان انتماؤه للعصر دقيقاً، فأراد مواءمة الدين والتطور، وإعادة تأويل الدين وفقاً للعقل والعلم والديمقراطية والحرية والعدل أيضاً. ثَمّنَ الديمقراطية كثيراً، وسَخِرَ ممن يعتبرونها كفراً، وهي مرتبطة بتطبيق العدالة.
الطغاة صنم، وأوروبا أنهت عبادة الفرد، وهي شرك. المشكلة ليست في الآخر، المشكلة فينا نحن. أشاد طويلاً بتجربة اليابان، وانتقد الثورة الجزائرية، لما قدّمته من ملايين الشهداء؛ المقصد هنا أنه يريد الحفاظ على حياة الناس. أراد للنضال أن يكون سلمياً، وسُمّي لهذا بغاندي العرب. كرّر مع أستاذه المفكر الجزائري، مالك بن نبي، أن فلسطين ليست أكبر مشكلة لدينا، بل غياب الحريات والديمقراطية، وبدونها لن تعود فلسطين، وستبقى إسرائيل، كياناً عنصرياً إحلالياً في منطقتنا.
قضيته المركزية، كيف نتخلص من التخلف، ونحقق النهضة بكل أشكالها، الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافة، بل ومساواة المرأة بالرجل. قَبض الشيخ الجميل بقلبه على القضية المركزية عربياً وإسلامياً؛ قضية النهضة، وأنها غير ممكنة من دون انتهاج الخط الأوروبي في التطور؛ التصنيع، الديمقراطية، الحريات، المساواة. ولهذا يقول شيئاً، يرفضه كثيرون، إن العالم لم يخلق مرة واحدة وانتهى، بل هو في خَلقٍ وزيادةٍ بصورة مستمرة، أي ما تأتي به الأنفس والشعوب “الآفاق”، وما أتت به أوروبا منذ خمسة قرون؛ علينا تملكه، حيازته، والانطلاق منه، والقرآن يحثّنا نحو العلم والعقل، ويتساءل: لو تخلينا عما ذكرنا، ماذا يبقى لنا؟
يستغرب كثر إصرار الشيخ جودت سعيد على السلمية، ورفضه الكامل الجهاد بالقوة والعنف. ولأنه قال بذلك، فقد رفض أغلبية رجال الدين الإسلامي رؤيته تلك. كانوا لا يفهمون كيف يمكن مواجهة الاستبداد أو الاستعمار بالسلمية. لديه قولٌ معبّر جداً، من يؤمن بالجهاد والسلاح إلهه مسلح. القصد هنا، وعلينا ألا ننسى فكرته عن أن الحرب انتهت، أن من يصل إلى الحكم بالسلاح سيوجهه إلى صدور الناس من جديد، وهذا دقيق للغاية؛ إذا التطور وبناء الأمة مرتبط بالسلمية، وليس بالعنف وبناء السلطة الدينية أو البشرية عبر السلاح.
رفض تسليح الثورة السورية، والدخول في أية مؤسسات دينية تابعة للثورة، فهي ليست مستقلة تجاه الخارج والتمويل. أية قراءة دقيقة لتجربة العسكرة في الثورة ستوضح الكوارث التي أدّت إليها؛ وهنا لا تتحمّل الثورة تلك الكوارث؛ فالنظام هو من قاد البلاد نحو الخيارين، الأمني والعسكري، ولكن الانجرار نحو الخيار ذاته، كان الأمر الخاطئ، وتتحمّل المعارضة السورية مسؤولية كبيرة فيه، وتحديدا السلفيين والجهاديين، وهؤلاء بالذات ما كَتب الشيخ ضدهم ومنذ الستينيات.
تُوفي الشيخ جودت سعيد في 30/1/2022، وقد استَنزف جسده، الضعيف أصلاً، الاجتهاد من أجل نهضة سورية والدعوة من أجل الحريات والديمقراطية والسلمية. لقد ترك لنا إرثاً ثقيلاً، يجب على كل القوى الفكرية والسياسية السورية أن تستوعبه جيداً؛ كان مناضلاً شجاعاً ضد كل أشكال الاستبداد؛ ليرقد بسلامٍ أبدي.
المصدر: العربي الجديد