متى استعبدتمُ الناسَ وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا

د. أحمد سامر العش

“من يستعبدْ رجولةَ غيرِه بقوى بشرية ضعيفة وحدَها،

يضعْ دون تفكيرٍ نِّيرًا أثقلَ من العبودية على كتفيه”

من قصيدة العبوديةِ لمارثا لافينيا هوفمان

خلال فترةِ تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، من حوالي 1526م إلى 1867م، تم شحنُ حوالي 12.5 مليون عبدًا من إفريقيا، ووصل 10.7 مليون منهم إلى الأمريكيتين! لكن ماذا لو كان في وقتنا الراهن مليار ونصف إنسان هم بالفعل عبيدٌ وهم لا يشعرون، أليس هذا ما يُثيرُ الدهشةَ أكثر؟! أو كان أغلبُ سكان الأرض عبيدًا لألفي شخص من “النخبة “من مختلف الجنسيات والأعراق أولئك الذين ذكرناهم في مقالة سابقة يركبون سفينة فضائية ليبحثوا عن كوكبٍ آخرَ صالحٍ للعيش تاركين وراءَهم كوكبًا مدمرًا وبشريةً فانية!؟

وفقًا للأدبيات ذات الصلة، كانت العبوديةُ مؤسسةً قانونيةً يكون فيها طرفان شخص واحد (العبد) مُلكًا لشخص آخر (السيد). تعود العبوديةُ إلى العصور القديمة، لكن المعاهداتِ الدوليةَ المعاصرة (اتفاقية العبودية لعام 1926) اعتبرتِ الرقَّ جريمةً ضد الإنسانية، ومع ذلك، لا يزالُ الرقُّ واستغلال البشر موجودين إلى يومنا هذا. وإلى جانبهم، بنينا نحن كبشر إرثًا متراكمًا من العبودية النفسية نراه في العديد من المنازل وأسواق العمل حيث تسود العلاقاتُ المسيئة للغاية والتي يندى لها الجبين.

لكن هل نحن حقيقةً نعيش عبيدًا في مجتمعاتنا؟ عندما نرى الكثيرَ من سكان البلاد العربية والإسلامية يعيشون عبيدَ الحاجاتِ الإنسانيةِ الأساسيةِ كالطعام واللباس والمأوى والأمن فيلجؤون إلى خيمة يسقط عليها من السماء أو من مصدر مجهول أو ربما شبه معلوم سلةً غذائيةً وبطانيةً بعيدًا عن قصف همجي ممن يحملون هوية تشبه تلك التي في جيوبهم، أو عندما  يهاجر أولئك  -في رحلة تشبه لعبة الروليت الروسية -لأجل تلك الاحتياجاتِ و يقطعون آلاف الكيلومترات ليعيشوا ويدفنوا في أرض تلفظُهم بكل الطرقِ والوسائلِ فهل هذا يعني أنهم أسعدُ حظاُ من أولئك العبيد ١٢.٥ مليون الذين عبروا المحيط الأطلنطي؟ هل هذا يعني أن مبدأ تراكمِ الثروة لدى البشر (الرأسمالية المتوحشة) يجب ألا نسمحَ به قبل تغطيةِ مسببات العبودية تلك على مبدأ ” ما آمن بي من بات شبعان وجارُه جائعُ إلى جنبه وهو يعلم به “!؟ وهل نحن كذلك نعيش عبوديةً نفسيةً مع جلادينا وأربابِ أعمالِنا وطبقةِ المستكبرين في الأرض؟ وهل نحن فقط عرضةٌ لذلك أم البشريةُ جمعاء تعاني من هذا؟ هل العبوديةُ تحتاج إلى طرفين حتى تكتملَ شروطُها؛ طرف مُحبٌّ للسيطرة (السيد) وطرفٌ قابل للاستعباد (العبد) أم يكفيها طرفٌ واحد؟

على مر التاريخ، تكيفتِ العبوديةُ بسلاسة مع التغيير والظروف، ولا تزال تفعل ذلك حتى يومنا هذا. والسؤالُ الملح؛ هل تتوفر لنا الوسائلُ لفهمٍ دقيقٍ للطرق التي يمكن من خلالها تحديدُ العبوديةِ اليوم وقياسُها والتنبؤُ بها، سواء من حيث التجربةُ الفرديةُ التي يعيشها الفردُ المُستعبدُ أو في شروط العوامل الاجتماعية والاقتصادية الأوسع التي تدعم العبوديةَ المعاصرة؟

تشرح العديدُ من الدراسات في مجال علمِ النفس وعلمِ الاجتماع العبودية النفسية بناءً على حادثة وقعت في عام 1973، حين دخل اثنان من اللصوص إلى بنك في ستوكهولم بالسويد بالبنادق والديناميت، وأخذوا أربعةَ رهائن – ثلاث نساء ورجل – واحتجزوهم كرهائن لمدة 131 ساعة. بعد إنقاذهم، أظهر الرهائنُ سلوكًا غريبًا. فقد شعر هؤلاء الأشخاصُ الذين تعرضوا للتهديد والإيذاء والترهيب بالامتنان تجاه خاطفيهم وحاولوا حمايتهم عند إجراءِ تحقيقات الخبراء. أصبحت إحدى المرأتين مرتبطة عاطفيًا بأحد المعتدين وبدأت أخرى حملة لجمع الأموال للدفاع القانوني عن المجرمين.

على الرغم من أن الأمرَ يبدو غريبًا، إلا أن مواقفَ مماثلةً تحدث في الحياة اليومية مع الأطفالِ الذين تعرضوا للإساءة، والنساءِ المُعنفات، وأسرى الحروب، والمهجرين والمشردين، والمعارضين والمعتقلين السياسيين، وضحايا الاغتصاب وسفاح القربى، وتحدث كذلك بشكل عام في العائلات والمؤسسات والأعمال التي يوجد فيها اعتداءٌ جسدي و / أو عاطفي أو إرهابٌ نفسي وفكري.

يكمن تفسيرُ العبودية غالبًا في غريزة البقاءِ لدينا كبشر والموصوفة هنا بمتلازمة ستوكهولم. عندما تعتمد حياةُ الضحايا على أفعال مهاجميهم، تتحولُ ردودُ الأفعالِ العاطفية لبعض الضحايا إلى امتنان بمجرد بقائهم على قيد الحياة، تمامًا كما قد أعرب العبيدُ أيضًا عبر التاريخ عن امتنانهم عندما حصلوا على حريتهم ممن يدَعون أنهم أسيادُهم. وبالمثل، في العديد من العائلات المعاصرة والنساء المُعنفات في العلاقات الأسرية ، وأسرى الحرب ، والمهجرين والنازحين , والمعتقلين السياسيين, والمغيبين قسريًّا , وضحايا سفاح القربى أو الفرد الأسير المكبل في واقعه المر … يشعر الضحايا باليأس، ويطورون مشاعر إيجابية تجاه المعتدي أو المتحكم ، ويبررون قبولَ مثلِ هذا السلوكِ ، ويتفاعلون بشكل سلبي مع المؤسسات أو العائلة أو الأصدقاء أو الأطراف الذين يحاولون إنقاذَهم ، ويواجهون صعوبةً في تحرير أنفسِهم من هذا الفخ العاطفي وهذا يفسر سخطَ البشرِ على من قام بالثورات لا على من سبب تلك الثوراتِ ويجدون صعوبةً في التعاطف مع شبيههم!

من أجل حدوثِ العبودية النفسية، وجدتِ الدراساتُ البحثية أربعَ حالات نموذجية:

  1. تصور وجود تهديد، جسدي أو نفسي، والاقتناع بأن سوءَ الحظ يمكن أن يحدثَ بالفعل ويؤدي إلى أذىً غير متوقع.
  2. تقدير وتثمين أفعال اللطف الصغيرة من قبل المعتدي تجاه الضحية.
  3. العزلة عن الآخرين.
  4. الاقتناع بأن المرءَ لا يستطيع الهروبَ من ذلك الموقفِ وحالة العبودية تلك.

تمامًا كما في حالة رهائنِ البنك في السويد، فإن العلاقاتِ الشخصيةَ والإنسانية حيث يوجد إساءةُ استخدامٍ للسلطة تُنشئ أيضًا نمطًا مشابهًا يصعُبُ الهروبُ منه، مما يؤدي إلى استعبادٍ نفسي وتُمَكِّنُ للظالم المُستعبِدِ من ضحيته!

قد تكون التهديداتُ مباشرةً أو غير مباشرة. قد يتم توجيهُ التهديدِ حتى تجاه أفراد الأسرة الآخرين. عندما يشعر الشخصُ بالتهديد، يكون ردُّ الفعلِ هو إيجاد الأمل في أي شيءٍ من شأنه أن يقويَّ إرادةَ البقاء على قيد الحياة. عندما يُقدِمُ المعتدي أو المتحكمُ أفعالًا لطيفةً صغيرة مثلَ كوبٍ من الماء أو دعم ببعض المواد الاستهلاكية، فقد يعتقد الضحيةُ أنه وراء الشر والأذى الظاهر، يكون للجاني مشاعرُ إيجابيةٌ ونوايا حسنة. نتيجة لذلك، تنشأ “علاقةٌ روحية” وامتنان تجاهه للبقاء على قيد الحياة.

يجوز للضحية تبريرُ وتبرير السلوك الإجرامي. علاوة على ذلك، قد يحاولون بصدق مساعدةَ المجرمِ عاطفيًا والشعورَ بألم الآخر بدلًا من ألمهم فيلتمسون للجلاد العذرَ وللمستبد والظالم المبررات لأفعاله!

عندما يعيش شخصٌ ما في عالم يسوده الإساءةُ والسيطرةُ كما عشنا جميعًا في بلدان العالم الثالث، يتعلم هذا الشخصُ سريعًا أن يكون حريصًا فيما يقوله أو يفعله خوفًا من إثارة الاضطرابات التي قد تؤدي إلى العنف وفقْدِ ما تم تسويقُه لنا كضحايا لفترات زمنية طويلة ” فقْد الأمن والأمان”. نتيجًة لذلك، تحاول الضحيةُ إرضاءَ المعتدي أو المتحكم من خلال القلق بشأن كلِّ ما يمكن أن يزعجَه وتحاول إشباعِ رغبات واحتياجات المعتدي أو المتحكم للحفاظ على السلام بأي ثمنٍ ، لكن لسوء الحظ، فإن هذا الموقفَ يساعد في إدامة الإساءة. يتعلم المعتدي أن يطالبَ بالمزيد لممارسة السيطرةِ والسلطة. في المقابل، يجب أن تظلَّ الضحيةُ معزولةً حتى يتمكن المعتدي من الاستمرار في التلاعب بالضحية بالنقد والاتهامات والترهيب. يوافق الضحيةُ على العزلة لتجنبِ الخلافِ والإحراج، وحتى الانفصال عن أفراد الأسرةِ أو المجتمع أو المؤسسة أو حتى باقي شعوبِ العالم. بعد أن تغمرَها الإساءةُ والاكتئاب بالفعل، تأتي الضحيةُ لتقبل الموقف وتعدَّه جزءًا من حياتها وقدرًا الهيًّا لا مفر منه.

قد يكون تحريرُ الذاتِ من هذا النوعِ من العلاقات الإنسانية أمرًا صعبًا للغاية، بل ومستحيلًا في أحيان كثيرة. غالبًا ما يشعر ضحايا العبودية بأنهم ملزمون ومجبرون ليس فقط عاطفيًّا، ولكن أيضًا بسبب الالتزامات المالية والمسائل القانونية ومستقبل أطفالهم و / أو التهديدات بالقتل أو الانتحار أو الاعتقال أو التعذيب النفسي والجسدي على أنفسهم ومن يحبون.

إن فهمَ تعقيد العبودية النفسية يحافظ على إمكانية مساعدةِ أولئك الذين يحتاجون للتحرر منها، والحفاظ على الاتصال، والمساهمة في احترام الذات، وفتح الباب عندما يحين الوقت للاعتزاز بحريتهم.

ربما لا يزالُ من الصعب تقديرُ مدى انتشارِ العبودية العالمية بمختلف أشكالها ، ولكن يمكن استخدامُ بعضِ المؤشرات لقياس مخاطرِ الاسترقاق في مؤسساتٍ ومجتمعاتٍ و / أو دول و / أو مناطقَ وفئات معينةٍ. إن فهمَ العوامل التي تدعم الرقَّ والاتجارَ بالبشر والعبودية النفسية داخل الحدود الوطنية وعبرها في الأسر والمؤسسات والمجتمعات، وطرقَ استخدام العبيد في إنتاج السلعِ المحلية والوطنية والعالمية وتقديم الخدمات، أمرٌ ضروريٌّ عند تنفيذِ الخطوة الأولى في تحديد المساءلةِ القانونية:بمعنى تحديدِ هويةِ ضحية العبودية، وكذلك فهم العمليات التي تم استعبادُهم من خلالها.

مع نهاية العبوديةِ القانونية عام 1926، لم تختفِ العبوديةُ نفسُها. حتى التحقيقُ السريع يخبرنا أن العبوديةَ كانت جزءًا ثابتًا من الحالة الإنسانية، على الرغم من عدم وجودِها في جميع الثقافاتِ والمجتمعات في جميع الأوقاتِ وعبر مختلفِ الأزمنة. على الرغم من الإشارة إليها أحيانًا باسم “مؤسسة ‘‘، إلا أنها ليست مؤسسةً اجتماعيةً بالمعنى الاجتماعي الدقيق لهذا المصطلح، والذي يُستخدمُ لوصف تلك الأنشطةِ المنظمة الرئيسة التي كانت وما تزالُ موجودةً، بشكل أو بآخرَ، في كثير من المجتمعات والثقافات البشرية، مثلَ التبادل الاقتصادي أو أشكال بناء الأسرة أو حتى أشكال العمالةِ في كثير من الدول مثل دولِ الخليجِ العربي أو حتى في أكثر البلاد تقدمًا. من المهم أن نلاحظَ أنه في حين أن العبوديةَ كانت شائعةً عبر التاريخ، وهي ظاهرةٌ في معظم البلدانِ اليوم، إلا أنها ليست سمةً عالميةً للمجتمعات البشرية. بعبارة أخرى، لا يمكن افتراضُ أن العبوديةَ سمةٌ فطريةٌ للبشر لكنها ربما قد تكون رغبةً وشهوة، وهي حقيقةٌ لها علاقةٌ بكيفية تعريفِها وكيفية فهمها. في الوقت نفسه، مثل معظمِ الأنشطةِ البشرية المتعلقة بحب السيطرة، تم التعبيرُ عنها في أشكال متنوعةٍ على نطاقٍ واسعٍ وأمثلة لا حصر لها!

في محاولةٍ لتحديدِ ما إذا كان النشاطُ المشتبهُ به هو في الواقع شكلاً من أشكال العبودية، من الضروري تحديدُ الطبيعةِ الأساسية للاستعباد. في الوقت نفسه، من المهم أن نتذكرَ أن العبوديةَ هي تبنى على السلوكيات البشرية فهي نابعةٌ من البشر وموجهةٌ ضد البشر، ويمكن أن تكون متنوعةً في مظاهرها بقدر ما يسمح به الخيالُ البشري، فكلُّ يومٍ نسمع ونكتشفُ قصصًا وأشكالاً للعبودية تحتارُ بها الشياطين. يمكن أن تكونَ الأنشطةُ البشرية ديناميكيةً للغاية ولا تحدثَ أبدًا بمعزل عن غيرها، وتميلَ إلى عكس الموضوعاتِ الثقافية للمجتمعات التي تظهر فيها. لهذا السببِ، يجب أن يركزَ أيُّ تعريفٍ للرق على عاملين رئيسيين: المعايير أو الخصائصِ الأساسية للرق بغض النظرِ عن نوع “التعبئة” الثقافية أو الاجتماعية أو الأعراف المحيطة به (فمثلًا لا يعدُّ الزواجُ القسري في أعراف مجتمعاتنا العربيةِ نوعًا من العبودية)؛ والأنماط الأوسع لكيفية عمل هذه المعايير الأساسية عبر الزمن وعبر الثقافات. على سبيل المثال، كان لمعظم العبوديةِ في معظم الثقافاتِ هدفٌ اقتصاديٌّ، وعملُ العبيد يثري مالكَ العبيد، ولكن هذا الاستغلالَ قد تم (وكذلك تم تبريرُه أو عقلنته) بمئات الطرقِ المختلفة في مراحلَ مختلفةٍ من التاريخ وفي دول مختلفة. ومع ذلك، في أوقاتٍ مختلفةٍ وأماكنَ مختلفةٍ، تم استغلالُ بعضِ العبيد كأشياء للاستهلاك الواضح، ووجودُهم البسيط كان يخدم حاجةً اجتماعيةً، وربما نفسيةً، لصاحب العبيد. لم يكونوا أولئك الذين لم يُستغلوا لإثراء السادةِ أقل عبوديةً لأنهم لم يكونوا عمالًا فاعلين بالمعيار الاقتصادي. فهذا هو الحال لأن العبودية في جوهرها تدور حول السيطرةِ وليس الاثراء. وهذا ينطبق علينا كشعوب عربية واسلامية- في الوقت الراهن- فربّما لم نستخدمْ في أحيان كثيرة لإثراء المستبدين أو أصحاب المؤسسات والمصانع أو أولي الأمرِ منا، ولكن لإعطائهم تلك المكانةَ التي تشعرُهم بالسيطرة وتعطيهم نشوتَها فكم من أبٍ نازحٍ مُعدم في خيمة لجوء مارس سفاحَ القربى ليشعرَ بالسيطرة في رغبةٍ مريضة، أو فقير ينتقم من المجتمع بالاعتداء الجسدي والنفسي على أفراد أسرته!

تتمثل إحدى الصعوباتِ الرئيسة في تطبيق تعريفٍ قانوني للرق والعبودية على أي نشاطٍ بشري يُشتبهُ في أنه استعبادٌ في التعاريف المتغيرةِ في الصكوك القانونية الدولية الخاصة بالرق. في الحقيقة ، ليس هذا هو المكانَ المناسبَ لمراجعة هذه التعريفاتِ المتنوعة، ولكن من الجدير بالذكر، كمثال على مزيجٍ من الأطر التعريفية، أن بعضَها يشمل أنشطةً، مثلَ الزواجِ القهري أو القسري أو حتى الاتجار بالأعضاء تحت الحاجة المادية، أو العمالة الرخيصة كمجموعاتٍ فرعيةٍ داخل العبودية، وبعضُهم الآخرُ لا تضع التعريفات القانونية الأخرى العبودية نفسها على أنها مجموعةٌ فرعيةٌ من نشاط آخرَ، مثل الاتجار بالبشر. يساعد عدمُ وجودِ اتفاقٍ بين هذه الأدواتِ على توليد نقصٍ في الوضوح المفاهيمي عند مواجهةِ الأنشطة التي يمكن أو لا تعتبر ضمنَ فئةِ العبودية الأوسع. والنتيجة الثانية هي أن المحاكمَ أصدرت أحكامًا تحددُ تعاريفَ متباينةً أو تفسر نفس التعريف بشكل مختلف تمامًا.

تتخذ العبوديةُ اليوم شكلَ الاتجار بالبشر -بمعنى استخدام القوة أو الاحتيال أو الإكراه لإغراء الناس بعيدًا عن منازلهم وجعلِهم يعملون كبغايا وخدم منازل وأيادٍ ميدانية وعمال مصانع وعمال مزارع وأنواع أخرى من أعمال تحت بند عدم وجود البدائل. و يُقدرُ مكتبُ الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أنه يتم الاتجارُ في 2.5 مليون شخص عبر العالم في أي وقت. فكلُّ دولة في العالم منخرطة كبلد منشأ أو عبور أو وجهة، كما يقول مكتبُ الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، حيث تُعدُّ أوروبا وجهةَ الضحايا الأكبر وآسيا هي مصدر الضحايا الأكبر للعبودية الذين يتم الاتجارُ بهم.

قد يتم الاتجار بالضحايا في خارج أو داخل بلدانهم، حيث ربّما يكون حتى العملُ الإنساني نوعًا من الاتجار بالبشر في مناطق الكوارث. تقدر وزارة الخارجية الأمريكية، على سبيل المثال، أن 14500 إلى 17500 فرد يتم تهريبُهم إلى الولايات المتحدة كلَّ عام. هذا بالإضافة إلى الاتجار الداخلي لكل من المواطنين الأمريكيين، مثل بيع المراهقين بغرض الاستغلال الجنسي، والمواطنين الأجانب المستهدفين للاتجار أو إعادة الاتجار.

والمشكلةُ آخذةٌ في الازدياد. وفقًا لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية، فإن الاتجار بالبشر هو المشروعُ الإجرامي الأسرع نموًا في العالم وهو مرتبطٌ بالفعل بالتجارة بالأسلحة باعتبارها ثاني أكبر صناعة غير قانونية في العالم (يحتل تداول المخدرات المرتبة الأولى).

الاتجار بالبشر هو وباءٌ صامتٌ، قد لا تشك أبدًا في أن أحدَ الجيران لديه خادمةٌ لا يُسمح لها مطلقًا بمغادرة المنزل، على سبيل المثال. وقد تمشي بجانب شخص ما في طريقه إلى العمل في وظيفة لا يمكنه تركُها بسبب الديون الهائلة للمُتجِر به. أو قد تقود سيارتك عبر الحقول أو البساتين التي يتم حصادُها من قبل العمال الزراعيين المُتجر بهم. لقد أصبحت ولاية هاواي حديثًا مسرحًا لما وصفه مكتب التحقيقات الفيدرالي بأكبر حالة اتجار بالبشر في تاريخ الولايات المتحدة العام الماضي ، عندما تم اكتشافُ أن المُتجِرين قد استدرجوا عمالًا من تايلاند للعمل في المزارع في هاواي ثم أرغموهم على العمل بأجر ضئيل أو بدون أجر وهذا نشاهده بكثرة أيضًا في الدول الغنية، أما في الهند فيُستخدم الدينُ لترسيخ مبدأِ العبودية ، وكذلك الثقافة الفاشية والنازية للرجل الأبيض حامل الصليب ومُطهر الأرض من الكفار من أمثال ماجلان وكولومبس و القسيس جوليوس كامباراج نيريري في تنزانيا الذي استخدم الدين للتطهير العرقي ضد المسلمين.

“معظمُ الناس غافلون”؛ إنهم يرون الاتجار كلَّ يوم، لكنهم لا يعرفون أنهم يرونه، قد يكون من الصعب على الغرباء فهمُ ما الذي يمنع الأشخاصَ المُتاجرَ بهم من الفرار. يوضح علماء نفس: “لا يجب تقييدُ شخص ما أو حبسه جسديًا في غرفة لنعتبره مستعبداً “. “المتاجرون بالبشر يستخدمون تقنيات إكراهٍ نفسيةٍ دقيقة للغاية.” وتشمل هذه الوسائلُ العزلةَ القسرية، والاعتداءَ اللفظي والجسدي، والعملَ دون توقف، والتهديداتِ والفشلِ في توفير الضروريات الأساسية وهنا لا ينطبق هذا على الأفراد فحسب فمن الممكن أن ينطبقَ كذلك على شعب وفئات مجتمعية كاملةٍ ورأينا أمثلة ذلك في تجويع غزةَ والعراقِ والمحاصرين في الغوطة وجنين. حتى بعد احتجازِ المُتجِرين، قد يظل الناجون قلقين بشأن تهديداتِ الجماعات الإجرامية لعائلاتهم وأصدقائهم في الوطن وأمثالهم المهجرين قسريا في سوريا والعراق والمعارضين السياسيين والفارين. بالإضافة إلى ذلك، قد يعاني الناجون من الاتجار بالبشر من اضطراب الإجهادِ اللاحق للصدمة المعقدة.

