قسد ولعبة الكبار في شمال شرق سورية

مهند الكاطع

لا يزال المشهد في مناطق شرق الفرات الخاضعة لسيطرة قسد بالغ الضبابية، ويحمل الكثير من التساؤلات عن خارطة القوى المؤثرة في المنطقة، فما هو دور الميليشيات التابعة لحزب العمال الكردستاني (قسد) هناك؟ وما هي حدود تواجد وقوة النظام؟  وما هو شكل تطور العلاقة بين النظام وقسد؟ وماذا يريد كل من الأمريكان والروس من قسد؟ وهل هناك دور لإيران في تلك المناطق؟ وماهي مصالح تركيا في هذه البقعة؟ وأين تقع المصالح العربية في هذا المشهد المعقد؟  أسئلة مهمة، تتطلب الإجابة الوافية عليها أكثر من مقال ودراسة. لكننا سنحاول تلخيص المشهد، بشكل يخرجنا بتصوّر مقبول عن المنطقة من خلال تسلسل الأحداث المرتبطة بعلاقة القوى الفاعلة في هذه المنطقة الحيوية والإستراتيجية.

العلاقة بين النظام والعمال الكردستاني

هناك تباين واضح في شكل العلاقة بين النظام وحزب العمال الكردستاني في سورية، لسنا في صدد شكل العلاقة بين عامي 1978-1998م، لكننا سنركز على العلاقة في ظل الثورة السورية، وتبدل العلاقة بعد دخول القوات الأمريكية إلى سورية.

لقد مثلت ميليشيات  حزب العمال الكردستاني قبل الدخول الأمريكي، الذراع العسكري للنظام في وجه معارضيه في منطقة شمال شرق سورية وكذلك أجزاء من ريف حلب، إذ قام النظام في الفترة الواقعة بين 2011-2015 بتسليم  الأكراد مناطق شاسعة، ومدن رئيسية مثل المالكية وعفرين وعين العرب، إضافة إلى مناطق في الشريط الحدودي، ومعابر حدودية أهمها “اليعربية”، إلى جانب السماح لتلك الميليشيات بإنشاء معابر حدودية جديدة أهمها “معبر سيمالكا” (مع كردستان العراق)، عبر إنشاء جسر عائم على النهر يسمح بحركة مرور المدنيين والبضائع التجارية.

كما سمح النظام لتلك الميليشيات بالتغلغل في الشارع “الكردي” بشكل خاص منذ بدء الثورة عام 2011، كان ذلك في أوج قوة النظام في المناطق الشرقية، إذ افتتح حزب الاتحاد الديمقراطي PYD أول مدرسة “كردية” في عفرين، قرية دراقليا، في 6 أيلول/ سبتمبر 2011، وأول مركز للثقافة والفن في حلب بحي الشيخ مقصود، باسم مركز (جميل هورو) في 21 من الشهر نفسه. وبدأت تلك الميليشيات بإقامة الحواجز، و إدارة المنطقة فعلياً، في إطار تخفيف الضغط عن النظام،  ليركز هو بدوره عملياته في المناطق السورية الأخرى، وترك مسؤولية قمع أبناء المنطقة بمن فيهم الأكراد وكذلك الأحزاب الكردية الأخرى، على عاتق ميليشيات صالح مسلم الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د)، التي كانت تقوم بعمليات مشتركة في محافظة الحسكة وريف حلب الغربي ضدّ قوات المعارضة.

تنامي قوات العمال الكردستاني PKK

لم يكن أمام النظام الكثير من الخيارات في ظل حالة الضعف التي بدأ يعانيها مع خروج معظم الأراضي السورية عن سيطرته، قبل أن يبدأ الروس بتدخل عسكري بطلب من النظام في آواخر أيلول / سبتمبر 2015، في تلك الفترة كان تواجد النظام في محافظة الحسكة محدوداً، مقتصراً على كتيبة في مدينة القامشلي، وأخرى في منطقة المركز في الحسكة، إضافة إلى المربعات الأمنية في كل من القامشلي والحسكة التي تضم الفروع الأمنية والمخابرات والدوائر الرسمية، وسيطرة على بعض المرافق الحيوية وخاصة المطار والمشافي الحكومية والسجون والمدارس.

سمحت الفترة بين عامي 2012-2015 بتنامي قوة ميليشيات حزب العمال الكردستاني في سورية وتعزيز إدارته، حيث وصل آلاف المقاتلين بتنظيم حزب العمال الكردستاني من جبال قنديل إلى سورية، بعد دعوة أوجلان مقاتليه في شباط/ فبراير 2012 إلى إلقاء السلاح والانسحاب من تركيا، وسط ترحيب رسمي تركي بالدعوة، ومع إعلان رسمي لبدء الانسحاب رسمياً اعتباراً من نيسان/ أبريل 2013. وتؤكد السجلات الصادرة عن ميليشيا حماية الشعبYPG  مقتل  529 من المقاتلين الأجانب تم توثيق مقتلهم سنة 2014 فقط، حيث شكل المقاتلين المنحدرين من تركيا نسبة  79%، و 8 % من إيران و3% من شمال العراق، و2% مقاتلين يساريين من جنسيات أوربية. كما تسلمت (الكوادر) القادمة من قنديل مفاصل الإدارة العسكرية والأمنية والمالية بشكل كامل، وهؤلاء لا يتحدثون العربية بالمطلق إلا بوجود ترجمان،  تاركة الجانب الإداري المدني والواجهة السياسية، لأكراد سوريين يكونون في الواجهة مع لفيف من بعض العرب والسريان وباقي المكونات للإيحاء بوجود إدارة محلية للمنطقة من سكانها الأصليين.

تجدر الإشارة إلى أن صالح مسلم وفي ظل انسحاب المقاتلين من قنديل باتجاه سورية، كان قد قام سنة 2013 بأكثر من أربع زيارات لتركيا، وكان يتم استقباله من قبل مستشار وزير الخارجية فريدون سينيرلي أوغلو ورئيس جهاز الاستخبارات الوطنية التركية هاكان فيدان ومسؤولين كبار في الدولة. فقد كان لتركيا مصلحة في جمع مقاتلي العمال الكردستاني في سورية ( ربما لنقل الصراع معهم هناك في مرحلة لاحقة).

بدء التدخل الأمريكي وتأثيره على علاقة النظام بـ PKK

مثّل بدء التواجد الأمريكي في سورية مرحلة جديدة  أثرت سلباً في علاقة النظام مع العمال الكردستاني، وبدأ النظام معها يستشعر خروج الأمر تدريجياً عن سيطرته، خاصة مع بدء التحالف العسكري بين أمريكا وحزب العمال الكردستاني الذي كان مضطراً للبدء بالتخلي عن استخدام اسم ميليشياته قوات حماية الشعب YPG عبر جعلها جزء من ميليشيات جديدة تحت اسم سوري ( قوات سوريا الديمقراطية – قسد)، وكان ذلك برغبة أمريكية لرفع الحرج عن تحالفها مع هذه القوات، بعد أن بات اسم YPG  مرتبطاً بعدد من المجازر والانتهاكات التي وثقتها المنظمات الدولية.

كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت عن إرسالها 50 جندياً أمريكياً من القوات الخاصة الأمريكية في تشرين الأول / أكتوبر 2015 في دور استشاري غير قتالي، وقد مثل ذلك أول إعلان أمريكي رسمي عن الدخول إلى سورية في عهد باراك أوباما. وفي نيسان/ أبريل 2016، تم الإعلان عن وصول  150 جنديا أمريكيا بينهم ضباط إلى مطار “رميلان” الزراعي الذي بات قاعدة أمريكية، وهي دفعة من 250 جنديا وعد الرئيس باراك أوباما بإرسالهم إلى سوريا لتدريب ومساعدة ما أسماه “القوات المحلية” في حربها ضد تنظيم داعش”، وقد استمر دخول القوات الأمريكية، حتى بلغ نحو 2000 جندي أمريكي سنة 2018.

لقد شكل الوجود الأمريكي  توازنا مقابل الوجود الروسي وكذلك الوجود الإيراني، وكانت أمريكا تصرح بأن انسحابها من سوريا يجب أن يتوافق مع انسحاب للقوات الروسية والإيرانية أيضاً.

التصعيد وتدهور العلاقة بين النظام والعمال الكردستاني

كانت العلاقات بين النظام السوري والقوات الكردية تتجه إلى التصعيد في ظل تزايد التقارب الأمريكي- الكردي، وتخلل ذلك مواجهات متقطعة بين القوات الموالية للنظام (الدفاع الوطني) والقوات الكردية باستخدام الأسلحة الخفيفة في مدينتي الحسكة والقامشلي اللتين يتواجد فيهما النظام، ومع بدء الميليشيات الكردية محاولة جادة للسيطرة على المربع الأمني في الحسكة ومبنى المحافظة فيها في أواسط آب 2016، بدأ النظام بعملية قصف جوي لحلفاء الأمس، لأول مرة خلال النزاع الدائر في سوريا منذ 2011.

من جانب آخر، لم يمضِ وقت طويل حتى لعبت روسيا دور وسيط بين حلفاء الأمس ( النظام، العمال الكردستاني)، حيث تم توقيع اتفاق وصف بالمذل للنظام،  في قاعدة حميميم الروسية. لكن كانت منطقة شرق الفرات حينها قد خضعت لحظر جوي فرضه الجانب الأمريكي، وبالتالي خرجت قوات العمال الكردستاني فعلياً عن سيطرة النظام، وباتت علاقتها بالنظام مرتبطة فقط بخطوط رجعة رسمتها تلك الميليشيات في ظل وجود خطر تركي عليها، مع عدم وجود أي إشارات أمريكية بأن هذا التحالف العسكري يمكن أن يتحول لتحالف استراتيجي، يضمن بها العمال الكردستاني حماية أمريكية على المدى البعيد.

شكلت إيران ذات العلاقة التاريخية مع (بي كي كي) في جبال قنديل همزة الوصل كذلك في العلاقات المعقدة بين العمال الكردستاني وسورية، فالقتال الذي كان ينشب بين ميليشيات الدفاع الوطني والقوات الكردية في الحسكة، لم  يمنع  مساندة النظام لميليشيات العمال الكردستاني في معاركها ضدّ الجيش الحر في ريف حلب الغربي في نفس الوقت.

إبقاء شعرة معاوية بين النظام والأكراد

كانت تقديرات ميليشيات قسد في سورية تجاه الموقف الأمريكي في محلها، إذ خيبت الولايات المتحدة الأمريكية ظنهم بعد السكوت عن عملية درع الفرات التي أعلنت عنها تركيا في آب / أغسطس 2016، وكانت خيبة أملهم اشد بعد إعلان تركيا عملية عسكرية واسعة في كانون الثاني / يناير 2018 هدفت للسيطرة على عفرين بالكامل والتي مثلت إحدى المقاطعات الثلاث  للإدارة الذاتية، وبالفعل استغاثت القوات الكردية بحكومة النظام السوري، ودعت الأسد إلى إرسال قوات لمساعدتها في صد الهجوم التركي، وقد اشترطت دمشق على الأكراد تسليمها منطقة عفرين وعودة المؤسسات الحكومية السورية إليها كي يتدخل الجيش النظامي ويُساعدهم في التصدي للهجوم التركي، لكن الأكراد رفضوا المقترح رفضًا تامًا وقدموا اقتراحات  لروسيا حليفة النظام، بأن ينتشر الحرس الحدودي السوري على الحدود مع تركيا؛ ليحمي منطقة عفرين، و توصَّل الطرفان في  18 شباط (فبراير) 2018، إلى اتفاقٍ يقضي بإنشاء قاعدة للجيش السوري النظامي في عفرين والانتشار على عدد من النقاط الحُدوديَّة. قبل أن تساهم جهود الرئيس التركي في إحباط مخطط نشر القوات السورية في عفرين بعد محادثات أجراها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

الواقع الحالي لمنطقة شرق الفرات

أطلقت تركيا عمليتها نبع السلام في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، انتهت بالسيطرة على تل أبيض ورأس العين في شرق الفرات، والمناطق الواقعة بينها، وقد ساهمت الاتفاقيات الموقعة بين كل من تركيا وأمريكا وكذلك تركيا وروسيا، في تعزيز التواجد الروسي وقوات النظام في المناطق الحدودية شرق الفرات،

لقد بدت السياسات الأمريكية متذبذبة في شرق الفرات، فقد أعلنت أمريكا انتهاء العمليات ضدّ داعش، وبدأت بسحب قواتها من شرق الفرات تزامناً مع بدء عملية نبع السلام، الأمر الذي اعتبرته القوات الكردية طعنة  في ظهرها، قبل أن تستجيب أمريكا لضغوط داخلية وخارجية جعلها تعيد نشر قواتها في المنطقة، لكن هذه المرة تحت ذريعة حماية حقول النفط من وصول الميليشيات الإرهابية إليها، لكنها كانت ذريعة واهية، خاصة وأن كميات النفط المحدودة في سورية لا تشكل مبرراً مقنعاً لما أعلنت عنه أمريكا.

كانت الميليشيات الكردية مرغمة على قبول دور أكبر للنظام في المنطقة، وبدأ النظام نشر قوات حرس الحدود في المنطقة الحدودية بين القامشلي وعين ديوار في أقصى نقطة في الشمال الشرقي من الحدود، مع تعهد ميليشيات الإدارة الذاتية بتأمين وسائل النقل والطعام والخدمات اللوجستية لتلك القوات.

وقد بقي النظام موجودا في مناطق سيطرته في المدينة، وبقيت حواجزه تحيط بالمربعات الأمنية ومداخل المدن والمطار وبعض المراكز الأخرى، وبقيت قنوات التواصل مفتوحة وتم تعزيزها بين المحافظ والإدارة الكردية، وعين النظام ضابط من القصر الجمهوري برتبة عميد يدعى محمد ديب كنقطة ارتباط بين القوات الأمنية التابعة للنظام والقوات الكردية، ويساهم في حل أي خلاف ينشأ بين حواجزهما. واقتصر الوجود الإيراني على عدد محدود من العناصر الإيرانية التي تعمل بصفة مستشارين عسكريين وربما بينهم عناصر استخبارات وحرس ثوري، يطلق عليهم محلياً ( الحجاج)، في حين بدأت القوات الروسية تتمركز وتوسع من نطاق قواعدها وحركة آلياتها في المنطقة.

ماذا يريد الروس والأمريكان من قسد؟

يريد الروس من قسد أن توطد علاقتها مع النظام، وأن تكون جزءاً من قوات النظام، وأن يكون شكل العلاقة بينهما في حدود السقف الذي وضعه النظام وهو القانون ( رقم 107) الخاص بالإدارة الملحية السورية، وتمارس روسيا ضغطها على قسد بهذا الاتجاه.

بينما لا ترغب الولايات المتحدة الأمريكية أن تتجاوز علاقة قسد مع الروس والنظام شعرة معاوية.

أما قسد نفسها،  فلا يبدو أنها في موقف يحسد عليه في جميع الاتجاهات، فهي تدرك أن الوجود الأمريكي لا يمكن أن يستمر طويلاً، وتدرك أيضاً بأن النظام يزداد قوة وأنه لن يمنحهم أكثر من سقف الإدارة المحلية (وبشكل مؤقت فقط) لغاية سيطرته على المنطقة في حال تم له ذلك، لذلك تسعى قسد لبذل كل ما تستطيع من جهود، لضمان موطئ قدم لها معترف فيه في الساحة السورية لمستقبل ما بعد الأسد، و أن تكون جزء من الحل السياسي السوري، وتسوق نفسها على أنها طرف سوري 100% وبأجندة سورية خالصة، وقد باءت محاولة  استغلال مشاركاتها بوساطة أمريكية في مؤتمر القاهرة بالفشل  للدخول من هناك إلى اللجنة الدستورية، لتكون طرفاً معترفاً به من باقي الفرقاء السوريين في المعارضة السورية رسمياً، ولتنال إدارتها اعترافاً دستورياً بالحد الأدنى. وقد تتغير المعادلة حول الآلية لا الهدف لتتمثل في مؤسسات المعارضة من خلال تركيا التي أبدت استعدادها لاتفاق سلام حسب إعلان الرئيس الأمريكي ترامب بالإضافة إلى الدور الروسي باستئناف المحادثات والعلاقة بين النظام وقسد. وتستثمر قسد في هذا الإطار، المخاوف العربية من التدخل العسكري التركي، و مستقبل نتائجه على سورية، ما يسمح باستخدام الورقة الكردية (عربياً) في سورية ضدّ تركيا كما تأمل قسد، بحيث تتحول تلك العلاقة التكتيكية، إلى علاقة استراتيجية بحسب آمال قسد، ونيل اعتراف عربي بالأمر الواقع الذي فرضته تلك الميليشيات “الأجنبية” في هذه المنطقة التي يشكل فيها العرب أكثر من 85% من السكان، فضلاً عن أن باقي النسبة من مختلف المكونات السورية ليست معنية بأي شكل بمشروع العمال الكردستاني ولا إيديولوجيته.

طموح قسد في إدارة ذاتية تحاكي نموذج الحكم الذاتي لأكراد شمال العراق، يواجه تحديات كبيرة على المستوى الجيوسياسي والديموغرافي في المنطقة، ولا يبدو أن هذا المشروع قابل للتحقيق، ولا حتى فكرة دعم هذا المشروع ستكون الخيار الأنسب للضغط على الأتراك، بقدر ما يعطيهم حجة وذريعة لمزيد من التدخل، وفي حال توصل الأتراك والأكراد لأي صيغة تفاهم في سورية حتى لو كانت مؤقتة،وهو ماتسعى الولايات المتحدة لتحقيقه حالياً، وتتحدث الولايات المتحدة  كثيرا عن إدارة المنطقة وأهمية تعاون مكوناتها بينما تترك حليفها الكردي مستمراً في السيطرة على المنطقة وإدارتها وثرواتها. وسيكون ذلك على حساب سكان المنطقة، وسيساهم في تكريس  سلطة الأمر الواقع ومحاولة تنميط السكان على الواقع الجديد، الذي لا تترك فيه الميليشيات الكردية أي فرصة لتغيير واقع المنطقة وهويتها والإثراء الفاحش على حساب إفقار السكان ودفعهم للهجرة من المنطقة، بما ينذر بمستقبل غامض لهذه المنطقة الاقتصادية والجيوسياسية الأهم في سورية.

المصدر: بروكار برس

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى