يتطلع الليبيون بترقُب وحيرة إلى ما بعد 12 يوما من غلق باب الترشُح للانتخابات الرئاسية، الاثنين الماضي، إذ أن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات ستُعلن عن القائمة النهائية للمُرشحين الذين استجابت ملفاتهم للشروط القانونية. وتلقت المفوضية 98 طلبا للترشح من بينها سيدتان، واحدة من طرابلس هنيدة محمد المهدي، والثانية ليلى بن خليفة من مدينة زوارة، ذات الغالبية الأمازيغية. وبعد الإعلان عن رفض 25 ترشُحا من بينها ترشُح سيف الاسلام الإبن الثاني لمعمر القذافي، الذي صدرت في شأنه أحكام نهائية من القضاءين الليبي والدولي، سيكون الليبيون بانتظار قرار المفوضية في شأن قبول طعون باقي المرشحين المرفوضين أو استبعادهم نهائيا.
ومن الواضح أن إجازة طلبات وإسقاط أخرى كانا مبنيين على تفاهمات سياسية أكثر مما اعتمدا على القانون الانتخابي. ومن مظاهر ذلك قبول ملف ترشُح رئيس الحكومة المؤقتة، بالرغم من أنه لم يستقل من منصبه قبل تسعين يوما من ميقات الانتخابات، المقررة للرابع والعشرين من الشهر المقبل، مثلما يقتضي ذلك القانون. كما قبلت المفوضية أيضا ترشُح اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، في مخالفة واضحة لبنود القانون الانتخابي.
وطعن مرشحون كُثر في قانون الانتخابات الرئاسية، مؤكدين أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وهو من ضمن المُرشحين للرئاسة، سن القانون من دون عرضه على المناقشة والتصويت في المجلس، كما لم يستشر في شأنه المجلس الأعلى للدولة، بعكس ما نص عليه الاتفاق السياسي. وقد يكون رفضُ بعض الترشُحات، مثل سيف الاسلام، منطلقا لتمرد سياسي وعسكري يرمي لإفساد العملية الانتخابية برمتها، وهو ما انفكت تحذر منه الأطراف الدولية المتابعة للوضع الليبي، بمن فيهم مجلس الأمن الذي خصص اجتماعين الأربعاء والخميس الماضيين للوضع في ليبيا، مُتوعدا معرقلي الانتخابات من دون أن يُسميهم.
وبالرغم من أن عملية الترشُحات، التي انطلقت في الثامن من الشهر الجاري، وانتهت الاثنين الماضي، سارت بسلاسة وفي كنف الاستقرار والأمن، اللذين افتقدهما الليبيون منذ سنوات، ظلت هناك مخاوف من المستقبل، وخاصة من انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار، الذي توصل له الفرقاء، بدعم من الأمم المتحدة، في الثالث والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر من العام الماضي. ويقول خبراء إن الحملات الانتخابية للمرشحين، وكذلك عمليات الاقتراع، ستجابه صعوبات، إذ أن بعض المرشحين لن يتسنى لهم التواصل مع الناخبين في المنطقة الشرقية، التي يحكمها اللواء حفتر بقبضة من حديد، كما أن حفتر وآخرين من المنطقة الشرقية لن يستطيعوا قيادة حملات انتخابية في المنطقة الغربية، لأن أسر القتلى في المعارك التي فتحها اللواء المتقاعد، تتوعده بالانتقام لأبنائها.
أكثر من ذلك، أفادت أوساط ليبية عليمة أن الموفد الأممي الخاص إلى ليبيا يان كوبيش لم يُقدم على الاستقالة من منصبه في هذه الفترة الدقيقة، إلا بعد ما أيقن أن نتائج الانتخابات قد تقود إلى انقسام أسوأ من السابق. وأوضحت أنه اجتمع مع قادة عسكريين من المنطقة الغربية، وأفهموه أن فوز حفتر أو سيف الاسلام بالانتخابات سيكون نتيجة غير مقبولة، وهو ما حمله على الاستقالة، خشية الفشل المُحقق. ولو كان كوبيش معتقدا، وإن بنسبة ضئيلة، أنه سينتصر في رهانه على نجاح الانتخابات، لما ترك هذه الفرصة تضيع منه، لتحقيق إنجاز دبلوماسي كبير.
مع ذلك يُستشف من تجاوب الليبيين مع عملية التسجيل وكثافة تسلم البطاقات أنهم يُعلقون آمالا كبيرة على الاستحقاق الانتخابي، إذ أكد رئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السايح أن 1.7 مليون بطاقة ناخب تم سحبها، من أصل 2.8 مليون بطاقة مُعدة للتوزيع، أي أكثر من 60 في المئة، وهي نسبة مرتفعة بالنظر للأوضاع الاستثنائية في عدة مناطق، وبينها الجنوب، حيث انهارت مؤسسات الدولة. وسيستمر توزيع البطاقات حتى اليوم الأحد، مع العلم أن العدد الإجمالي لسكان ليبيا يصل إلى قرابة 7 ملايين ساكن. أما على مسار الانتخابات النيابية فتستمر عمليات التسجيل إلى السادس من الشهر المقبل، فيما بلغ عدد المُرشحين للانتخابات البرلمانية أكثر من 1700 مُرشح. والأرجح أن هذه الأخيرة ستتم في يناير/كانون الثاني المقبل، إذا ما سارت الأمور طبقا للمراحل المُقررة في خارطة الطريق، المنبثقة من مؤتمري برلين 1 و2.
هل يُعيدها حفتر؟
وإذا ما نجح الاستحقاقان الانتخابيان ستعرف ليبيا للمرة الأولى في تاريخها رئيساً عبر الاقتراع المباشر. لكن السيناريو الآخر ليس مُستبعدا تماما، إذ أن العارفين باللواء حفتر، الذي سبق أن زحف على العاصمة طرابلس، وكان على قاب قوسين من الاستيلاء عليها، لو لم توقفه الطائرات المُسيرة التركية، سيُعيد الكرة ربما بطريقة مختلفة. لذا يمكن القول إن مدى رضا الفرقاء بنتائج صندوق الاقتراع، هو العنصر المحدد في نجاح المسار الانتخابي أو انتكاسه، خصوصا أن غالبية المرشحين البارزين متحالفون مع قوى دولية مؤثرة في مصير البلد، وهي تلعب دورا كبيرا أحيانا في القرار. وقد لعبت فعلا دورا مُوجها في رفض طلب الترشيح الذي تقدم به سيف الاسلام القذافي في مكتب المفوضية بمدينة سبها (جنوب).
سباق على النفوذ الإقليمي
وبعد ما كانت ليبيا مصدر تجاذبات بين تلك القوى الدولية، محورها الأساسي ثروات البلد من النفط والغاز، انضافت إلى ذلك في السنوات الأخيرة، أهداف جيوستراتيجية تتعلق بالنفوذ في منطقة الساحل والصحراء، الغنية أيضا بالثروات الطبيعية. وتتبوأ ليبيا مكانة محورية في هذا السباق على النفوذ بحكم موقعها الاستراتيجي، الرابط بين سواحل المتوسط شمالا ومنطقة الساحل جنوبا، حيث تملك حدودا مشتركة من الجنوب والشرق مع أربعة بلدان هي النيجر وتشاد والسودان ومصر، ما يجعلها طرفا مهما في صنع الأمن والاستقرار في المنطقة، أو على العكس مصدرا للاضطرابات، إذا ما كانت أوضاعها الداخلية غير مستقرة. وبعدما كان هذا التسابق على مراكز النفوذ والثروة في ليبيا مُقتصرا على القوى الغربية، وفي مقدمها فرنسا وإيطاليا، لعقود طويلة، دخل لاعبون جدد منهم روسيا وتركيا، إلى الملعب الليبي، وحصلوا على مساحات نفوذ في المربع التقليدي لفرنسا، مثل دخول عناصر الشركة الأمنية الروسية «فاغنر» إلى كل من مالي وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، للحلول محل القوات الفرنسية المنسحبة من المنطقة.
بهذا المعنى يُعتقد أن صندوق الانتخابات هو الذي سيُحدد علاقة القوة بين الفرقاء الدوليين، بحسب هوية الفائز، وإن كان الفرنسيون يستبقون الآخرين بتوسعة استثماراتهم باستمرار في قطاع النفط والغاز الليبيين منذ 2018. كما تعتزم المجموعة الفرنسية دعم معاودة بناء حقل المبروك الذي تضرر من المعارك في العام 2014 من أجل الوصول بإنتاجه إلى 40 ألف برميل في اليوم، مع زيادة قدراته من إنتاج الكهرباء بواسطة الطاقة الشمسية إلى 500 ميغاويت.
وتسعى ليبيا لاستقطاب استثمارات جديدة بُغية زيادة إنتاجها من النفط، وتجاوز حاجز المليوني برميل يوميا، مع بداية العام 2025 بعد ما أعفتها «منظمة البلدان المصدرة للنفط» من تسقيف إنتاجها. وفي السياق ستشتري مجموعة «توتال إينرجيز» الفرنسية حصص الشركة الأمريكية «هيس كوربوريشن» في حقل الواحة الليبي، بالاشتراك مع الشركة الأمريكية الأخرى «كونوكو فليبس». وأوضح رئيس مجلس إدارة «توتال» باتريك بوياناي أن مجموعته ستستثمر ملياري دولار في تطوير الحقل، من أجل زيادة حجم الإنتاج بـ100 ألف برميل في اليوم، ستُضاف إلى الـ300 ألف الحالية. ويُعتبر هذا الاستثمار سياسيا لأن المجموعات النفطية العالمية في حالة انتظار لمآلات الوضع في ليبيا، بينما أكد رئيس «توتال» أنه يرى فرصا جيدة للاستثمار حيث يرى الآخرون مُجازفة غير مضمونة النتائج.
تقرير دولي
والجدير بالملاحظة أن «توتال» سبق أن اشترت في العام 2018 حصة مجموعة «ماراثون أويل» الأمريكية في حقل الواحة، بـ450 مليون دولار، ما قد يدلُ على أن المجموعات الأمريكية تنسحب تدريجا من ليبيا، فيما تحل محلها مجموعتا «توتال» الفرنسية (التي تستثمر أيضا حقول مبروك والشرارة والجرف) و»إيني» الايطالية.
وكشف تقرير دولي عن أهم خمسة شركاء أجانب مستحوذين على غالبية الاستثمارات في قطاع المحروقات الليبي، تشمل إيطاليا وفرنسا وهولندا والنرويج وأمريكا. وأظهر أن الولايات المتحدة ما زالت تلعب دورًا أساسيًا في قطاع الطاقة في ليبيا، لا سيما وأن حكومة الوحدة الوطنية تبذل جهودًا قوية لإشراك الجهات الفاعلة في القطاع الخاص، بُغية توسيع قدرتها على توليد الطاقة وتوزيعها ونقلها، ففي أيلول/سبتمبر 2019 وقعت مجموعة «جنرال إلكتريك» مذكرة تفاهم مع ليبيا لزيادة قدرة التوليد بمقدار 6000 ميغاويت على مدى السنوات الخمس المقبلة.
أوضاع هشة
وسيحتاج الحكام الجدد في ليبيا إلى أموال كثيرة لإرجاع الأوضاع إلى حالتها الطبيعية وإطلاق حملة إعادة الإعمار، فالحرب الأهلية خلفت 392 ألف مُهجر، ومليون شخص بحاجة إلى مساعدة، فضلا عن 43.000 قتيل. وفي تصنيف أعده البنك الدولي عن الدول ذات الأوضاع الهشة والمتأثرة بالصراعات، أتت ليبيا في المقدمة. وحاول رئيس الحكومة المؤقتة والمرشح الرئاسي عبد الحميد دبيبة أن يستغل هذه الأوضاع المأسوية لإصلاح شبكتي الكهرباء والماء وتوفير السيولة في المصارف المحلية ومنح مساعدة للشباب سماها «منحة الزواج» ما رفع من شعبيته. لكن تلك النفقات لا تنبع من الميزانية ولا أحد يعرف كلفتها المالية.
المصدر: القدس العربي