ستستمر آلية مساعدات الأمم المتحدة لسوريا لمدة ستة أشهر أخرى، ولكن خطر المجاعة، وحق النقض الروسي، والتصعيد العسكري ستبقى قائمة ما لم تتخذ واشنطن الخطوات المناسبة قبل الجولة المقبلة من مفاوضات التجديد.
عندما تم تبنّي “قرار مجلس الأمن رقم 2585” في تموز/يوليو الماضي، فإنه أسفر عن تمديد آلية المساعدات العابرة للحدود في سوريا لمدة عام واحد، بشرط أن يُصدر الأمين العام للأمم المتحدة “تقريراً موضوعياً” حول هذه المسألة في موعد أقصاه ستة أشهر. وبعد تقديم التقرير في 15 كانون الأول/ديسمبر، جدد مجلس الأمن الآلية لفترة الستة أشهر الثانية من دون تصويت. وربما كان من المدهش عدم معارضة روسيا التقرير رسمياً أو مطالبتها بالتصويت عليه، وبدلاً من ذلك سمحت باستمرار تدفق المساعدات حتى انتهاء صلاحية القرار في 10 يوليو/تموز.
وكان يُنظر إلى خطوة موسكو غير المعلنة إلى حد كبير على أنها ليست حدثاً هاماً في دوائر السياسة في واشنطن، في حين أشاد بها البعض على أنها انتصار لسياسة إدارة بايدن تجاه سوريا. ومع ذلك، تُظهر نظرة فاحصة أن المسؤولين الروس كانوا قادرين على الحصول على تنازلات كبيرة من واشنطن بشأن الملف الإنساني (على سبيل المثال، قرار الأمم المتحدة الذي يؤيد بعض مشاريع “التعافي المبكر” التي كانت مشروطة سابقاً بتسوية سياسية أوسع نطاقاً)، فضلاً عن تخفيف مشروط للعقوبات الأمريكية على نظام الأسد.
نمط من التنازلات والهجمات
تم إنشاء الآلية عبر الحدود في عام 2014 لإيصال المساعدات الإنسانية التي تموّلها الأمم المتحدة مباشرة إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سوريا. وعلى الرغم من أن الدول المضيفة عادة ما تشرف على توزيع مساعدات الأمم المتحدة، إلّا أن التسييس العديم الرحمة لنظام الأسد للمساعدات الإنسانية كان يعني أن الإمدادات التي تمر عبر دمشق نادراً ما تصل إلى المدنيين الذين هم في أمس الحاجة إليها.
وفي البداية، وافق مجلس الأمن على أربعة معابر لإيصال المساعدات المصرح بها: واحد من الأردن، وواحد من العراق، واثنان من تركيا. وحتى كانون الأول/ديسمبر 2019، جدد مجلس الأمن موافقته على هذه المعابر دون وقوع أي حوادث. ومع ذلك، فمنذ ذلك الحين، تعامل الكرملين مع كل تصويت للموافقة أمده ستة إلى اثني عشر شهراً على أنه مواجهة دبلوماسية – فروسيا تهدد أولاً بترك ملايين المدنيين دون أي مصدر موثوق للمساعدات الأساسية، ثم تتراجع مقابل تنازلات، مثل تخفيض عدد معابر المساعدات المسموح بها إلى الحد الذي ينشط فيه معبر واحد فقط وهو باب الهوى على الحدود الشمالية الغربية مع تركيا.
ووراء الكواليس، انخرطت إدارة بايدن وسابقاتها مراراً وتكراراً مع روسيا من أجل التوصل إلى تسوية للحرب. وفي معظم الحالات، ترافقت هذه المفاوضات والمواجهات الدبلوماسية المختلفة حول آلية المساعدة مع اشتداد الصراع العسكري. وعلى غرار آلية الساعة، شنّت القوات الروسية غارات جوية في إدلب قبل تجديد المعبر الأخير، ودمّرت محطة لضخ المياه وغيرها من البنى التحتية المدنية.
المساعدات “عبر خطوط التماس” أداة للتضليل
ندّد نظام الأسد جاهراً بالآلية العابرة للحدود باعتبارها انتهاكاً لسيادته وأداة للنهوض بالأجندة الغربية في سوريا. وبشكل عام وافقت موسكو على ذلك. وتُجادل كلتا الحكومتين بأن المساعدات التي تصل إلى الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة يجب إدخالها، بدلاً من ذلك، “عبر خطوط التماس” من دمشق.
ومع ذلك، لم تُظهر المساعدات عبر خطوط التماس أي إشارة إلى أنها بديلاً موثوقاً به لمعبر باب الهوى. ففي حزيران/يونيو الماضي، على سبيل المثال، ذكرت الأمم المتحدة أنّ أكثر من 1000 شاحنة مساعدات كانت تدخل عبر باب الهوى كل شهر. وفي المقابل، تمكنت قافلتان فقط من الوصول إلى إدلب عبر خطوط التماس في العام الماضي.
والمشكلة الأعمق هي أن السماح لدمشق بالإشراف على إيصال المساعدات إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من شأنه أن يمنح النظام نفوذاً قسرياً أكبر عليها. واليوم أصبحت هذه المناطق موطناً لأكثر من 3 ملايين مدني، من بينهم ما لا يقل عن 1.5 مليون شخص نزحوا من أماكن أخرى في البلاد.
المساعدات منخفضة للغاية على أية حال
تخاطر الخلافات طويلة الأمد في مجلس الأمن حول الآلية العابرة للحدود بالتعتيم على حقيقة أن سوريا لا تتلقى ببساطة مساعدات إنسانية كافية لتجنب الكارثة، بغض النظر عن كيفية وصول المساعدات. ووفقاً لـ “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”، لم تُلبّي أموال المانحين الدولية سوى 46 في المائة من احتياجات الدولة المقدّرة في عام 2021، وهي أقل نسبة منذ عام 2015.
في الواقع، على الرغم من أن جبهة النزاع ثابتة نسبياً، فإن الوضع الإنساني هو الأسوأ على الإطلاق: فـ “برنامج الغذاء العالمي” يقدِّر حالياً أن 1.3 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد، مما يعني أنهم يتخطّون وجبات الطعام ويعانون من الجوع بسبب عدم قدرتهم على الحصول على الغذاء بأسعار معقولة. فقد انخفض إنتاج القمح إلى ربع مستويات ما قبل الحرب فقط، وبدأت المنظمات في دق ناقوس الخطر بشأن مجاعة محتملة. وفي غضون ذلك، نزح أكثر من نصف السكان، ويعيش الملايين في خيام مؤقتة، مع إمكانية وصول محدودة إلى الغذاء والمياه والتدفئة للصمود في فصل الشتاء.
الاستعداد لتجديد [الآلية العابرة للحدود] في تموز/يوليو
بالنظر إلى هذه المشاكل الوخيمة، فمن شبه المؤكد أن إقناع روسيا بتجديد الآلية العابرة للحدود لمدة عام آخر سيكون ضرورياً حالما تنتهي المدة الحالية في تموز/يوليو. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هي تكلفة هذا الصراع الدبلوماسي على الشعب السوري، وعلى آفاق التوصل إلى تسوية بموجب “قرار مجلس الأمن رقم 2254″، التي هي الصيغة الوحيدة المتفق عليها دولياً لإنهاء الحرب؟
إن التحكم في السرد هو أحد الأدوات الرئيسية التي تستخدمها روسيا. ففي العام الماضي، ركزت موسكو على تقديم نفسها كمزوّد رئيسي للمساعدات الإنسانية لسوريا، مع زيادة تركيز وسائل الإعلام الروسية على هذه القضية مع اقتراب شهر كانون الأول/ديسمبر. وقد ظهرت روايات عديدة عن آلاف الأطنان من المساعدات التي أرسلتها روسيا، إلى جانب العديد من الزيارات الرسمية التي أجرتها للمساعدة في استعادة الحياة السلمية في سوريا. وفي أعقاب تسليم المساعدات إلى مستشفى في درعا قال ممثل روسي في تشرين الثاني/نوفمبر: “إن رد فعل السكان المحليين مذهل بكل بساطة. يمكنكم أن تروا مدى لطفهم وحرارتهم في معاملة الجنود الروس والمساعدة التي نقدمها. يمكنكم أن تروا الامتنان في عيونهم”.
وبحلول كانون الأول/ديسمبر، تغيّر سرد كبار المسؤولين الروس، نحو التعبير علناً وبشكل متكرر عن قلقهم بشأن الآلية العابرة للحدود. وفي التقرير الداخلي للأمم المتحدة الصادر في 15 كانون الأول/ديسمبر، صرّح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنه “يتم إيصال المساعدة، ويتم تقديم الخدمات بطريقة مبدئية وشفافة في جميع أنحاء البلاد” على الرغم من التحديات المختلفة. ولكن في السرد الذي قدمته موسكو، كانت الآلية التي مكّنت عمليات التسليم هذه مجرد طريقة الغرب للرضوخ “للإرهابيين” في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون وتجاهل المعاناة الإنسانية المترتبة عن ذلك. وأوجز النائب الأول لممثل روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، هذا السرد بشكل جيد، بقوله: “مخاوفنا تتعلق بما يحدث مباشرة في إدلب، التي طغى عليها الإرهابيون الذين أخضعوا جميع مجالات حياة الناس، بما في ذلك حريتهم في التنقل. فأي نوع من التوزيع المحايد والمستقل للمساعدات في مثل هذه الظروف يمكن أن نتحدث عنه؟”. وذهب المبعوث الروسي الخاص لسوريا، ألكسندر لافرنتييف، إلى أبعد من ذلك، حيث أكّد أن المساعدات يجب أن تأتي عن طريق دمشق، وحذّر من أنه إذا لم ترَ موسكو أي تقدم، فإنها “ستغلق أخيراً الآلية [العابرة للحدود]”.
بعبارة أخرى، أظهرت موسكو أنها تمارس سياسة ضبط النفس، وأنها لم تتصرّف إلّا عندما لم يكن لديها خيار آخر، وامتثلت للالتزامات القانونية الدولية، بينما يواصل الغرب التعاون مع الإرهابيين، ويتجاهل معاناة المدنيين، ويستهزئ بالتزاماته الدولية. ووفقاً لهذا السرد، موسكو هي المفاوض، والغرب هو الطرف الذي يتصرّف بصورة غير معقولة.
وعليه، لا تشعر روسيا بالضرورة بأنها مضطرة لاستخدام حق النقض ضد كل جولة من مفاوضات التجديد طالما أنها تستطيع الحصول على المزيد من التنازلات من واشنطن، وتعطي القليل في المقابل، وتستمر في تصوير نفسها على أنها الطرف الرحيم. ومع ذلك، على واشنطن أن تتذكر أن نظام الأسد لا يزال ينظر إلى المساعدات عبر الحدود على أنها إهانة لسيادته وسيضغط على موسكو لاستخدام حق النقض ضد كل جولة بغض النظر عن آراء الكرملين.
الخاتمة
مع احتدام المفاوضات حول المساعدات العابرة للحدود قبل انتخابات تموز/يوليو، قد تواصل روسيا استراتيجيتها السابقة لتصعيد الوضع العسكري كورقة ضغط. لذلك يجب على الولايات المتحدة وشركائها اتخاذ الخطوات اللازمة الآن لردع مثل هذا التصعيد والحفاظ على سلامة المدنيين في الشمال إذا ما زادت عمليات القصف التي يقوم بها النظام السوري وروسيا.
أولاً، يجب على المسؤولين الأمريكيين النظر في صياغة قرار مشترك مع أصحاب المصلحة الآخرين في مجلس الأمن، يحدد بوضوح مشكلة التصعيد الروسي أثناء التصويت للمساعدة عبر الحدود. وعلى وجه الخصوص، لدى موسكو تاريخ حافل في قصف مرافق الرعاية الصحية المدرجة في قائمة عدم التضارب/[فض النزاع] التابعة للأمم المتحدة، لذا فإن تسليط الضوء على مثل هذه المرافق سيكون مفيداً. وتعتمد روسيا على حقيقة أن الصراع السوري لم يعد يحظى بأهمية كبيرة وسط تحديات عالمية أخرى. لذلك يجب على أعضاء مجلس الأمن أن يوضحوا أن أي تصعيد جديد سيقابَل برقابة واحتجاج دوليين.
ثانياً، يجب على واشنطن تذكير موسكو بأنها تتمتع بنفوذ اقتصادي حقيقي في سوريا ومستعدة لممارسته رداً على التصعيد الروسي. على سبيل المثال، يمكن لوزارة الخزانة الأمريكية التحقيق في مزاعم الفساد المنتشرة على نطاق واسع فيما يتعلق بتوزيع نظام الأسد للمساعدات ومعاقبة المسؤولين المعنيين. ويمكن لإدارة بايدن أن تعمل أيضاً مع الكونغرس لصياغة تشريع إضافي متعلق بـ “قانون قيصر”، لتوضيح وتشديد اللهجة فيما يتعلق بما يُعتبر نشاطاً خاضعاً للعقوبات. ولطالما كانت روسيا مهتمة بالآفاق الاقتصادية لإعادة الإعمار في المستقبل، وقد تفكّر مرتين إذا رأت أنّ تجدد القصف سيعيق تلك الآفاق.
أما بالنسبة لمواجهة السرد الروسي، فيمكن للمسؤولين الأمريكيين الإعلان عن الفظائع المستمرة لنظام الأسد بمزيد من التفصيل، بما في ذلك استخدامه للمساعدات الإنسانية كأداة للإكراه. على سبيل المثال، أجبرت دمشق بعض المجتمعات السورية على التعهد بالولاء للنظام مقابل الغذاء. وفي حالات أخرى، حاصرت بلدات واستخدمت التجويع لإجبارها على الاستسلام. ويمكن أن تساعد الأمثلة الملموسة أيضاً في إظهار أن الولايات المتحدة لا تزال تضع الاحتياجات الإنسانية فوق السياسة، حتى في الوقت الذي تنظر فيه روسيا إلى القضية برمتها من منظور تأمين نظام الأسد. وأخيراً وليس آخراً، على واشنطن القيام بعمل أفضل في التوضيح بأن تصرفات نظام الأسد، وليس العقوبات الخارجية، هي التي تضرّ بالشعب السوري.
لكنّ السرد ليس سوى جزء من القصة. فواشنطن تحتاج أيضاً إلى الالتزام بعزل نظام الأسد اقتصادياً وسياسياً إلى حين حدوث تغيّر في سلوكه في قضايا مختفلة بدءاً من الفظائع ووصولاً إلى انتهاكات الأسلحة الكيميائية وأنشطة المخدرات. ولم تسفر بعد الجهود الأمريكية الأخيرة لتخفيف العقوبات من أجل السماح بعمليات نقل الطاقة عبر سوريا عن أي تنازلات ملحوظة من جانب دمشق. لذلك، على واشنطن أن تفكر في استهداف عناصر معينة من النظام المتورطة في الفظائع والسلوك غير المشروع، حتى مع تخفيف العقوبات المفروضة على القيادة الوطنية للحث على إيجاد مَخرج من الحرب.
كالفين وايلدر هو باحث مساعد في “برنامج غيدولد للسياسة العربية” في معهد واشنطن. أندرو تابلر هو “زميل مارتن ج. غروس” في “برنامج غيدولد للسياسة العربية” والمدير السابق لشؤون سوريا في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي. آنا بورشيفسكايا هي زميلة أقدم في المعهد ومؤلفة الكتاب “حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أمريكا”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى