قبل البدء بالحديث عن تجدد المظاهرات بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 ووضع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك تحت الإقامة الجبرية، وعودته ثم استقالته بعد يأس، لابد من الإشارة إلى أن السودان المعاصر لم يشهد، منذ استقلاله وإلى الآن، غير حكم العسكر الذي دام منذ 1958 وإلى اليوم ولم يحكم المدنيون إلا سنوات قليلة، لم تسمح لهم بتهيئة مستلزمات الحكم المدني بأحزابه وصحفه ومنتدياته على نحو سوي، ورغم ذلك فصراع العسكر والمدنيين لم يتوقف، ولعلَّ المدنيين، ورغم مراوغة العسكر واعتمادهم في حكمهم هذا الحزب أو ذاك، هذه الطائفة الدينية أو تلك استطاعوا انتزاع نوعاً من حياة سياسية، وإن لسنوات قليلة، لكنَّ معاناة حكم العسكر باقية، سجوناً ومعتقلات وإعدامات أحياناً وأحكاماً جائرة أغلب الأحيان.. كل تلك التراكمات تتفجر اليوم في السودان، لتستنهض قوة الشعب السوداني أملاً في خلاص كلي من القمع والفقر والعطالة والتخلف وتمزيق وحدة البلاد..
وفي عودة إلى ما يجري الآن نرى ممارسة العسكر لم تتبدل.. ففي وقت اقترب معه تسليم قيادة مجلس السيادة للمدنيين بحسب الاتفاق الموقع بينهم وبين قوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة السودانية في كانون الأول من العام 2019 قام البرهان/أحمد دقلو بانقلابهما في 25 أكتوبر من هذا العام على ذلك الاتفاق فاعتقلوا المئات، ووضعوا رئيس مجلس الوزراء تحت الإقامة الجبرية، وهو الذي لا يعدُّ ممثلاً لتيارات الثورة المدنية فحسب، بل لأنه حقق خلال السنتين الماضيتين حلولاً لمشكلات سودانية عالقة، منها شطب نسبة كبيرة من ديون السودان، وشطب اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب؟! كما حصل على تسهيلات للبدء بالتنمية مدخلاً رئيساً لحلّ كل ما عاناه السودان من مشكلات اقتصادية، ومعيشية، واجتماعية أخرى، ولم يكن لانقلاب 25 أكتوبر أي مبرر، غير أن العسكر لا يريدون تسليم السلطة للمدنيين بحسب اتفاقهما، ولذلك وجد استنكاراً عربياً ودولياً، بغض النظر عمن سانده عربياً، وهكذا مورست ضغوط من قوى خارجية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي طالبت بالعودة إلى المسار الديمقراطي.. وقد استجاب حمدوك لتلك الضغوط، لكنه أخطأ إذ لم يجر مشاورات كافية مع قوى الثورة المختلفة، ولم تكن عودته تماماً إلى ما قبل 25 أكتوبر، تاريخ الانقلاب.. كما لم تكن عودته دون مكاسب للعسكريين الذين لم يغادروا سلطتهم في مجلس السيادة، إضافة إلى إساءتهم للقوى المدنية.. ولم ترض تلك العودة أطرافاً وازنة في قيادات الثورة السودانية، فقد جرى إعادة تمكين للعسكر، وتبرير لانقلابهم، إضافة إلى تقسيم صفوف الثورة الشعبية على نحو أكثر مما كانت عليه من تباين في الرأي، قبل الانقلاب المذكور، وكان العسكر قد اتخذوا من ذلك التباين غطاء لانقلابهم، وعلى ذلك فقد جاءت عودة حمدوك، ضعيفة، غير مقنعة، إذ لم تحمل طموح الشارع السوداني. وكان في إقامته الجبرية أكثر قوة، فهو باستناده إلى الشارع غدا رمزاً وطنياً، إذ حمل الثوار صورته، بينما هو في الإقامة الجبرية، لكنَّهم سرعان ما أنزلوها لدى عودته، وازدادت المظاهرات لدى عودته زخماً وحماسة، وازدادت عزلة العسكر في أوساط الشعب، وبخاصة بعد لقاءاتهم مع قادة إسرائيليين وجاء انقلابهم مؤكداً لخيانتهم لعهودهم الموثقة.. إضافة إلى أنهم استعادوا سيرة العنف في مواجهة المتظاهرين، وعطلوا مسيرة السودان الديمقراطية، والتنموية التي غدت على عتبة البدء..
كانت ثورة السودان قد تميزت عن سواها من ثورات الربيع العربي في التنظيم والسلمية، وعكست وحدة صفوف الشعب، وتناغم فئاته وشرائحه، ما منحها قوة، وأكسبها وعياً جديداً، ونمواً متطوراً، وأعطى تنظيم المجتمع السوداني في نقابات، وجمعيات شعبية (تنسيقيات) ونواد مختلفة قامت على أساس المهنة، ونوع العمل، زخماً وتميزاً. وكان للمرأة السودانية دور بارز بإعطائها الثورة لوناً حضارياً، رغم مجابهتها بشراسة ووحشية إذ لم يكتف العسكر برمي عموم المتظاهرين بالرصاص، وسقوط شهيدات بين الشهداء، بل تكررت مأساة الاغتصاب التي حدثت خلال مجزرة “فض الاعتصام”، وتجاهل العسكر لوعودهم بالتحقيق، ومحاسبة المرتكبين! والغاية النيل من المتظاهرين وإذلالهم.. ورغم ذلك، لم يتصوَّر العسكر أن القوى المدنية الثورية قادرة على العودة إلى الشارع، أو لعلهم صمموا على إغراق السودان بالدم من جديد.. وربما من هنا عودة حمدوك مبرراً ذلك بحقن الدماء، لكنه، وبكل أسف لم يستطع فعل أي شيء إيجابي، وعلى ذلك جاءت استقالته بعد فشله بتشكيل الوزارة.. وجاء اشتداد زخم المظاهرات، واكتساب الثورة السودانية أبعاداً جديدة أكثر اتساعاً وشمولاً واستمرار سلميتها وتجدد حيوية نشاطها.. بينما ظلَّ العسكر على مراوغتهم واستخدامهم أنواع القوة والإيذاء..
إن ما يجري في السودان ليس معزولاً عما يحصل في محيطه العربي. فلا يمكن لأية ثورة ديمقراطية، في أي بلد عربي تقود إلى دولة يمكن أن تكون نموذجاً للحداثة، والنهوض بالتنمية الوطنية أن تنجح ببساطة دون أن تواجهها ثورات مضادة تغذيها مصالح سياسية واقتصادية! وربما من هنا شكلت ثورة السودان في سعيها التنموي وتجاوز التخلف تحت سقف الديمقراطية السياسية هاجساً لبعضهم.. ليظل السودان مجالاً لاستثمارات مجحفة، وليبقى جيشه عرضة للبيع مرتزقة لصالح هذه الدولة أو تلك..
أخيراً يمكن القول إن المراهنة لاتزال معقودة على قوى الشعب السوداني ووحدة كلمتها، فهي التي أشعلت ثورته المميزة، وهي القادرة على حمايتها وتطويرها. وخصوصاً أنَّ المجاعة تعصف بالسودان، وهو المرشح ليكون سلة المنطقة الغذائية. إنه امتحان معقد لا ينتظر نتائجه السودانيون وحدهم، بل إن الكثير من قوى الحرية والديمقراطية في دول المنطقة تتطلع إلى انتصار الشعب السوداني، وإلى التخلص من حكم العسكر كلياً، وإلى بناء دولة تكون ديمقراطية بحق، ونموذجاً يحتذى في المنطقة.. والأمل أن تصب استقالة حمدوك في هذا الاتجاه..