60 عاماً على رحيل فرانز فانون وما تزال أفكاره سلاحا للمضطهدين

داني شو* ترجمة: علاء الدين أبو زينة

الذكرى الستون لوفاة المفكر والمناضل فرانز فانون هي مناسبة لاستكشاف تأثير الكاتب والطبيب النفسي من جزيرة المارتينيك، الذي أثر على العديد من الثوريين بدراسته لعلم نفس المظلومين.

“كانت غرفة السيد مفتوحة على مصراعيها. كانت غرفة السيد مضاءة بأناقة، وكان السيد هناك، هادئًا جدًا… وتوقَّف رفاقُنا مثل الأموات… إنه السيد… دخلت. قال، “إنه أنت”، قال بهدوء شديد. كنت أنا، حتى أنا، وقلت له ذلك، العبد الصالح، العبد الأمين، العبد المخلص، عبد العبيد، وفجأة أصبحت عيناه مثل صرصارين خائفين في موسم الأمطار… ضربتُ، واندفع الدم؛ هذه هي المعمودية الوحيدة التي أتذكرها اليوم “. -ايمي سيزير.

* *

صادف اليوم الثاني من هذا الشهر الذكرى الستين لوفاة واحد من كبار المفكرين الذين خرجوا من بين صفوف المظلومين، فرانز فانون (1925-1961). ولا شك في أن مساهمات فانون تظل خالدة لا يبليها الوقت. وطالما ظل التفوق الأبيض والاستعمار الجديد في مركز قيادة العلاقات الإنسانية، سوف يستمر فكر فانون في تسليح المستعمَرين في معركة الأفكار.

تطرف فانون

وُلد فانون ونشأ في جزيرة المارتينيك في منطقة البحر الكاريبي، التي ما تزال مستعمرة لفرنسا، وقد تعرض للعلاقات الطبقية والعرقية اليومية التي ميزت الجزيرة في أوائل القرن العشرين وتشكل من خلالها. وعندما أُجبر على الانضمام إلى طابور منفصل من “القوات السوداء”، قاتل في الحرب العالمية الثانية. وبعد مواصلة دراسته في فرنسا ما بعد الحرب، واجه مباشرة ووجهاً لوجه العنصرية السائدة في العالم الأوروبي. وفي كتابه الأول، “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” Black Skin, White Masks (1952)، يتأمل فانون في تجربة النشوء وبلوغ سن الرشد في عالم، حيث “بالنسبة للرجل الأسود، هناك مصير واحد فقط. وهو مصير أبيض”. وكان فانون قد بلغ من العمر في وقت النشر 27 عامًا.

في العام 1953، تم تعيين الطبيب النفسي من المارتينيك في الجزائر، حيث عالج المرضى الذين أصيبوا بصدمات شديدة بسبب العنف الذي أطلق الاستعمار الفرنسي له العنان. وهناك التقى الدكتور بيير شوليه، وهو طبيب فرنسي كان يعالج سراً أعضاء نجوا من التعذيب والاعتقال من “جبهة التحرير الوطني”، حركة المقاومة الجزائرية التي كانت تخوض حرب عصابات ضد الاستعمار. وبينما كان “قريبًا جدًا من مرضاه الذين اعتبرهم في الأساس ضحايا للنظام الذي يحاربه”، أصبح فانون على الفور كادرًا في الثورة الجزائرية.(1)

بحلول العام 1956، لم يعد ضمير فانون يسمح له بالاستمرار في الإشراف على العمليات في مستشفى البليدة في الجزائر. وفي خطاب استقالة مؤثر لامس عواطف الكثيرين من اليسار، كتب:

“يأتي وقت يصبح فيه الصمت خداعًا وخيانة للأمانة. لا تتوافق النوايا الحاكمة للوجود الشخصي مع الاعتداءات الدائمة على القيم الأكثر شيوعًا. ومنذ أشهر عدة كان ضميري موضعاً لنقاشات لا تغفِر. والنتيجة هي العزم على عدم اليأس من الإنسان، بمعنى آخر، من نفسي. والقرار الذي توصلت إليه هو أنني لا أستطيع الاستمرار في تحمل المسؤولية مهما تكن تكلفتها، على أساس الذريعة الزائفة بأنه لا يوجد شيء آخر يمكن فعله”.

