نحو ناصرية متجددة :
تقرب الياس مرقص وياسين الحافظ من الماركسية نحو القومية العربية وصولا للناصرية , بينما تقرب جمال الأتاسي وعبد الكريم زهور عدي من حزب البعث العربي الاشتراكي القومي نحو الماركسية . كما ابتعدا عن البعث وصولا للناصرية أيضا .
عند نضجه يبدو ذلك التيار الفكري- السياسي ناصرية معقلنة أقل ارتباطا بشخص عبد الناصر وأوضح ارتباطا بالماركسية لكن بفهم مختلف كليا عن فهم الأحزاب الشيوعية العربية وكذلك عن قوى اليسار الأخرى هنا وهناك .
في مرحلة لاحقة ومنذ منتصف السبعينات يتعمق الاهتمام بمسائل مثل الديمقراطية وحقوق الانسان , كما يظهر الميل نحو علمانية غير معادية للدين .
بصيغة أخرى يزداد الوعي بضرورة انجاز المرحلة الليبرالية – الديمقراطية مع المهام الاجتماعية والقومية .
في مقالة الياس مرقص عام 1985تحت عنوان ” اطروحات من أجل اصلاح الفلسفة ” (*) يقول الياس : ”
يجب الانتقال من الليبرالية النخبوية ومن تنظير التلاعب بالبشر إلى الديمقراطية.
ليست الليبرالية هي الشيطان.. (الشيطان لا يتجسد مباشرة في شيء، في قطعة، أو لنقل إنه قابلٌ للتجسد- جزئيًا ونسبيًا- في شتى الأشياء وكل الأشياء). الليبراليةُ لها ما لها وعليها ما عليها. لنقلْ إنها مرحلةٌ تاريخية ومنطقية.
باختصار، ومع التبسيط، الليبرالية ترتبط بالطبقة الوسطى الميسورة. الديمقراطيةُ ترتبط بالطبقة العَوَامية، الشعبية، العمال والفلاحين وصغار الكَسَبة، الخ…
المثقف العربي النموذجي لم يفهم هذه القضية في يوم من الأيام، لم يَفْكر تاريخنا الأخير. كأنه يريد ديمقراطيةً لنفسه، ديمقراطيةً بدون قاعدةٍ جماهيرية، نهضةً ليس أساسُها مجموعُ الأمة، نهضةً أساسُها شطرًا من الأمة هو “المجتمعُ الحديث” داخل كل قطر (فعصر الإمبريالية والنهضة والحركة الوطنية و”الليبرالية” انتهى إلى شَطْرِ كلِّ مجتمع عربي إلى مجتمعين: حديث وتقليدي). والليبرالي العربي يمكن أن يتحول إلى ما يشبه الفاشستي على قاعدةِ نخبويَّته ذاتها.
يجب الانتقال من “الديمقراطية”(مع مزدوجين!) إلى “دولة حَقٍ” وديمقراطية.
“دولةُ حق” Etat de Rechtstaat droit، دولةُ حقٍ وقانون الخ، هذا هو الأساسُ المنطقي للديمقراطية.
لا دولة ديمقراطية إذا لم تكن أوَّلاً “دولةَ حق.”
لا ديمقراطية بلا دولة.
لا ديمقراطية مع اللاَّدولة.
واللادولة هي الدَّوَل (بالجمع)، الفوضى والعسفُ والاستبداد، وهي المخلوطة دُوَلٌ – طبقاتٌ- طوائفُ- قبائلُ وهلمجرًا.
دولة حقّ: هذا يعني أولاً سُموَّ القانون. بدءًا من الدستور (دستور الدولة) وصولاً إلى نظام السير في الشوارع مرورًا بالقوانين.” انتهى الاقتباس .
بصيغة أخرى يقول الياس : لايمكن العبور إلى الديمقراطية مباشرة , الديمقراطية لايمكن تأسيسها عند النخب , لابد من دولة حقيقية , دولة قانون ومؤسسات , أضيف دولة حريات عامة , بغير ذلك الحديث عن الديمقراطية هو لغو , مجرد شعار فارغ , يصلح لللعب على الناس والقفز على السلطة وليس لأي شيء آخر .
في عام 2000 ألقى الدكتور جمال الأتاسي كلمة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الثامن لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي قال فيها : ” ماكانت قضايا الديمقراطية , وتعميم الثقافة الديمقراطية , والحوار والتعددية وتكريس مبادىء سيادة الحق والقانون في الدولة والمجتمع وغيرها …هي شاغلنا وشاغل أحزابنا الثورية في الخمسينات والستينات بل فكر الثورة والاستقلال الوطني والتحرر القومي والتقدم الثوري وحرق المراحل تقدميا لتقوى على مواجهة أعداء الأمة والقوى المعادية لتقدمها ”
يعترف جمال الأتاسي بقصور نظرة الناصرية سابقا وعدم اعطائها مسائل مثل الديمقراطية وسيادة القانون ..الخ .. الاهتمام الضروري وهو بهذا يقول بضرورة تطوير الناصرية نحو إدخال تلك المسائل في صلب مهام الكفاح السياسي .
من المناسب أن نلاحظ أن العقلانية التي اتصف بها ذلك التيار هي من أعطته القدرة على التطوير عن طريق النقد .
بالنسبة للقادمين من التيار القومي ( جمال الأتاسي وعبد الكريم زهور عدي ) حدثت الاستدارة نحو اليسار بعد أن توضح أن الانفصال عن الجهورية العربية المتحدة عام 1961 قد تم بدفع من البورجوازية السورية في الداخل ومن الغرب في الخارج , ( يذكر عبد الكريم النحلاوي في برنامج شاهد على العصر أن الملك حسين أرسل لهم ( للانقلابيين ) رسالة عشية الانقلاب يعرض فيها التدخل العسكري لدعمهم , ولاحاجة للتفكير فيما إذا كانت تلك مبادرة منه أو بموجب تعليمات الدول الكبرى الغربية .
هذه القطيعة مع البورجوازية لم تكن عميقة وحاسمة كما هي عليه بعد الانفصال , فالبورجوازية السورية لم تكن مرتاحة للوحدة مع مصر عام 1958 لكنها لم تقف بوجه التيار الشعبي العارم الذي كان يطالب بها , لكنها وقفت بوضوح مع الانفصال وساندته بقوة , وكانت تلك هي مفترق الطرق التي دفعت التيار القومي للاستدارة نحو اليسار .
بعد عام 1961 ازداد ميل عبد الناصر أيضا نحو اليسار واقترابه من الاتحاد السوفييتي , وازداد نفوذ الاتحاد السوفييتي العالمي وانتشرت الأفكار الاشتراكية في كل مكان , لقد كانت الستينات العقد الذهبي لانتشار الفكر الاشتراكي بكل تنوعاته , لذا لم يكن غريبا تأثر الفكر السياسي السوري والذي طغى عليه الطابع القومي بالفكر اليساري الذي أصبح ” موضة العصر ” إضافة للأسباب السابقة .
ما ينبغي أخذه بالاعتبار أن الخط السياسي للتيار الوحدوي القومي في سورية منذ لحظة الانفصال عام 1961 وصولا إلى انقلاب آذار 1963 ثم مابعد ذلك حين انقلبت القيادة العسكرية في حزب البعث على ميثاق 17 نيسان 1963 واضطر التيار الوحدوي القومي داخل حزب البعث للخروج منه وملاقاة التيار الناصري في إطار الاتحاد الاشتراكي منذ العام 1964 , أقول ماينبغي أخذه بالاعتبار أن الخط السياسي لذلك التيار لم يكن بإمكانه البقاء بعيدا عن مصر وعبد الناصر , وحين تعمق الطابع الاجتماعي للخط السياسي لعبد الناصر أصبح من الطبيعي تعمق الطابع الاجتماعي في الخط السياسي لذلك التيار .
كما حصل مع القوميين الوحدويين السوريين لم يخف على عبد الناصر الذي آلمه الانفصال كثيرا أن البورجوازية الداخلية قد تحالفت مع القوى الدولية لضرب الوحدة , وكان ذلك سببا هاما من الأسباب التي عمقت النهج الاشتراكي في الناصرية .
مع اقتراب الناصرية من الماركسية بدأ الناصريون بوعي الفروقات بينهم وبين الأحزاب الشيوعية العربية , فهم ليسوا على استعداد لفقد استقلالهم الفكري والسياسي والانضواء تحت عباءة الاتحاد السوفييتي , كما أن لهم ملاحظات حول موقف الأحزاب الشيوعية من القضية الفلسطينية والمسألة المركزية الأخرى لديهم وأعني بها الوحدة العربية .
والناصرية بالنظر لكونها تيارا شعبيا لاتستطيع تبني الماركسية الملحدة كما هي عليه تجاه ملايين الناصريين المؤمنين .
مجمل ماسبق صنع الخطوط الحمراء الفاصلة بين التيار الناصري المتجه نحو اليسار وبين الحزب الشيوعي السوري وفكره الماركسي التقليدي .
من الجهة الأخرى فإن الياس مرقص المثقف الماركسي الموسوعي والذي يقف على صعيد واحد مع أهم المفكرين الماركسيين في عصره استطاع مبكرا الخروج من تحت عباءة الحزب الشيوعي السوري , ليس ذلك فقط , لكنه في انشقاقه طور خطا ماركسيا مستقلا يقارب المسائل الراهنة ذلك الوقت كمسألة الموقف من الوحدة العربية والقضية الفلسطينية بحيث اقترب إلى حد كبير من الناصرية , أثناء الخدمة العسكرية عام 1956 تعرف على ياسين الحافظ الماركسي أيضا ونشأت بينهما صداقة فكرية وشخصية أسهمت في تبلور الخط السياسي والفكري لكليهما لاحقا .
وفي حين بقي الياس مرقص مخصصا معظم جهده ووقته لتعميق ماركسيته العربية ونقد الشيوعية الستالينية واليسار الطفولي والأفكار القومية الطوباوية وكذلك النزعة التجريبية والعفوية في السياسة فقد اندفع ياسين الحافظ نحو ملاقاة الناصرية في الفكر والممارسة وأسس حزب العمال الثوري محاولا سحب الناصرية نحو خط يساري أكثر جذرية .
طور ياسين الحافظ ماركسيته من الياس مرقص وعروبيته من عبد الكريم زهور عدي وجمال الأتاسي , لكنه استطاع تقديم توليفة فكرية متقدمة تجمع بشيء من الانسجام والعمق بين النزعتين , ويعود له الفضل في صياغة الخط الفكري السياسي بينما يعود الفضل لالياس مرقص في نقد الماركسية السوفييتية وتقديم ماركسية عقلانية مستقلة ترتبط بالواقع العربي .
323 5 دقائق