تقول إحدى المعالجاتِ النفسيات “إذا كنت ترغب في وقف الاتجارِ بالبشر، فعليك التوقفَ عن شراء الجنس”، مضيفةً أن الاستغلالَ الجنسي يحدث أيضًا جنبًا إلى جنب مع الاتجار المنزلي والزراعي وغيره من أشكال الاتجار.

وتشير في هذا الصدد إلى السويد كمثال لما يُمكن عمله. فقبل عقدٍ من الزمان، أصدرت السويد قانونًا يحول الانتباه بعيدًا عن أولئك الذين يبيعون الجنس إلى أولئك الذين يشترونه. ونتيجةً لذلك، لم تعدِ الشرطةٍ تعتقل البغايا، بل ركزت بدلًا من ذلك على طالبي الجنس، واتهمتهم بما يعادلُ جنايةً بدلًا من تهمة الجنحة السائدة في الولايات المتحدة. كما يوفر نفسُ القانون الاستشارةَ والرعاية الطبية والإسكان وغيرَها من الخدمات لمساعدة البغايا على الخروج من المهنة. ليس من المستغرب، كما يقول الكثيرون إن هذا النهجَ أعطى السويد أدنى معدلٍ للاتجار بالبشر داخل الاتحاد الأوروبي.

 في النهاية هل ندركُ أننا عبيدٌ للبشر؟ أم ليس بعد؟ قد تكون الثوراتُ هي أعظمَ شيء يمكن أن يوقظَ العبدَ من غفلته؟ وهذا أعظمُ ما أخرجته ثوراتُ الربيع العربي، حين جعلتنا نشعر أننا كنا وما زلنا عبيدً! ربما أخرجتنا من سيد إلى سيد آخر، لكنها جعلتنا نعي مصيبتنا؟! علينا أن نتخذ قرارًا! هل سنبقى على الهامش كبشر مستعبدين من النخب التي تملك المادةَ أم أننا سنستخدم علومَنا ومهاراتِنا وفرصَ المناصرة لدينا لمكافحة العبودية في العصر الحديث؟ هل سنخرج كنوز الإسلام المخبأة التي اكتشفها الأولون وعلى رأسها قولُ جعفر بن أبي طالب للنجاشي:

“أيها الملكُ، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف……فدعانا إلى الله لنوحدَه ونعبدَه، ونخلعَ ما كنا نعبدُ نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان….. وأمرنا أن نعبدَ اللهَ وحدَه لا نشرك به شيئًا”

كثير من الأسئلة التي أثرتها في هذا البحث، لم نجبْ عنها لأني بصراحة لا أملكُ الإجابة ،ولكن علينا أن نبحثَ ونجتهدَ لنجدَ الحلول، وربّما يكون هذا عظمةُ التوجيه الإلهي فلم يعطِ الخالقُ حلولًا حاسمةً في مسألة العبوديةِ ربّما لأنها لن تنتهيَ طالما يوجد طرفان لديهم الدافعُ والرغبة للانخراط بها (السيد والعبد) أو ربّما لأنها جزءٌ من سنة التسخير التي جُبل الناسُ عليها! في الحقيقة لا أدري!!!!!! لكن علينا أن نبحث عن الأجابة ما حيينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى