مجدّداً، يؤكد العميد مناف طلاس (المنشق عن النظام السوري منذ عام 2012) أنّ الحلّ المتاح، وربما الوحيد في نظره القابل للتداول في الواقع السوري، تشكيل مجلس عسكري انتقالي، مهمته استعادة الاستقرار في سورية، ووضعها على عتبة التغيير السياسي. ومع أهمية الطرح الذي كان يمكن أن يكون متاحاً قبل سنوات عديدة، أي قبل تحول سورية إلى ساحة للصراع العسكري، بين النظام وفصائل مسلحة “محسوبة على المعارضة” ذات أجندات خارجية، كانت قد أزاحت فصائل الجيش الحر بذرة الثورة المسلحة، أو قبل تحولها إلى ساحة للتصارع على النفوذ بين أطراف دولية وإقليمية وبأذرع محلية على الجانبين، النظام والمعارضة.
وقبل مناقشة فكرة طلاس، في مشروعيتها أو جدواها، يجدر بي التأكيد أنه يُحسب للرجل، وهو العسكري، نأيه بنفسه عن النظام منذ اليوم الأول لتفجر الثورة السورية، بسبب معارضته الحلّ الأمني، ومحاولته، في مبادرةٍ شاركتُه فيها، بداية الثورة وقبل تحولاتها الاسمية والشكلية، فتح حوار مع المعارضة في بيتي في دمشق، لإيجاد مخرجٍ يحقق التغيير السياسي السلمي، الأمر الذي ما كان له أن يثمر بوجود قوى أمنية منتفعة من الحكم الأمني القمعي بذات درجة انتفاعها من انتشار الفوضى والاستثمار فيها في البلاد، ما حداه إلى مغادرة سورية.
إذاً، نحن إزاء فكرة تجد مشروعية تجديدها حلاً عند كل استعصاء معلن في الصراع السوري، ومن تحوّل البلد إلى ساحة متوزعة الولاء عسكرياً وسياسياً، وحال البؤس التي يعيشها السوريون في الداخل والخارج، لأسباب متفاوتة ومختلفة.
بيد أن المشروعية شيء، وهي، على أية حال، ليست مشروعية كاملة أو كافية، والمعقولية شيء آخر. ومثلاً، إذا كان هذا المجلس العسكري سيكون نتاج مقايضة أو تسوية بين النظام والمعارضة، كحال اللجنة الدستورية المشتركة، والمشكلة بقرار أممي في 23 سبتمبر/ أيلول 2019، فلا يوجد البتة ما يدعو إلى التفاؤل أو يؤيد ذلك بتجربة عشرة أعوام، وعشرات الجلسات التفاوضية، إذ لم يقدّم النظام أي شيء، بل ولم يعقد ولا جلسة واحدة جدّية مع وفود المعارضة، سواء في جنيف أو في أستانة أو في اللجنة الدستورية.
على ذلك، ما الجديد في هذه الدعوة، وإلى ماذا يستند طلاس في طرحه فكرته؟ الآن، على فرض أن النظام وافق على طرح كهذا فما هي القوة، أو من أين سيستمد المجلس العسكري المفترض قوته العسكرية، مع معرفتنا بطريقة عمل النظام، وأنه هو الوحيد الذي يمتلك القدرات والقوات العسكرية، ومع معرفتنا بهشاشة فصائل المعارضة وفوضويتها، وتوزع ولاءاتها؟
من ناحية أخرى، يبدو أن هذا الطرح يستند إلى الوهم ذاته الذي وقعت في إساره المعارضة، منذ عشرة أعوام، أن النظام الدولي سيجبر الأسد على التنازل، إلى هذه الدرجة أو تلك، لكن تلك مخاطرة أخرى، فليس في الأفق ما يشير إلى توجهٍ كهذا لدى الأطراف الخارجية لفرض أي نوع من الحلول لاستعادة الاستقرار إلى سورية، وبالأخص لا يوجد لدى الولايات المتحدة، وهي برأيي صاحبة القرار في هذا الشأن، أي توجّه في المدى المنظور لحسم الصراع في سورية. (يمكن مراجعة مقالتي في “العربي الجديد” “بين جمال سليمان ومناف طلاس” 15/2/2021).
في حال أخرى، أي في حال كان الطرح يتعلق بتشكيل مجلس انتقالي عسكري، كجهة معارضة، فهذا سيكون أكثر صعوبة وتعقيداً، إذ لا توجد تشكيلاتٌ عسكرية، بمعنى الكلمة، للمعارضة، والفصائل الموجودة ضعيفة التنظيم والتسليح، ولمعظمها ولاءات خارجية (بخاصة لتركيا). وبالتالي، لن يُعتدّ بهذا المجلس شعبياً، ولن يشكّل خشبة خلاص، ولا سيما في تجارب السوريين مع فصائل المعارضة العسكرية، وضمنه تجربتها في الإدارة في ما عرف بـ “المناطق المحرّرة”. الأهم من ذلك كله أنه لا توجد أطراف دولية تدعم هذا الطرح، بشكل جدّي. وإذا ذهبنا إلى مقاربة تاريخية، مثلاً، فللأسف ليس لدينا ديغول سوري، يحظى، بسبب سمعته ومواقفه، بما حظي به ديغول من الفرنسيين، وليس لدى السوريين حلفاء، مثلما كان لدى الفرنسيين إبّان حكم بيتان (الموالي لألمانية النازية)، بل عانى الشعب السوري كثيراً جرّاء تنكر ما سمي معسكر الدول “الصديقة” له.
أما إذا أردنا مناقشة هذا الطرح في تجارب الربيع العربي، فسنجد أنه لا توجد تجربة تؤيده، ففي معظم البلدان التي شهدت الثورات آلت الأمور إلى هيئات عسكرية أخذت بلدانها إلى عكس اتجاهات التطور الديمقراطي.
أخيراً، يبني طلاس فرضيته، أو أطروحته، على فشل السياسيين، وهو محقّ في تلك الحيثية. لكن يفترض به أن يفحص أسباب الفشل تلك، لأنها هي ذاتها ستؤدي إلى فشل أي مجلسٍ من نوع آخر، سواء كان أصحابه بملابس عسكرية، أو بملابس أكاديمية، أو بملابس محامين، أو بملابس أطباء أو عمّال أو طلاب أو فلاحين، إذ يعود السبب الأساسي إلى حرمان الشعب السوري السياسة، والنشاط الحزبي، وحرمانه حرية الرأي. كذلك فإن من أسباب ذلك الفشل احتكار النظام القوة، وتشكيله وحدات عسكرية على عقيدة “سورية الأسد إلى الأبد”، أي عقيدة حماية النظام. وبالتأكيد، من ضمن تلك الأسباب ارتهان القوى المهيمنة في المعارضة للأجندات الخارجية. ما يعني أن الأَولى بالجنرال طلاس، وغيره، من سياسيين وأكاديميين ومهنيين وعسكريين، شدّ الهمم باتجاه إيجاد منبر يعبّر عن السوريين، عن آمالهم وطموحاتهم، لعزل أي كيانٍ يعبّر عن أية أجندات أو ارتهانات خارجية، منبر يرون فيه أنفسهم، ويغذّون فيه الأمل بغدٍ أفضل لهم ولبلدهم،
ويتحدّث عن حلول واقعية ويتجاوز فكرة أن العسكر وحدهم مؤهلون وغيرهم لا، لأن المعارضة “الخارجية” جرّبت على قياس ذلك بنسب التأهيل والوطنية لنفسها فقط، وأبعدت كفاءاتٍ مدرّبة تحت ذريعة أنّهم بقايا نظام سابقاً، وقد اكتوينا جميعاً منها. ومع ما سبق، إن كان المجلس العسكري متاحاً تحت أيّ عنوان، لن يكون أسوأ مما هو الحال الآن.
المصدر: العربي الجديد