المعذَّبون في الأرض

أنتج فانون قدرًا هائلاً من العمل الفكري. ويجمع كتاب “نحو الثورة الإفريقية” Toward the African Revolution كتاباته حول تشكيل وحدة بين إفريقيا والعالم الثالث بحيث تكون الثورة الجزائرية في طليعة هذه العملية. (2) ويستكشف كتابه “استعمارية محتضرة” A Dying Colonialism كيفية تخلص الشعب الجزائري من عقدة النقص الداخلية عن طريق إدارة ظهره للممارسات الثقافية للمستعمِر واحتضان تقاليده الخاصة.(4)

وفي النهاية، كرس فانون أيامه الأخيرة لإملاء الأفكار النهائية لعمله الأكثر تأثيراً على زوجته، جوزي. والآن بعد ستة عقود من ظهوره لأول مرة في شوارع باريس، ما يزال كتاب “المعذبون في الأرض: دليل الثورة السوداء التي تغير شكل العالم”، ذا صلة ومتفجرًا أكثر من أي وقت مضى. وجاء عنوان الكتاب من الشطرة الشعرية “انهضوا، أيها المعذّبون في الأرض” من النشيد الرسمي للأممية الشيوعية الثانية، ومن قصيدة المفكر الشيوعي الهاييتي جاك رومان، “الزنوج القذرون” Sales négres:

سيكون قد فات، سيكون قد فات الأوان

في مزارع القطن في لويزيانا

وفي حقول قصب السكر في جزر الأنتيل

لوقف حصاد انتقام

الزنوج

العبيد

الزنوج القذرين.

سيكون الوقت قد فات أقول لكم

لأنه، حتى الطبول الصغيرة ستكون قد تعلمت لغة

النشيد الأممي.

لأننا سنكون قد اخترنا يومنا

يوم الزنوج القذرين

الهنود القذرين

الهندوس القذرين

الهندو-صينيين القذرين

العرب القذرين

الملاويين القذرين

اليهود القذرين

البروليتاريين القذرين.

وها نحن قد نهضنا

كلُّ المعذبين في الأرض

كل أنصار العدالة

زاحفين على ثكناتكم

ومصارفكم

مثل غابة من المشاعل الجنائزية

كي ننتهي

مرَّة

و

إلى

الأبد

من هذا العالم

عالم الزنوج

العبيد

الزنوج القذرين”.(4)

* *

كم من الثوار حول العالم انبهروا بتصويره البليغ للفوارق بين أحياء المستعمِر الأبيض الغني في الجزائر العاصمة، وقصبات (غيتوات) المستعمَر؟

هنا، في هذا العمل الكلاسيكي الذي على جميع الثوريين واجب دراسته، ثمة بعض من أكثر النثر إثارة حول كيفية استيعاب المضطهدين للعنف وإسقاطه على أنفسهم:

“حيث يتعلق الأمر بالأفراد، ثمة نفي إيجابي واضح للفطرة السليمة. بينما يحق للمستوطن أو الشرطي أن يضرب المواطن الأصلي طوال اليوم، وأن يهينه ويجعله يزحف أمامه، سوف ترى المواطن الأصلي يستل سكينه عند أدنى نظرة مستفزة أو عدوانية يوجهها إليه مواطن أصلي آخر، لأن الملاذ الأخير للمواطن الأصلي هو الدفاع عن شخصيته في مواجهة أخيه”.

وبالاستناد إلى تجربته في علاج المرضى في مستشفى البليدة، الذي يحمل اسمه اليوم، يفحص فانون في “الحرب الاستعمارية والاضطرابات العقلية”، الفصل الأخير من كتابه، “الجروح التي لا يمكن شفاؤها التي ألحقها العدوان الاستعماري بشعبنا”.(5)

ومع ذلك، كانت الركيزة الأساسية للكتاب هي اقتناع فانون بأن المستعمَر لن يستطيع التخلص من الخوف والعار إلا من خلال معمودية العنف الثوري. وكان لمدرِّس فانون السابق في المدرسة الثانوية ومعلمه الروحي، إيمي سيزير، تأثير عميق عليه. وقد حددت كلمات سيزير التي استشهدتُ بها في بداية هذا المقال من قصيدته الملحمية عن تحرير العبيد، وقصيدة “الكلاب كانت صامتة”، نغمة النظرة الفانونية للعالم. وعلى الرغم من جوقة الشكاوى الليبرالية في الغرب من أن فانون كان “عنيفًا للغاية”، خلص فانون إلى أنه:

“بينما يتم تقطيعك أنت ومواطنوك مثل الكلاب، لا يوجد حل آخر سوى استخدام كل الوسائل المتاحة لاستعادة وزنك كإنسان”.

“تستطيع أن تقتل ثوريًا، لكنك لن تستطيع أبداً قتل الثورة”

على الرغم من وفاة فانون بسرطان الدم عندما كان عمره 36 عامًا فقط، فقد التقط الثوار في كل مكان في العالم وحملوا الأسلحة التي سقطت من يده وأفكاره وطبقوها في نضالاتهم الخاصة من أجل التحرر الوطني. وتستمر ملاحظات وأطروحة فانون في تشكيل تفكير الأجيال المستيقظة في صراعات الحياة والموت، من جوهانسبرغ إلى غزة إلى هارلم.

كسجين سياسي، كتب موميا أبو جمال أن “الفهود السود” هي حركة فانونية الفكر. وناقش، في مقال صوتي الذي يحيي فيه فانون، ما عنته نظرة الطبيب النفسي المناهضة للاستعمار لموميا عندما كان بعمر 15 عامًا، والذي أمضى 40 عامًا في السجن. وفي كتابه “اغتنم الوقت” Seize the Time، يتحدث بوبي سيل أيضاً عن تأثير فانون على “الفهود” الصغار وكيف أن هيوي بي. نيوتن قرأ “المعذبون في الأرض” سبع مرات.

سافر كل من مالكوم إكس، وإرنستو “تشي جيفارا”، ونيلسون مانديلا إلى الجزائر المستقلة، التي برزت كمركز للوحدة الأفريقية والعالمية. وصرح باولو فريري بأنه اضطر إلى إعادة كتابة كتابه، “تعليم المقهورين”، بعد قراءة “المعذبون في الأرض”. ويناقش حمزة حموشين، رئيس حملة التضامن الجزائري التي تتخذ من لندن مقراً لها، في مقال له ما يعده مساهمات فانون الفريدة في فهم القومية والبرجوازية الوطنية والثقافة السياسية والعالمية، من بين مواضيع أخرى.

كان أكثر من طبيب

من المهم التأكيد أن فانون كان أكثر من مجرد طبيب وكاتب. في كلمة له إلى جانب قبر فانون، أكد نائب رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، كريم بلقاسم، الأدوار المتنوعة لفانون في الحرب الشاملة التي خاضتها “جبهة التحرير الوطني”. ابتداءً من العام 1954، عمل فانون ككاتب ومحرر وناشر دعائي في الدوريتين اللتين كانت تصدرهما جبهة التحرير الوطني: “المقاومة الجزائرية” و”المجاهد”. كما كان باحثًا؛ ومحاضراً؛ وممثلاً لجبهة التحرير الوطني في غانا وإثيوبيا ومالي وغينيا والكونغو؛ فضلا عن عمله كمناضل سري.

بعد النظر في أعمال كارل ماركس، وستيف بيكو، وسيدريك روبنسون، وسيلفيا وينتر وأمثلة أخرى من الثوريين/ المثقفين، كتب “معهد تريوكونتيننتال للبحوث الاجتماعية” تحية تقدير وإجلال لفانون على كيفية تجسيده العملي للمفكر الراديكالي أو العضوي. وكتب المعهد: “لن يتشكل العالم إلا من خلال الرؤى الأكثر قيمة للكفاح الفلسفي، عندما تصبح الفلسفة نفسها دنيوية من خلال المشاركة في النضال”.

نجا فانون من محاولة اغتيال، وتجربة المنفى في تونس، وكان يصارع مرضاً مُعيقاً رفض الحديث عنه، لكنه أودى بحياته في نهاية المطاف. وبينما يدرك أنه كان يحتضر، تعهد فانون: “لن أتوقف عن أنشطتي بينما ما تزال الجزائر تواصل الكفاح، وسأواصل مهمتي حتى يوم وفاتي”.(7)

اليوم، من الضروري أكثر من أي وقت مضى دراسة فانون لفهم الضرر النفسي والعاطفي والروحي الذي ألحقه الاستعمار الجديد بشعوب إفريقيا والأميركتين وآسيا، وما أشار إليه “الفهود السود” على أنه المستعمرات الداخلية للولايات المتحدة. وما تزال الأفكار التي خلُص إليها فانون في كتابه “المعذبون في الأرض” حول التحرر الأفريقي والإنساني تتمتع بالصلاحية نفسها بعد ستة عقود:

“دعونا لا نضع الوقت في الابتهالات العقيمة والمحاكاة المقززة. اتركوا هذه الأوروبا [والولايات المتحدة الأميركية]، حيث لا يملون أبدًا من التحدث عن الإنسان، ومع ذلك يقتلون الناس في كل مكان يجدونهم فيه، في كل زاوية من شوارعهم، وفي جميع زوايا العالم”.

Danny Shaw: أستاذ دراسات الكاريبي وأميركا اللاتينية بجامعة مدينة نيويورك. وكثيرا ما يسافر في منطقة الأميركتين. وهو زميل بحث أول في مركز شؤون نصف الكرة الغربي، ويجيد داني لغة الكريول الهاييتية، والإسبانية، والبرتغالية، وكريولو الرأس الأخضر.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Frantz Fanon Lives! 60 Years After His Death, Fanon’s Ideas Remain the Weapons of the Oppressed

المراجع:

1 Fanon, Frantz. Toward the African Revolution. New York: Grove Press. 1964.

2 Fanon, Frantz. Toward the African Revolution. New York: Grove Press. 1964.

3 Fanon, Frantz. A Dying Colonialism. New York: Grove Press. 1965.

4 Macey, David. Frantz Fanon: A Biography. London and New York: Verso. 2012.

5 Macey, David. Frantz Fanon: A Biography. London and New York: Verso. 2012.

6 Seale, Bobby. Seize the Time: The Story of The Black Panther Party and Huey P. Newton. Random House: 1970.

7 Macey, David. Frantz Fanon: A Biography. London and New York: Verso. 2012.

هوامش المترجم:

*موميا أبو جمال Mumia Abu-Jamal‏ صحفي ومناضل أميركي أفريقي ولد باسم ويسلي كوك في 24 نيسان (ابريل) 1954 في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا الأميركية. حكم عليه بالإعدام سنة 1982 بعد اتهامه بقتل شرطي من شرطة مدينة فيلادلفيا يدعى “دانيل فوكنر”، وأعقب ذلك حراك دولي يطالب بإطلاق سراحه أو إعادة محاكمته. ويعد من أيقونات مناهضة عقوبة الإعدام في العالم.

*هيوي بيرسي نيوتن Huey Percy Newton‏: (17 شباط (فبراير) 1942 – 22 آب (أغسطس) 1989)، ناشط سياسي وحقوقي في مجال المساواة بين السود والبيض في الولايات المتحدة، وأحد مؤسسي حركة “الفهود لسود”. خاض نضالاً مريراً حتى أتم تعليمه وحاز على درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، وسجن بتهمة القتل غير العمد واتهم بالتورط بمقتل ضابط شرطة أميركي، اغتاله ناشط متطرف من أسرة العصابات السود في العام 1989. اشتهر بكونه من دعاة الدفاع عن النفس وإقامة دولة فلسطينية.

*باولو ريجلوس نيفيس فريري Paulo Freire: معلم برازيلي وصاحب نظريات ذات تأثير كبير في مجال التعليم. ولد في أسرة من الطبقة المتوسطة الفقيرة بمدينة ريسيف، البرازيل في 19 أيلول (سبتمبر) 1921. واختبر فيراري الفقر والجوع خلال الكساد الكبير الذي حدث في العام 1929. وكانت هذه التجربة بداية اهتمامه بالفقراء وساعدته على تكوين رؤيته للتعليم التي خرجت فيما بعد في صورة نظريات ذات تأثير عالمي واسع. نشر في العام 1967 أول مؤلفاته “التعليم ممارسة للحرية” الذي حظي بقبول جيد، وعُرض على فريري منصب مدرس زائر بجامعة هارفارد في العام 1969. وفي العام 1968 كتب كتابه الشهير “تعليم المقهوريين” الذي نُشر باللغتين، الإنجليزية والإسبانية، في العام 1970.

المصدر: الغد الأردنية/(نحو الحرية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى