تسابقت الدول الخليجية في العام 2021، لإطلاق تظاهرات فنية ورياضية، ومعارض عالمية ضخمة، ومشاريع تنموية مستقبلية. عكست رغبة تلك الدول في أن تتبوأ مراكز دولية متقدمة، في مجالات الاقتصاد والسياحة والبيئة والرياضة. إذ أقامت الإمارات العربية المتحدة معرض إكسبو دبي 2021، بعد تأجيله لمدة عام بسبب جائحة كوفيد 19، ويُعد من أشهر المعارض العالمية، الذي استضافته دبي بمشاركة 200 جناح، تحتوي على أحدث المبتكرات والاختراعات البشرية. فيما شهدت المملكة العربية السعودية طفرةً غير مسبوقة، في إطلاق مشاريع ومبادرات عمرانية وسياحية، تواكب انفتاح المملكة في جوانب عديدة، كانت تعتبر بمثابة محرمات دينية واجتماعية منذ نشوئها، وهي تتجهز في العام 2022 لإعلان استراتيجية الرياض 2030، التي تستهدف تحويل الرياض إلى واحدة من أهم عشرة مدن في العالم. أما قطر التي سبقت جيرانها في تأسيس مشاريع إعلامية وثقافية وتعليمية، فقد استضافت نهاية هذا العام كأس العرب لكرة القدم، في أجواء احتفالية يمتزج فيها الواقع بالخيال، كمناسبة لإظهار قدراتها التصميمية واللوجستيكية لاستضافتها كأس العالم في العام القادم. لم تكن مصر بعيدة عن هذا السباق الخليجي بوجهٍ ما، فقد أنجزت عاصمتها الإدارية الجديدة، ودشن رئيسها عشرات المشاريع التنموية، في معرض إثبات جدارة نظامه نقل بلده المتعثر، إلى دولة ماضية على طريق التقدم والإزدهار.
تطرح تكاليف هذا المشهد العربي الكرنفالي بشكله، والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بمضامينه، وهي بمئات مليارات الدولارات، أنفقتها ووضعتها تلك الدول لتحقيق ما تصبو إليه، ضمن رؤية وأهداف كلٍ منها، نقاشاً لابد منه في الجدوى والمردود المتوقعين، سواء في انعكاسهما على شعوب تلك الدول بصورة خاصة، أم على الشعوب العربية عامةً. يفرض مثل هذا النقاش، استشراف مستقبل ما يجري في تلك الدول، بمنأى عن المواقف الأيديولوجية والسياسية المسبقة، تجاه أنظمتها التي تقود ما يسمى ” بعمليات تحديث كبرى”. مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف السياق المصري الجاري في دولة تعاني أزمات اقتصادية متراكمة، عن سياق الدول الخليجية الغنية ذات الفائض المتراكم من مداخيلها النفطية والغازية.
ما يثير بدوره تساؤلات مُلّحة؛ حول مدى وكيفية استفادة وتثمير تلك الدول، لما تمضي إليه بكل حماسة وتفاخر، وترى فيه مواكبة حضارية فذة للركب العالمي، وتحوّلٍ فارق في مسيرة كياناتها الوطنية ؟! وهل يمكن لتلك الأنظمة والدول تحصين أمنها الوطني والقومي، من متغيرات جيوبولتيكية وتحولات سياسية مفصلية، في ظل صراع على المنطقة العربية بين أقطاب إقليمية ودولية، أضحى العرب فيها منفردين أو مجتمعين، مجرد بيادق في لعبة الكبار؟!. لا تحجب تلك التساؤلات التي تراود أفكار وهواجس كل من يدرك ما صنعته سياسات التبعية لمراكز النفوذ الدولي، من ضمور مكانة العالم العربي على الخارطة الدولية، والنظر اليه كأوطان مستباحة لكل غاصبٍ وطامعٍ خارجيّ. الصورة الأكثر تعبيراً عن محنة الشعوب العربية في زمن الثورات والانتفاضات، والتي تكشف عمّا تعانيه غالبية شعوب المنطقة، من حروب وأزمات وصراعات مفتوحة. استنزفت حياة مئات الملايين بالفقر والتشريد والبؤس. مهما كانت أضواء الاحتفالات بتلك الإنجازات ساطعة ومُبهرة، لا يمكن لها أن تخفي تلك الصورة الأعم، المشبعة بالخسران والأسى وانسداد الأفق.
أمثلة لا حصر لها للدلالة على حالة التناقض والفصام بين الصورتين، بل في كل صورة منها وجوه من المفارقات الصارخة، التي تجيب بدورها على قدر من تلك التساؤلات، لاسيما معنى التحديث العمراني في مصر، على مقصلة الخوف والترهيب بحق الحريات السياسية التي ضاقت إلى حدود الاختناق، ومغزى المعارض والتظاهرات والمشاريع الضخمة في دول الخليج، والملايين من العرب في الدول المنكوبة، يعيشون الفقر الأسود وذل العوّز الفاقة والحاجة. ربما نبالغ في آمالنا على أن ينظر الأغنياء العرب بعين العدل والرحمة تجاه من يصفونهم بالأشقاء العرب، لكن ألا يحق القول: وما جدوى مدن تنطح فيها الأبراج عنان السماء، وأجيال عربية مشردة تولد وتفتح أبصارها في بحور الخيام!! وأيُّ أهمية لملاعب ومدرجات كروية تتسع لآلاف المتفرجين والسيّاح، وقد أصبحت مآسينا ومصائبنا معرضاً يتفرج عليه العالم من كلٍ حدبٍ وصوب. وهل تخضير مدينة عربية بملايين الأشجار، سيقلل من اليباس والموات الذي يجتاح مدننا وحواضرنا العريقة!!
كان أشقاؤكم سيفرحون لو كانت انجازاتكم تلك، ستحرركم من الارتهان للدول التي تحميكم مقابل التحكم بمصائر دولكم وثرواتكم، وكانوا أول المهنئين لكم، لو كنتم تقومون بواجبكم في نصرة قضاياهم العادلة بكل إخلاصٍ وصدق. أما بشائر الخلاص والنهضة التي دقت أبوابها الشعوب التواقة للحرية، فهي لا تستوي مع سياسات تحتفي بالحجر والشجر، وتجعل من الإنسان مادةً للتشيؤ والاستهلاك، وتُحاكي مظاهر الحداثة، على حساب تجاهل حرية وكرامة من عانوا وضحوا، كي يستعيد الإنسان العربي قيمته ومكانته ودوره الحضاري بين الأمم. بل إن التنافس بين تلك الدول على إظهار “منجزاتها” كرسالة دولية، لا يأتي ضمن رؤية عربية للتحديّات الداخلية والخارجية التي ينبغي التعامل معها، في ظل تردي أحوال الجامعة العربية، وإجهاض مشاريع التحرر والتغيير في دول الربيع العربي، وتوغل الكيان الصهيوني في عدوانه على الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته الوطنية، والدور الإيراني الخطير في استباحة الدول العربية والعبث بالأمن القومي العربي، وفي ظل خطوات إعادة تأهيل نظام الأسد برعاية روسية، بعد أن أصبحت سورية ملعباً لإدارة الصراعات والمصالح الدولية والإقليمية، على أنقاض مدنها وأريافها، وعلى أشلاء مآسي شعبها.
تجاهل تلك التحديّات الوجودية، التي لن تتوقف تداعياتها على الدول المنكوبة فحسب، وإنما إلى كافة الدول الأخرى، هو بمثابة دفن الرؤوس في رمال الوهم، لأن تجارب نهوض الأوطان والأمم تشترط تحصين مقومات سيادتها وأمنها وحرية شعوبها أولاً، وإن لم تركّز طاقاتها وقدراتها على هذه الأولوية، تبقى كافة مشاريع التنمية والتحديث التي تعمل عليها في مهب الريح.
المصدر: موقع مصير