منذ أن تمكن قورش الكبير من فتح بابل التي كانت بحق مركز الحضارة الانسانية وأعظم مدينة معروفة لفترة طويلة عام 539 قبل الميلاد، وضم كل الأراضي الواقعة الى الغرب حتى البحر المتوسط والواقعة للشرق حتى الهند وشمالاً حتى تركيا حاليًا، وأنشأ امبراطورية من أعظم الأمبراطوريات في التاريخ القديم استمرت حتى قضى عليها الفتح الاسلامي عام 661 للميلاد لم تغب عن ذاكرة الفرس تلك الفترة الذهبية من تاريخهم، ولم يجدوا تعويضًا عنها في الدور البارز الذي لعبوه لاحقًا في الحضارة العربية – الإسلامية، سواء في ميدان السياسة بعد أن استعادوا نفوذهم من خلال الدولة العباسية التي قيل فيها ” دولة بني أمية عربية أعرابية ودولة بني العباس أعجمية فارسية ” أو في ميدان اللغة والشعر الذي زخر بعباقرتهم مثل سيبويه اللغوي وبشار بن برد الشاعر، وابن المقفع الأديب، وكذلك في علوم الدين، حيث لدينا اثنان من أكبر أئمة الحديث هما من أصول فارسية وأعني بهما البخاري ومسلم، وفي الطب هناك ابن سينا ووالده فارسي من بلخ ويعتبر قمة من قمم الطب والفلسفة التي أنجبتها الحضارة العربية – الإسلامية ويلقب بالشيخ الرئيس، وكذلك الرازي الذي وصفته المستشرقة زيغريد هونكه في كتابها ” شمس العرب تسطع على الغرب ” بصفته” أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق” وهو فارسي الأصل ولد في مدينة الري قرب طهران الحالية، كل تلك المساهمات وغيرها الكثير لم تشفع لدى الفرس في نسيان مجدهم الغابر والتحسر عليه . ولعل أول من لاحظ ذلك كان الجاحظ ذلك المفكر الموسوعي العربي الذي جاء في عصر بدأت المشاعر القومية الفارسية فيه تطفو على السطح، وتظهر في الحط من شأن العرب , واعلاء شأن الفرس مما سمي بالنزعة الشعوبية , كما ظهرت في الاشارات الخفية للحنين للزرادشتية والتستر بالاسلام , لكن الانصاف يقتضي القول بأن ذلك لاينبغي أن يطمس مساهمات الفرس العظيمة في الحضارة العربية الاسلامية , أو يطعن في اخلاص أعلامها الذين أصبحت مؤلفاتهم وأعمالهم ملكا للتاريخ وللأجيال المتعاقبة . وبالمحصلة يمكن القول ان الذاكرة الجمعية الفارسية تحوي عنصرين متناقضين في آن واحد فهناك النزعة القومية عميقة الجذور التي ترتد لمجد الامبراطورية الفارسية التي نافست الامبراطورية البيزنطية وتختزن الحسرة عليه والنزعة لاستعادته واعتبار العرب مسؤولين عن زواله , وترى في ايران مشروع دولة عظمى عالمية الحضور والهيمنة , وهناك الشعور بالانتماء المشترك للحضارة العربية -الاسلامية التي ساهم الفرس فيها بصورة رئيسية لايمكن نسيانها أو تجاهلها عبر مئات السنين .