قد لا نعثر على حكاية أخرى تشبه حكاية الشعب السوري كما هي لدى الفلسطيني. فكلاهما عانى مآسي التهجير والتشريد، التي أفضت بدورها إلى مشكلات لاحقة تعلقت بهوية وبمصير كل منهما، فألقت هذه المشكلات بثقلها على اللغة الأدبية والسياسيّة. لذلك فليس بمستغرب أن يكون لكلا الشعبين شجرة مفاهيمية دقيقة، موازية لحساسية الألم والقلق، ومتوترة تجاه ما يمكن أن تنتجه المتغيّرات السياسيّة من مفارقات عند كل منعطف خطير من تاريخ القضيّة!
من تلك المفارقات المفاهيميّة شديدة الحساسيّة، بالنسبة إلى الفلسطيني، الفارق بين معنى: (تهجير الفلسطينيين من أرضهم)، وبين معنى: (هجرة الفلسطينيين وطنهم)، إذ إنّ بين المعنيين حقل ألغام يجتازه الفلسطيني منفرداً عند كل خطأ لغوي، أو هفوة سياسية، لجهة ما تتحدّث باسم قضيّته الفلسطينيّة!
ولعلها الحالة ذاتها بالنسبة إلى الشعب السوري، فليس الفرق بين الثورة، وبين المؤامرة، أمراً عابراً، بل إنّ ما يترتب على تلك المفاهيم من تبعاتٍ كفيل بترك أثر بالغ على وجود الإنسان السوري وعلى شكل مصيره المقبل!
وقد يختلف التأريخ السياسي عن التأريخ الأدبي في أن الأول مُعرّض للتحريف بما تقتضيه مصلحة المنتصر، أما الثاني فهو توثيق للحساسيّات وللميول، وغالباً ما ينبعث الصدق الفني فيه من صدق وجداني تجاه الحدث، لذلك فإنّ ما تُهمل كتابته كتاريخ سياسي ربّما يمكن ترصّده في نص أدبي مواز.
محمود درويش المواطن والمهجّر والمثقف والسياسي، تمكن -إلى حدٍّ كبيرٍ- من تمثّل القضيّة الفلسطينية واقعيّاً، ومن ثم فإن تتبّع تلك المعاني في شعره أمرٌ مشروعٌ، بل ربّما يمكن اعتبار تلك المعاني تاريخاً موازياً تكاد حقائقه الفنّيّة أن تنطق بالحقائق السياسيّة المسكوت عنها.
وفي حين بدأت نكبة الشعب الفلسطيني في (1948)، العام ذاته الذي جاء فيه الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان، وفي زمان شهد أوج صعود أفكار القومية العربية، فقد ساهم ذلك في تلقّي الفلسطيني، بداية الأمر، تعاطفاً، بدا مقبولاً، من المجتمع الدولي، ومن الإيديولوجيتين: الإسلامية والقومية العربيّة بل ومن الشيوعيّة:
(سجّل أنا عربي
أبي من أسرة المحراث..) قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 1963.
ربّما تمكنت مفارقات ذلك الـ (زمن الرومنسي) من أن تمنح الفلسطيني روحاً حالمة قادّرة على نكران واقع تهجيره، فحمل الفلسطيني -قبل مغادرة داره- بقجة صغيرة، وحرص على أخذ مفتاح بيته، واثقاً من العودة إلى البيت بعد وقت قصير. وكلّما طال على الفلسطيني الأمل، تمسّك بحلمه، وصار المفتاح رمز الحكاية وجزءاً من التركة التي يوصي بها كبير العائلة لأحفاده.
غالبا ما يُهوّن الأمل من مسألة (المؤقّت)، إضافة إلى أن خطاب القوميّة العربيّة، في ذلك الوقت، كان مسكّنا فعّالاً، قبل أن تبدأ معاناة المهجّر الفلسطيني مع إخوته العرب، إثر التصادم بين المسألتين الوطنية والقوميّة، وبدءاً من الأردن الذي ارتأت مصالحه الوطنية أن يوقع على اتفاقية (روجرز) عام 1970 فأسفر ذلك عن صدامات بين الحكومة الأردنيّة والمنظمات الفلسطينية الرافضة لتوقيع الأردن على الاتفاقيّة، ثمّ الوقوع في أحداث ما سمّي بأيلول الأسود.. وصولا إلى أحداث السبت الأسود 1976 في بيروت/ لبنان بعد تهجير المقاومة الفلسطينية من الأردن إليه، وما تلا ذلك السبت من مجازر ارتكبتها قوات الكتائب اللبنانية -المتحيزة للشعور الوطني- في حق اللاجئين الفلسطينيين في: (الكرنتينة ومخيم تل الزعتر) شمال شرقي بيروت، إذ سقط المخيم بعد حصار وتجويع، ثم بعد وقيعة بالفلسطينيين ذهب ضحيتها عشرات الآلاف منهم فيما بدا لمحمود درويش أنه تواطؤ عربي..:
(أنا أحمدُ العربيُّ فليأتِ الحصارْ…
وأعُدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحثُ عن حدود أصابعي
فأرى العواصَم كلّها زَبَدَا ..)
بين (أردنة) الأردن إثر أحداث 1970 و(لبننة) لبنان وقع الفلسطيني في مأزق هويته المقاومة بين الوطنية الفلسطينية المُحتلّة وبين الأمة المنشودة يقول:
(كلّما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبةِ
فالتجأتُ إلى رصيف الحلم والأشعار).
ظلت القضية الفلسطينية ورقة سياسية خاضعة لتجاذبات الأنظمة العربية، سواء تلك الباحثة عن مصالحها عبر الالتحاق بالمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، أو بالغربي بزعامة أميركا، فكان على الفلسطيني، كل مرّة، أن يراعي مصالح المعسكرين ومصالح الأنظمة ولم يتبق له من قضيته إلا التهجير والألم!
بعد حصار القوات الإسرائيلية لبيروت عام 1982 أذنَ المحتل للكتائب اللبنانية الدخول إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في (صبرا وشاتيلا)، وارتكاب مجازر مروعة، فيما اقتصر دور المجتمعين الدولي والعربي على ضمان هدنة تُخرِجُ المقاومة الفلسطينية من بيروت، لتتشتت بين العواصم الكثيرة، الأمر الذي جعل محمود درويش يعلن عن سقوط الإيديولوجيات فـ (الإيديولوجيات مهنة البوليس في الدول القوية)!
بعد تهجير المقاومة عن لبنان تأزمت هوية الحلم، عند درويش، لتقتصر على أم واحدة وآباء متعدّدين، في إشارة إلى مأزق الانتماء كما في قصيدته (مديح الظل العالي):
(هي هجرةٌ أُخرى إلى ما لستُ أَعرفُ…
كمْ كُنْتَ وحدك، يا ابن أُمِّي
يا ابنَ أكثر من أبٍ
كم كُنْتَ وحدكْ!)
في حين منح زمن الإيديولوجيات الحداثيّة الفلسطيني بعض الرومنسية، فقد طغت الواقعيّة على عصر ما بعد حداثي انتهى إليه درويش وبدأت به ثورة الشعب السوري عام 2011!
لم تدم رومنسيّة الشعب السوري طويلاً، فالقتل والقصف والمذابح والتهجير لم تكن بأيدي عدو غريب، بل كانت على يد النظام الحاكم للبلاد ذاته!
لم يخرج السوريون إلى بلاد اللجوء فقط، بل جاءت الإيديولوجيات لتتصارع فوق رؤوس من لم يسعفهم الحظ للهرب من النظام المجرم إلى خارج البلاد!
الواقعيّة جعلت من (المؤقت) أمرا باعثاً على القلق لدى السوريين: إيقاف مؤقت لإطلاق النار، ومساعدات الإنسانيّة مرهونة بتفاهمات مؤقته، وبطاقة حماية مؤقتة، وحكومة مؤقتة، ومدارس خاضعة لنظام تعليم مؤقت، كل هذا المؤقت يدفع السوري إلى قلق وجودي منذ اللحظة الأولى لتهجيره!
الواقعية دفعت السوري إلى حمل حقيبة منزليّة صغيرة، جمع فيها، على عجالة، بعضا من ألبسة الأطفال ثمّ غادر بيته، ولم يهتمّ لأخذ مفتاح البيت.. والواقعيّة، غالبا، مكنت السوري -عيانا أو من خلال الوسائل الإلكترونية – من رؤية بيته مدمّرا أو محتلّاً من قبل آخرين!
احتاج محمود درويش إلى نحو (35) عاما من الرومنسيّة ليقول في قصيدته (مديح الظل العالي):
(وطني حقيبة وحقيبتي وَطَنُ الغَجَرْ…
شعبٌ يُفَتِّشُ عن مكانْ
بين الشظايا والمطر)
في حين لم تمنح الواقعيّة السوري وقتاً طويلاً لخيال أقلّ ألماً من الحقيقة، فغدا الوقت، مأزوماً وضيِّقاً باستمرار، كحقيبته المنزليّة المتواضعة، التي حاولت المنظمات الدولية أن تغيّرها بأخرى أكثر اتساعاً، تحمل شعار مفوضية الأمم المتحدة: UNHCR.
العودة حلم الفلسطيني، في حين لا يزال السوريون يحلمون بالهرب من الوطن، ومن تمكن من الهرب لا يحلم بالعودة.. فسوريّا ليست بلدا آمنا لعودة اللاجئين إليه كما جاء في تقرير منظمة العفو الدولية الصادر مؤخرا.
المفتاح في المنام بشرى خير، ويشير إلى العودة: يقول لاجئ فلسطيني لآخر.. فتنفرج أسارير وجهين.
الحقيبة، في المنام، لا تبشّر بالاستقرار، لكنّها لا تشير إلى العودة.. يقول لاجئ سوري يحاول طمأنة آخر استيقظ لتوّه من كابوس عودته إلى حضن النظام!
المصدر: تلفزيون سوريا