عمّقت استقالة رئيس الوزراء السوداني السابق، عبد الله حمدوك، يوم الأحد الماضي، الأزمة السياسية في البلاد، التي أعقبت انقلاب الجيش على الحكومة الانتقالية في الخامس والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر الماضي.
وفي خطاب استقالة مطول ومؤثر، وجهه للسودانيين وبثه التلفزيون الرسمي، بدا حمدوك، كما لو أنه يرسم خريطة طريق جديدة، لا خطاب تنحي.
نوه حمدوك في حديثه، إلى الظروف التي تولى فيها منصبه باعتباره «لبى نداء شعبه» وأشار إلى كيف أنه حاول مواجهة الأزمات المتلاحقة والمتفاقمة في الأشهر الأخيرة من العام الماضي.
كما تحدث رئيس الوزراء المستقيل عن العلاقة بين الشعب والقوات المسلحة، محذراً من أنها إذا لم يُعد تعريفها بشكل فاعل، فإن البلاد سوف تمضي نحو انزلاق لا يحمد عقباه.
وفي الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أفاق السودانيون بلا قدرة على التواصل، بعدما قطعت السلطات العسكرية، خدمتي الاتصالات والإنترنت، وبدأت تبث أغنيات وطنية على التلفزيون الرسمي، مع تنويه ببث خطاب هام لقائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، «وذلك بعد قليل» وهنا تأكد الشك باليقين، أن الانقلاب بات أمراً واقعا.
لكن، كيف تشكلت الحكومة الانتقالية، وما الأطراف المؤثرة فيها، وتحالفات أطرافها الإقليمية والدولية، وقبلاً تفاعلات مصالح أطرافها مع الداخل، تفسر هذه العوامل إلى حد كبير المآلات المستقبلية للأزمة السودانية، وما إذا كان العسكريون يربحون بعد استقالة حمدوك أم لا؟
يقول المحلل السياسي، الحاج حمد محمد خير لـ«القدس العربي» إن القراءة للوضع الحالي في السودان، تتطلب قراءة لخريطة التحالفات الدولية والتناقضات الثانوية بينها.
ومع إذاعة البرهان لبيان الانقلاب العسكري، نهار الخامس والعشرين، بدا كما لو أن الجيش وحلفاءه من الحركات المسلحة والفاعلين الإقليميين والدوليين، قد ربحوا الجولة مرةً واحدة وللأبد، وأن أولئك الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع رافضين لانقلابه، لن تمر سوى ساعات ويعودوا مسلمين بالأمر الواقع الجديد، معتمدين في ذلك على الظروف الاقتصادية الطاحنة، والتي حملها قادة الانقلاب للائتلاف الحاكم ـ سابقاً الحرية والتغيير وحكومته.
ويبدو أن الهندسة المعقدة والبسيطة في الوقت نفسه لانقلاب 25 أكتوبر، قامت على إنشاء سلطة جديدة، قام خطابها السياسي، على فشل الحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية، وتردي الأوضاع الاقتصادية وانفلات الأمن، وتفاقم الصراع السياسي، من دون أن تقدم من جهتها، أي خطاب سياسي مؤثر، أو رؤية للحاضر والمستقبل.
مهندسو الانقلاب
من جانب آخر، عمد مهندسو الانقلاب الداخليون والخارجيون، على إبعاد الائتلاف الحاكم ـ سابقاً، ورئيس الوزراء، عبد الله حمدوك بالتحديد، وإحلال تحالف جديد محله مكون من حركات مسلحة وجماعات حزبية وشخصيات سياسية، إما كانت موالية لنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، أو موالية لقادة الجيش والدعم السريع، بغرض عدم نقل رئاسة السيادي للمدنيين، وقطع طريق التحول الديمقراطي من ناحية أخرى، بما يضمن الإفلات من العقاب والمحاسبة، وتعميق قبضتهم على موارد البلاد.
يشير المحلل السياسي، الحاج حمد محمد خير، إلى أن مما يؤسف له، أن «غياب حمدوك أو وجوده في المسرح منذ الانقلاب، سواء».
وأشار إلى أنه فشل، أي حمدوك، في أن يصل لأي درجة من التوافق مع العسكريين تسمح له بالمسير في اتجاهه، حيث كان يعتقد أنه بالإمكان إقناع العسكريين بالابتعاد قليلاً من السلطة، على أن يقنع من طرفه النظام العالمي، باستمرار دعمه للبلاد.
غير أن خير، أشار إلى أن العسكريين في الوقت نفسه لديهم تحالف مع إسرائيل، وقال إنه هذه ليست المرة الأولى التي تظهر فيها إسرائيل ضمن مكون داخل الجيش، ضمن الاستراتيجية الأمنية في التحالف بينها وبين الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب.
أما الجزء الثاني، داخل الانقلاب، حسب خير؛ هي الحركات المسلحة، التي قال إنها أصلا من صنيعة جهاز المخابرات الإسرائيلي «الموساد» حيث كانت تعمل ضد نظام الإنقاذ، والآن تم ضمان تبعيتها للانقلاب.
وأوضح أن القراءة للوضع الحالي في السودان، تتطلب قراء لخريطة التحالفات الدولية والتناقضات الثانوية بينها.
ورأى خير، إن حمدوك كان يمثل مصالح ما وصفها بـ«الكارتيلات» الاقتصادية الحميدة وكان هدفه، تعزيز الوضع الاقتصادي والاستقرار في «الهيبك» واتفاقيات البنك الدولي، من منظوره كاقتصادي، لتعزيز الواقع الاستثماري وتهيئته لدخول استثمارات غربية كبيرة.
وأكد أن هذا هو الهدف من إدخال حمدوك في اللعبة، وأن يصبح التغيير شكلياً، لافتاً إلى أن الانقلاب في السودان، هو انقلاب مدعوم من اللوبي الصهيوني، على اللوبي الآخر ـ الأطراف والحكومات المتعددة الداعمة لبرنامج حمدوك.
تناقص الدعم الإقليمي
بعد دخول الانقلاب شهره الثالث، واستقالة حمدوك، تغير الكثير في البلاد، مع ثابت وحيد، هو الرفض الشعبي والسياسي له، وتناقص الدعم الإقليمي لقادته، مع حصار غربي محكم.
وقع الانقلاب بعد ساعات فقط، من اجتماعات بين قادة الحكومة الانتقالية، بمن فيهم قادة المكون العسكري، مع المبعوث الأمريكي الخاص السابق للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، الأمر الذي أدخل واشنطن في حرج بالغ، مرة بسبب شكوك حامت حول علمها بانقلاب الجيش، ومرة أخرى كان محرجاً في حالة عدم علمها، لتسارع الخارجية الأمريكية وتنفي علمها المسبق بنية الجيش الاستيلاء على السلطة.
ومن ثم بدأت التحركات الأمريكية، من خلال مجلسي الشيوخ والنواب من جهة، والخارجية من جهة أخرى، حيث بدأت بإصدار بيان رباعي، جمع إلى جانب واشنطن، كل من أبو ظبي والرياض ولندن، دعا إلى إعادة الوضع الدستوري في البلاد إلى ما كان عليه، قبل الانقلاب، أعقبتها زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أفريقيا مولي فيي للخرطوم بين يومي 14-16 تشرين الثاني/نوفمبر، تلى زيارتها توقيع اتفاق 21 تشرين الثاني/نوفمبر بين حمدوك والبرهان، ما بدا كنهاية منطقية لجهود الإدارة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، في تحجيم الانقلاب، وضمان استمرار مشاركة أهم شخصيات الانتقال المدني في البلاد على رأس الحكومة.
لكن مفاقمة الانقلاب للصراع السياسي في البلاد، بجانب تضارب وتقاطع المصالح، داخلياً وإقليمياً ودولياً، سرعان ما أجبرت حمدوك على المغادرة، لكن لا يبدو من خلال خطاب استقالته المطول، أنه بات خارج المشهد السياسي، كليةً.
في الوقت الذي ما تزال أصوات تطالب بعودته رئيساً للوزراء، وحديث آخر يشير إلى احتمال تقلده منصب رئيس مجلس السيادة، ويقرأ هذا الحديث مع مبادرة سعودية، قيل إن جوهرها إيجاد مخرج آمن لقائدي الانقلاب البرهان وحميدتي.
ويوم الخميس، أعلن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلنيكن، تنحي مبعوث واشنطن الخاص للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان، وخلافته من قبل الدبلوماسي المخضرم ديفيد ستارفيلد.
وبالتزامن مع ذلك، أجرت مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية موليي فيي، نقاشاً مع وزيرة الخارجية السودانية السابقة، مريم الصادق المهدي، حول مستجدات الأوضاع السياسية في السودان.
وقالت المهدي في بيان، إنها أطلعت المسؤولة الأمريكية، على خريطة الطريق التي قدمها حزبها وإقامة مائدة مستديرة لكل الفرقاء السودانيين، في وجود المجتمع الإقليمي والدولي كضامن.
ونقلت المهدي، عن فيي قلقها، من بطء إجراءات احتواء الأزمة الحالية، وأن الاهتمام بالسودان واستقراره، نابع من دوره المحوري في منطقة القرن الأفريقي.
ومضى وزير الخارجية في نفس اتجاه مرؤسته، عندما قال في تغريدة، إنه «للتغلب على الأزمة الحالية في السودان، نحث نحن وشركاؤنا بشدة أصحاب المصلحة على الالتزام بحوار فوري بقيادة السودانيين وتسيير دولي».
من جهتها، حاصرت دول الترويكا والاتحاد الأوروبي، قادة الانقلاب العسكري من ناحية أخرى، بعدما أكدت في بيان، دعمها المستمر للتطلعات الديمقراطية للشعب السوداني.
وشدد البيان، على أن العمل الأحادي الجانب، لتعيين رئيس وزراء وحكومة جديدة من شأنه أن يقوض مصداقية تلك المؤسسات ويخاطر بإدخال البلاد في صراع، ولتجنب ذلك، حث البيان أطراف العملية السياسية، الالتزام بحوار فوري بقيادة السودانيين وميسَّر دوليًا لمعالجة هذه القضايا وغيرها من القضايا الانتقالية.
ودعا البيان، إلى إجراء حوار شامل تمثل فيه الفئات المهمشة تاريخياً،على أن يشمل الشباب والنساء للمساعدة في إعادة البلاد إلى طريق الديمقراطية.
وأكد البيان، أن الاتحاد الأوروبي ودول الترويكا، لن يدعموا رئيس وزراء أو حكومة معينة من دون مشاركة مجموعة واسعة من أطراف العملية السياسية.
هل يربح العسكر باستقالة حمدوك؟ وقائع ما بعد الانقلاب، بما فيها حراك الشارع قد تضعهم في خانة الخاسرين، على الأقل هؤلاء الموجودون في مجلس السيادة الانقلابي.
فبعيداً عن وجود حمدوك في المشهد من عدمه، ومحاولة تيار من حزب المؤتمر الوطني المحلول وأجهزته الأمنية، تجيير الانقلاب لمصلحتهم، واستعادة نظامهم بالكامل، بعد 3 سنوات من إطاحته، يواجه البرهان شارعاً شرساً، حسم أمر ذهابه، وضيقاً داخل المؤسسة العسكرية، بعد 3 أشهر من الفشل في إدارة الدولة، أو تشكيل حكومة على الأقل، وترديا اقتصاديا وسيولة أمنية، ويأسا حتى بين أولئك الذين يؤيدون الحكم العسكري.
المصدر: القدس العربي