فالفرس في النهاية ليسوا جزءا من الغرب , ولا يمكن أن يذوبوا في الثقافة الغربية بسبب عمقهم الحضاري , وقد ظهر ذلك في احتفاظهم بالأحرف العربية الكتابية حتى مع وجود نظام الشاه الذي كان توجهه واضحا نحو اللحاق بالغرب . خلافا لما حدث في تركيا على يد كمال أتاتورك , حيث كانت اللغة التركية تكتب بحروف عربية كما الفارسية . لكن ماحدث بعد ماسمي بالثورة الاسلامية في ايران أن توجها سياسيا عقائديا ذو خلفية قومية بدأ يتبلور في طهران واضعا نصب عينيه بناء امبراطورية فارسية جديدة بأدوات مذهبية , وبالطبع كانت عينه على المشرق العربي أولا خاصة على العراق وبلاد الشام . أخطر مافي هذا التوجه أنه كان يرى في المذهبية وتدمير الدول القائمة أدوات للتوسع والضم ومد الهيمنة . ورغم المواجهة مع الغرب التي لاينبغي أن نقلل من شأنها , لكن الغرب وجد أن بالامكان استغلال ذلك التوجه لتحقيق أهداف بعيدة المدى لصالحه في المنطقة , وبالتالي نشأ بين ايران والغرب تقاطع في المصالح أثمر في البداية عن تدمير الدولة العراقية الحديثة بصورة لايمكن أن تخطر بالبال , وبسبب نجاح مثل ذلك التفاهم الذي فاق التوقعات , توجه النظر الى سورية , لتطبيق الدرس العراقي ذاته وتحويل الثورة السورية الى نزاع طائفي دام لايمكن أن ينتهي سوى بتدمير الدولة السورية على الطريقة العراقية . وقبل أن يقطف التفاهم الايراني – الغربي ثمرته في سورية كانت الأنظار قد توجهت لدول أخرى في مقدمتها اليمن . هكذا أصبح حلم استعادة المجد الامبراطوري الفارسي أداة هدم وتفتيت لدول المنطقة في تحالف غير معلن مع أهداف بعيدة المدى للغرب الذي وجد أخيرا من يقوم بالعمل نيابة عنه وبدون طلب للأجر . لكن الرياح اليوم لم تعد تجري كما يريد الربان في طهران , ففي العراق تتصاعد النقمة ضد التدخل الايراني والنفوذ العسكري الايراني في سورية يواجه صعوبات ومخاطر أدت لتراجعه , وحصان ايران في اليمن مازال ينزف , وفي لبنان يبدو حزب الله في عزلة شعبية بينما ينهار الاقتصاد اللبناني . واليوم تستيقظ لدى الشعوب الايرانية الرغبة في الانتهاء من ذلك الحلم البائس الذي تحول الى كابوس يهدر طاقات الاقتصاد الايراني ويضعهم في مواجهة شعوب المنطقة ودولها دون مبرر . تدمير دول المنطقة لايمكن أن يكون مقدمة لابتلاعها بل هو فتح لمعارك لانهاية لها يكتوي بنارها الايرانيون كما الشعوب الأخرى . وشيئا فشيئا يظهر ذلك الحلم الامبراطوري , باعتباره محاولة غبية لاستعادة تاريخ سحيق لاتسمح باستعادته حقائق العصر , محاولة غبية واساءة كبيرة لدور ايران الحقيقي المستقبلي كدولة رئيسية في المنطقة يجمعها مع وسطها العربي والاسلامي الكثير من عوامل التاريخ والثقافة والمصالح الاقتصادية فضلا عن الجوار. لكن المأساة هي في نظام حكم استبدادي مذهبي متحجر في طهران يعتقد في أن بقاء سلطته مرتبط بذلك الحلم الذي يدغدغ به ذاكرة الفرس كما يفعل الهيروين في عقول الشباب ووعيهم . سقط الحلم مع ارتداد موجاته , كما سقط في انكشاف الطائفية كأداة رئيسية له بعد أن كان يتغطى بشعارات القضية الفلسطينية والوحدة الاسلامية. سقط الحلم لأنه يتنافى مع مصالح وارادة ومصير شعوب المنطقة , باعتباره أداة هدم لا أداة بناء , أداة هيمنة دولة على بقية الدول , أداة بعث لمشاعر طائفية لايحتملها العصر ولا العقل . وما تبقى هو إسدال الستار على فرسانه وكهنته .