يتوجّه قسم كبير من جمهور الثورة السورية بالنقد الشديد إلى القوى السياسية التقليدية المعارضة لنظام الأسد (الأحزاب والتجمعات والشخصيات الوطنية التي وُجدت قبل عام 2011)، بسبب عدم قدرتها على توجيه وقيادة الحراك الثوري منذ انطلاقته في آذار 2011، بل يذهب كثيرون إلى أن ثورة السوريين كانت منعطفاً فاضحاً لعجز المعارضة التقليدية، ليس عن قيادة الحراك الميداني الشعبي فحسب، بل لقصورها الفكري والسياسي الذي لم يجسّد رافداً نوعياً لانتفاضة السوريين سواءٌ من ناحية إدارة المواجهة سياسياً مع نظام الأسد، أو من ناحية القدرة على اجتراح الحلول، أو من ناحية الدفاع عن القضية السورية أمام المجتمع الدولي، أو من جهة بناء كيان سياسي موحّد يحظى بقبول جمهور الثورة، بل ربما ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، إذ اتهم تلك القوى بأنها باتت عبئاً على الثورة، وبات وجودها في بعض الأجسام الثورية عاملاً معيقاً وباعثاً على الإرباك أكثر من كونه فاعلاً إيجابياً.
ولئن اتفق كثيرون على التوصيف السابق، كونه ينبثق من جملة من الوقائع التي شهدها مسار الثورة، إلّا أن الاختلاف يبقى قائماً أيضاً لدى كثيرين حول أسباب وبواعث الشلل الذي جعل المعارضة السياسية التقليدية محشورة في حيّز الدفاع عن الذات أحياناً، والتستّر خلف مبررات إخفاقاتها أحياناً أخرى. وأيّاً كانت الحال، فلا تسعى هذه المقالة للبحث في أسباب إخفاقات المعارضة السورية التقليدية، كما لا تسعى إلى استخلاص حكمٍ قيميٍّ على أدّائها عبر مسارها الذي يعود إلى عقود من الزمن، إنما تهدف بالدرجة الأولى إلى بيان مسألتين اثنتين؛ تتمثّل الأولى بالموقف النقدي العام المشار إليه في البداية، إذ لم يبق النقد الموجَّه إلى المعارضة التقليدية مؤطّراً ضمن تخوم محدّدة، تحافظ على قيمته ومصداقيته، وتمنحه الفرصة ليكون مدخلاً مناسباً لإجراء مراجعات نقدية مُعمّقة ليست الغاية منها نقد المعارضة فحسب، بل الاستفادة منها فيما يخص راهن العمل الوطني ومستقبله، لكن المؤسف حقاً أن يتحوّل هذا الموقف من نقد معرفي وسياسي واجتماعي لعمل وأدّاء القوى السياسية التقليدية إلى حديث عام يختلط فيه ما هو سياسي بما هو أخلاقي أو قيمي، بل ربما جعل البعض من مآخذه على المعارضة التقليدية مشجباً يعلق عليه جميع إخفاقات وكبوات الثورة السورية، وهذا موقف –بلا شك– يفتقر إلى الموضوعية، بل ويخرج من إطار النقد والمراجعة، ويدخل في حيّز التشويش والغوغائية في كثير من الأحيان، بهدف التشطيب على إرث نضالي سوري، فيه كثير من الأخطاء، ولكن فيه كثير -أيضاً– ممّا يمكن البناء عليه.
ما لا يحتاج إلى مزيد من الكلام، هو أن بداية عقد الثمانينيات من القرن المنصرم حملت البوادر الأولى لشراسة السلطة الأسدية التي سرعان ما تحوّلت إلى منهج قائم على القتل والتنكيل والسجن الذي يمتد إلى سنوات، بل إلى عقود، مستهدفاً أي حراك سياسي سوري في مواجهة السلطة، وكان اعتماد هذا المنهج إيذاناً بحرب إبادة تشنها السلطة، ليس لتجريف السياسة أو تجفيفها من المجتمع فحسب، بل لممارسة مزيد من الإذلال والإهانة وتشديد الخناق الصارم على جميع أشكال النزوع الإنساني المنتمي إلى كفاح الضمير والحرية والكرامة.
ما يعلمه جميع السوريين الذين عايشوا تلك المرحلة، أن العمل السياسي المعارض آنذاك، بات ضرباً من المغامرة بالأرواح والأجساد، إذ ليس ثمة حلول وسط، بين قوى سياسية لا تحمل سوى الكلمة والرأي، وبين الجيش وأجهزة المخابرات المزوّدة بكل صلاحيات التنكيل، ابتداءً من السجن إلى أجل غير مسمى (التوقيف العرفي المفتوح) وانتهاء بالتصفيات الجسدية، سواء تحت التعذيب في فروع المخابرات، أو في السجون أمام المحاكم الميدانية والاستثنائية، وفي تلك الظروف آثرت مجموعة من الأحزاب والقوى السورية الصغيرة أن تختار خندق المواجهة، في حين آثر بعضها الآخر الانكفاء تحاشياً لبطش السلطة، في حين مضت أحزاب أخرى إلى التماهي مع السلطة المتوحّشة، لعلنا لا نحتاج إلى مزيد من التفكير لندرك أن النتيجة التي ينتظرها أيّ عاقل –في ظل موازين غير متكافئة بالمطلق– لم تكن سوى انتصار ساحق لآلة التوحّش الأسدي، إذ يمكن التأكيد على أن نظام الأسد استطاع خلال الفترة الممتدة من 1980– 1992 استئصال معظم قوى المعارضة، سواء بالسجن أو التشريد خارج البلاد أو التصفيات الجسدية، ولا ننسى الإشارة إلى أن معظم المعتقلين أو الناجين من المقتلة الأسدية آنذاك، كانوا يخرجون إلى سجن أكبر، فيه كثير من المعاناة التي لا حصر لمفرداتها.
وتتمثّل المسألة الثانية في أن الهزيمة التي مُنيت بها المعارضة التقليدية هي هزيمة سياسية ونفسية فرضتها حيازة القوة وآلة البطش التي يمتلكها نظام الأسد، لكنها لم تكن هزيمة أخلاقية كما أراد لها النظام ذاته، وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل مواجهات مشهودة عديدة بين أجهزة أمن النظام ومحاكمه وبين العديد من القوى ممثلة بمعتقليها، كانت إحدى أشهر تلك المواجهات تلك التي شهدتها محكمة أمن الدولة الاستثنائية في الفترة الواقعة ما بين 1992– 1995، إذ أقدم النظام على تقديم (600) معتقل من قوى سياسية معظمها يسارية (شيوعيون وقوميون) إلى محكمة أمن الدولة، إذ لم تكن تلك المحاكم سوى فرصة أخرى لانتقام السلطة من خصومها، فضلاً عن أن الأحكام التي انبثقت عن تلك المحاكمات كانت مُعدّة مسبقاً بتصميم أمني مخابراتي وليست منبثقة عن أي معايير شرعية قانونية سليمة، وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت وقائع تلك المحاكمات تسير على خلاف ما أراده النظام، إذّ أبدى معظم المعتقلين الذين قُدّموا لتلك المحاكم مواقف صلبة ومشرّفة، حين أصروا على إدانة نظام الإجرام ورفضهم لشرعية محاكمه كونها منبثقة عن نظام استبدادي لا يستمد مشروعيته سوى من وسائل القتل والتنكيل والسجون التي بحوزته، وربما كان من غير المتوقع آنذاك، أن تصدر تلك المواقف من معتقلين أمضوا سنوات من أعمارهم في السجون قبل أن يُحالوا إلى تلك المحاكم الهزلية.
لعله من المؤكّد أن معظم المعتقلين آنذاك، كانوا يدركون أن السنوات التي ستُضاف إلى فترة اعتقالهم بسبب صلابة موقفهم في تلك المواجهات لن تؤدي إلى نصر سياسي أو ميداني لعموم السوريين، ولكن ربما الوازع الأخلاقي يوجب أن تبقى ثمة أصوات ترتفع بوجه الطغاة مؤكّدة أن همجية الطغيان مهما بلغت من القوة، فإنها لن تستطيع أن تعدم الحق.
بالتأكيد، إن المُنتَج السياسي للمعارضة التقليدية لا يوازي أبداً مقدار التضحيات العظيمة التي قدمتها، كما أنه يصح القول: إن نظام الأسد استطاع سحقها، كما استطاع أن يحول بينها وبين أي امتداد شعبي متجذّر لها في المجتمع السوري، ولكن ما هو مؤكّد أيضاً، أن تلك المعارضة، ولئن لم تتمكن من أن تراكم إرثاً سياسياً يمكّنها من الحضور الفاعل في مشهد ما بعد الثورة، إلّا أنها استطاعت أن تراكم مُنجزاً أخلاقيا أو قيمياً، وأعني بذلك التأسيس لوجود ضمير مقاوم، يرفض الانصياع والاستسلام مهما بلغت سطوة السلطات الغاشمة من القوة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا